قول في معنى الجامعة
هي مصنع للنخب، إذن هي مصنع لإنتاج منتجي القوة، فالعلاقة الترابطية بين المعرفة والقوة لا تحتاج إلى شرح، هي مصنع لإنتاج النخب يعني أنها تؤسس لكل أشكال الإبداع. من بين هذه النخب يظهر عادة المبدعون. ولا ينفي ذلك ظهور عدد من المبدعين من خارج الجامعة لكن الاستثناء لا يلغي الحكم الكلي: إن الجامعة هي الحقل الذي ينمو فيه المبدعون ويخرجون إلى الحياة.
ناهيك عن أن الجامعة تحوز على هيبة اجتماعية تجعل للجامعيين في الوسط الاجتماعي مكانة معترفاً بها. لأنهم يمثلون رأسمال رمزيا لن يكون عرضة للكساد والتضخم والإفلاس.
الجامعة مصنع لإنتاج النخب يعني أنها مصنع لإنتاج المعارف التي تتحوّل إلى وسيلة لإنتاج المعارف بدورها التي تتحول إلى وسيلة لإنتاج المعارف وهكذا، المعارف التي تتوارثها الأجيال وتعميمها. مؤسسة بهذا القدر من الأهمية والخطورة وبهذا القدر من الوظيفة الكلية لا يمكن النظر إليها انطلاقاً من عقل بيروقراطي لا يرى فيها إلا هيئة مرتبطة بالإنتاج المادي لتوفير فرص العمل، وعندها يغدو سؤال دوائر التخطيط عن توفير فرص العمل للخريجين سؤالاً زائفاً بالنسبة إلى الجامعة.
سؤال الجامعة سؤال معرفي، سؤال العلم الذي يجب أن يتوافر للجميع، سؤال الإبداع، فما قيمة المجتمع بلا مبدعين، سؤال الدور الشامل الذي تلعبه الجامعة في المجتمع، سؤال عن هذه الفئة من النخب الأكاديمية في كل شؤون حياة البشر، عن دور هذه الفئة الشبابية المليئة بالطموحات وذات الروح المتوقد.
السؤال هو ماذا نصنع بالخريجين من الجامعة وليس سؤال الجامعة، كما لا يجب على أيّ مؤسسة أن تطرحه على الجامعة، كما لا يجب أن تستجيب الجامعة لمطلب العلاقة بين الجامعة والعمل.
الجامعة مصنع لإنتاج النخب، هذا التعريف المجرد للجامعة لا يتحقق إلا بوجود الجامعة المستقلة، المستقلة بمناهجها، باختيار أكاديمييها، باختيار طلابها، بميزانيتها، بإنتاج كتبها ومنشوراتها، بمؤتمراتها وندواتها، بمجلاتها، وبقوانينها.
ولقائل أن يقول: كيف للجامعة أن تحقق استقلالها إذا كانت مؤسسة حكومية؟ الجامعة سواء كانت حكومية أو غير حكومية تحافظ على دورها باستقلالها، لا فرق هنا بين الرأسمال الذي يضخ إلى الجامعة من الحكومة أو من رأس المال الخاص. بل إن رأس المال هو وسيلة لتحقيق استقلال الجامعة.
لماذا نطرح استقلال الجامعة بوصفها شخصية واعية لذاتها تفكر بنفسها، لأن أيّ مؤسسة من خارج الجامعة تفكر بالجامعة وتخضعها لها تقضي على الجامعة وبخاصة إذا كانت ذات أهداف لا علاقة لها بالجامعة، أهداف من خارج الجامعة، من خارج دورها الذي تحدثت عنه. استقلال الجامعة يعني أنها حرة وحقل أمثل لممارسة الحرية وعيها.
حرية الجامعة بوصفها شخصية واعية لذاتها هي ثمرة وعي الأستاذ والطالب معاً، وتطوير لوعي الأستاذ والطالب بالحرية.
فالفئة العمرية المنتسبة إلى الجامعة -أقصد الطلاب- هي الفئة التي باكتسابها الوعي والمعرفة تتحول إلى معقل مواجهة حقيقية للواقع.
ففي الجامعة تتحول السياسة إلى حركات طلابية، إلى حوارات، إلى مظاهرات إلى ندوات إلى انتماءات وبشكل مستمر. إذ أن كل جيل سيجد نفسه في حالة البدء من الممارسة التمردية، فهذه الأرواح الشابة أرواح مغامرة بالمعنى الإيجابي للكلمة، وهي إذ تشعر بأهميتها وهيبتها تنصّب نفسها قائدة للكفاح السياسي والثقافي. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
كثير من الجامعات العربية دخلت حقل المراقبة، كل أنواع المراقبة، بما فيها المراقبة الأمنية-السياسية، مما حرم الجامعة من عقل المبادرة
وبالمقابل: إن الأستاذ الجامعي -في الحالة الطبيعية والحاصل على رأسمال رمزي يعتد به- لديه شعور بأنه يحتل مكانة رفيعة إن لم تكن أرفع المكانات من وجهة نظره. ولهذا فهو مكتف بالهيبة ولا يحتاج إلى أيّ هيبة يحصل عليها من الخارج، بل إن هيبته هي التي تفرض نفسها على الآخرين. هذا الشعور بالهيبة التي يمنحها إيّاه العلم والمهنة تجعله في وضع زاهد بالأشياء التي تغري فئات كثيرة واستقلال الجامعة تؤكد وجوده هذه الهيبة. أما إذا كانت الجامعة مؤسسة تابعة لأيّ مؤسسات أخرى فإنها عملياً تفقد الأستاذ الجامعي شعوره الذاتي بالهيبة، وشيئاً فشيئاً ينقص وعيه الذاتي بالمكانة، ويتحول إلى بيروقراطي صغير وانتهازي عاجز.
والجامعة المستقلة بالمعنى الذي أشرت إليه وحدها القادرة على إنتاج مجتمعها المدني الخاص. إن لم تكن هي النموذج الأرقى للمجتمع المدني. إذ لا يفهم من استقلال الجامعة ألاّ يكون فيها فعل نقابي، لكن فعلها الثاني يجب ألاّ يعبر عن التناقضات الموجودة في الجامعة نفسها، ففي الجامعة إدارة والإدارة مهما كانت متحررة فإنها ذات صفة بيروقراطية، فالنقابة المعبرة عن مصالح الأساتذة هي نقابة في مواجهة الإدارة دائماً، والطلاب المعبّرون عن أنفسهم هم في مواجهة الإدارة والأساتذة معاً.
وفي حقل الحرية في الجامعة المستقلة تتطور الجامعة عبر هذه التناقضات مقررات وأبحاثاً ورواتب وميزانية بحث علمي.
الجامعة مصنع للأفكار لا يعني إطلاقاً أنها علاقة بين أستاذ يُلقِّن وطالب يُلقَّن فحسب، التعليم الجامعي حوار في العلم بين أستاذ لا يكف عن إغناء نفسه بكل جديد في العلم وطالب يسعى لأن يغتني أكثر، ولهذا فالجامعة ليست كتاباً جامعياً يحفظه الطالب عن ظهر قلب ليجري امتحانه على أكمل وجه في نهاية العام.
وهذا ليس وقفاً على العلوم الإنسانية التي هي أكثر العلوم منبعاً للحوار، بل والعلوم الأساسية بدورها رغم اتسامها بالصرامة العلمية هي الأخرى يجب أن تكون خاضعة للحوار.
ولمّا كانت الجامعة موضوعات معرفة فلا حدود لمراجعها العلمية، وأن يكون الطالب مأسوراً بكتاب جامعي يعني جعله محدود العلم. يجب أن يكون الطالب حرّاً في ارتياد المعرفة من أيّ مرجع كان متعلقا بموضوعات الدراسة وإلا فالكتاب الجامعي كارثة على العلم وعلى البحث المهمّ وعلى التطلع إلى المعرفة.
الجامعة منبع للأفكار وللتقدّم العلمي تضيف إلى مسألة التعليم أنها بحث دائم البحث الدائم يحتاج إلى مراكز بحث متنوعة في جميع العلوم في مراكز البحث يصدر من الأستاذ عصارة علمه الجديد.
فالأستاذ هو باحث بامتياز فكلّ التقدم العلمي مصدره مراكز البحث في الجامعات، ومراكز البحث تحتاج إلى ميزانيات خاصة، تحتاج إلى مركز دائم معياره المستوى الأكاديمي الذي عبّر عن نفسه بالأبحاث والدراسات. وعبر مراكز البحث هذه تتحقق الصلة بين الجامعة والمجتمع، بين الجامعة والدولة، بين الجامعة وحاجات الإنسان العامة. صلة ليس مصدرها قرارات تأتي من فوق الجامعة، بل من هاجس الجامعة الخاص، ومن الطريقة التي تحدد فيها الجامعة علاقتها بالمؤسسات الأخرى.
لوحة: عمار داوود
الجامعة صلة وصل بين الحضارات والأمم، لأنها عصارة ما تنتجه جميع الأمم من علوم إنسانية وطبيعية ورياضية، هذه العصارة يجب أن تكون في متناول أيّ جامعة عبر كل أشكال الاتصال مع الجامعات في العالم، والهدف من تعلّم اللغات الحية هو بالأصل تحقيق التواصل في الإبداع العلمي العالمي في مجالاته المتعددة والهدف من إرسال الأساتذة أو استقبال أساتذة من الخارج تندرج في عداد تحقيق مهمة التواصل الهدف من المؤتمرات العالمية التي تقيمها الجامعة، وهذا أمر ضروري جداً، مرتبط بمسألة التواصل العالمي ولكن ما من جامعة قادرة على أن تحقق التواصل المنشود إن لم تكن هي نفسها مصدر إشعاع ولو جزئي في مجال معين وإلا غدت متلقية سلبية لإنتاج المعرفة العالمي.
هنا تبرز أهمية العلوم الإنسانية على وجه الخصوص. وأستاذ العلوم الإنسانية. فالعلوم الإنسانية هي التعبير الأرقى عن الثقافة المبدعة للأمة. والأستاذ الجامعي الذي لا يتميز بالعلوم الإنسانية ولا يدرس إبداعاته الخاصة إلى جانب إبداعات العالم يظل مدرساً في المرحلة الإعدادية أو الثانوية، وعارضاً عرضاً سلبياً لما قاله فلان وفلان من الأغراب.
ولأن الجامعة على هذا النحو من الهيبة والأهمية أطلق عليها أيضاً الحرم الجامعي. ومعنى أنها حرم جامعي لما للعلم فيها من تقديس المكان حيث لا يجوز لأحد كائن من كان أن يدنسه.
إذا لم نفهم الجامعة على هذا الأساس ولم ننظر إليها انطلاقاً من معانيها آنفة الذكر فلنسمّها اسماً آخر غير الجامعة.
إذا كانت الجامعة هكذا، وهي هكذا، فلنا أن نسأل السؤال العملي الخاص: هل لدينا في الوطن العربي جامعات؟
إني أطرح هذا السؤال وأنا أنطوي على خبرة الأستاذ الجامعي لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً قضيتها في جامعة دمشق قبل أن أُفصل عام 2013 لأسباب سياسية مرتبطة بخطابي المدافع عن الثورة السورية. وتعرفت خلالها على معظم جامعات الوطن العربي أستاذا معاراً وأستاذاً زائراً وأستاذاً مشاركاً في مؤتمراتها فضلاً عن الخبرة بأحوالها.
إن السؤال عن الجامعات العربية ليس سؤالاً علمياً فحسب، وإنما هو سؤال سياسي قبل كل شيء لأنه مرتبط في كل الوطن العربي بسؤال استقلال الجامعة.
يمكن القول بكل اطمئنان إنه لا استقلال للجامعة في الوطن العربي سواء ما كان استقلالاً علمياً أو استقلالاً إدارياً، صحيح أن هناك تفاوتاً في درجة غياب الاستقلال، لكنه حاضر إلى الحد الذي يحول دون أن تفكر الجامعة بذاتها.
فكثير من الجامعات العربية دخلت حقل المراقبة، كل أنواع المراقبة، بما فيها المراقبة الأمنية-السياسية، مما حرم الجامعة من عقل المبادرة. فالنشاط الجامعي الداخلي مشروط بالموافقات الإدارية والأمنية، خطاب الأستاذ الجامعي داخل قاعة الدرس خاضع للمراقبة، المجتمع المدني داخل الجامعة يكاد يكون معدوماً، انعزال الهيئة الأكاديمية عن المشكلات الاجتماعية شبه مطلق، الكتاب الجامعي في العلوم الإنسانية، فضلاً عن فقره، مراقب. المخبرون داخل الحرم الجامعي ينتمون إلى العاملين في الجامعة، النشر في المجلات الجامعية المحكمة يكاد يكون بمعزل عن التقويم العلمي الموضوعي، السرقات العلمية تتم في وضح النهار دون رادع، أشكال الفساد المتعلق بالرشوة حاضر بتفاوت، ولكنه حاضر في أهم الجامعات، لا يشكل البحث العلمي في الجامعات هماً من هموم الجامعات العربية، ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل 4.7 بالمئة من إنتاجها على البحث العلمي (9 مليار دولار عام 2008) ينفق العرب 0.2 بالمئة.
إن غياب البحث العلمي في الجامعات العربية لا يعني سوى أن الجامعة لم تعد سوى مكان لتلقين بعض المعارف دون أيّ نشاط معرفي، وحرمان المجتمع من التراكم المعرفي-العلمي. وبالتالي فقدان الجامعة مكانتها بوصفها مصدر إشعاع وتنوير عقلي.
والأخطر من هذا الفقر في الإنتاج العلمي الوقوف موقف العداء للعلوم الإنسانية في الجامعة، الجامعة التي هي المكان الوحيد لإنتاج العقل العلمي المفكر بمشكلات الإنسان والمجتمع والحياة والمستقبل.
إن هناك سياسة غير معلنة في الوطن العربي للتضييق على البحث في واقع الإنسان ومصيره. كيف لا وهذه العلوم تجعل من المجتمع والسلطة والأيديولوجيا والحرية والتاريخ والاعتقاد موضوعاً لها، وتمارس الشغب الضروري لفهم العالم وتغييره.
في واقع كهذا راح المجتمع يفتقر شيئاً فشيئاً إلى مهندسي الفكر وصانعي الثقافة. ببساطة لقد فقد المجتمع عقله أو كاد.
ما العلوم الإنسانية؟ إنها ببساطة تلك التي تجعل من الإنسان في كل أشكال وجوده الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتاريخية موضوعاً لها.
وببساطة شديدة هناك سؤالان لا تنفك العلوم الإنسانية عن البحث عن إجابات عنهما: لماذا الواقع على هذا النحو؟ وكيف يمكن تجاوز الواقع؟ ولهذا فالعلوم الإنسانية تسعى للفهم أساساً للتغيير.
ولما كانت فكرة التغيير توقع الفاجعة على من أدمنوا الاستنقاع في واقعهم، فإن أفضل وسيلة للخلاص من وقع هذه الفكرة هي خلق الشروط التي تحول دون البحث في الواقع وحرمان العلوم الإنسانية من وظيفتها. دعوني الآن أبدأ بالعام لأنتهي إلى الخاص.
البحث الآن -أي عملية البحث- هو عمل مؤسساتي لا يستطيع أن يقوم به أحد بمفرده إلا ببذل جهد فذّ.
والمؤسسة البحثية -كما نعلم- تتكوّن من كادر، شروط عمل حرّ، رأسمال تقنية اتصالات حديثة، ثم فضلاً عن ذلك إقامة علاقة بين مؤسسات البحث ومراكز اتخاذ القرار، وأقصد بمراكز اتخاذ القرار كل هيئة معقود عليها حلّ مسائل ذات علاقة بمشكلات المجتمع ككل. وتحتاج إلى تدخّل العلوم الإنسانية لحلّ هذه المسائل.
وكلّ المجتمعات البشرية الآن لا تستطيع أن تواجه مشكلاتها دون المعرفة والعلم. دون الجامعة وما شابهها من مؤسسات علمية، فيفضي قولنا هذا إلى قضية على غاية كبيرة من الأهمية ألا وهي أن البحث العلمي والبحث العلمي في العلوم الإنسانية هو جزء لا يتجزّأ من سياسة الجامعة لمواجهة المشكلات التي تسعى لحلّها. ودون هذه السياسة تظل نتائج البحث مجردة لا قيمة واقعية لها، لأنها تظل دون استخدام. والمؤسسة البحثية اليوم تتعين في ثلاثة مواقع أساسية: الجامعة، مراكز البحث المملوكة من الدولة وتابعة لها، ومراكز البحث المستقلة التي تموّلها شركات رأسمالية خاصة، وغالباً ما تكون المراكز البحثية بأشكالها الثلاثة متخصصة بهذا الصعيد أو ذاك من صعد الحياة الإنسانية.
مراكز البحث المتخصصة بالعلاقات الدولية أو المتخصصة بمشكلات اجتماعية كالبطالة والفقر أو بمشكلات سياسية.. إلخ.
الآن ما هو واقع البحث في العلوم الإنسانية في الوطن العربي؟
إن غياب البحث العلمي في الجامعات العربية لا يعني سوى أن الجامعة لم تعد سوى مكان لتلقين بعض المعارف دون أيّ نشاط معرفي
إن الصّورة لواقع البحث في العلوم الإنسانية صورة كارثية جداً، وما خلا الجهود الفردية التي يبذلها محبو المعرفة فإن الوطن يكاد يكون خلواً من البحث العلمي للعلوم الإنسانية.
فالجامعة التي من المفترض أن تكون المكان الأهم في ممارسة العلوم الإنسانية بحوثها غائبة غياباً شبه كلي. فليس في الجامعات أيّ مراكز بحوث عامة أو متخصصة في المشكلات الإنسانية وبالتالي فالمركز يقوم على جهود فردية ليس إلا. فهل يعقل ألاّ تكون الجامعات مصدرا مهمّا من مصادر إنتاج المعرفة الإنسانية بالمشكلات الكثيرة التي يعجّ بها وطننا.
في الجامعات هناك ميزانية للبحث العلمي ولكنّها شحيحة إلى الحدّ الذي لا تفي بما يسمّى بمهام البحث العلمي في الخارج التي تحولت إلى وسيلة لتوفير الأساتذة لبعض المال وهم فئة تعاني من العوز المادي. إذن المؤسسة التي يجب أن تنهض بالبحث الاجتماعي الإنساني لا تمارس مهمتها الخاصة بها، وهذا ما يحرم الوطن من الاستفادة من الكادر الأكاديمي الذي لا شغل له بالأساس إلا بالبحث العلمي.
إن غياب البحث العلمي للعلوم الإنسانية في الجامعات العربية ذو نتائج كارثية هائلة على الدولة والمجتمع على حد سواء سأبرز هذا الأمر من خلال مثالين ساطعين. يشهد الوطن العربي عموماً انتشار الظاهرة الأصولية وهي قد أخذت في بعض الأحيان طابعاً عنيفاً-إرهابياً داخل الوطن.
الأصولية ظاهرة سياسية اجتماعية ثقافية يجب أن تتضافر علوم إنسانية كثيرة لمعرفة أسبابها واتجاهاتها ومصيرها وسبل التعامل معها، كعلم النفس والسوسيولوجيا وعلم التاريخ وعلم السياسة والفلسفة. لقد جرى التعامل مع ظاهر الظاهرة وليس مع الظاهرة في شروط إنتاجها، والتعامل مع ظاهر الظاهرة -الواقعة- يعني القضاء على شكلها الخارجي والإبقاء على شروط إنتاجها الداخلية. تماماً كالطبيب الذي يعالج ارتفاع درجة حرارة المريض دون النظر إلى أسباب ارتفاع حرارته. حين تتحول الظاهرة هذه إلى موضوع علم الاجتماع، فإنه يسأل ما الشروط الاجتماعية-المعيشية الطبقية التي أنتجت هذه الظاهرة. هل هي الفقر أم البطالة أم انسداد آفاق الفئات الوسطى.. إلخ.
لكن علم الاجتماع هنا يدرسها دراسة ميدانية إحصائية ليستخلص النتائج النظرية. وعلم السياسة يسأل: هل الأصولية ظاهرة سياسية صرفة؟ ما هي الشروط السياسية التي اتخذتها؟ ويسأل علم النفس: هل الأصولية ظاهرة ناشئة عن شعور بالإحباط والنكوص لفئات اجتماعية محددة؟
وبدوره يدرس علم التاريخ الظاهرة في تاريخها، وهنا تأتي الفلسفة لتستفيد من كل نتائج هذه العلوم لتقدّم تحليلها النظري العام. كم ستساهم العلوم الإنسانية إذا جعلت من هذه الظاهرة موضوع بحث في فهم الظاهرة وتجاوزها. والحق أن نتائج البحوث في العلوم الإنسانية هي احتمالية لكنّها ترصد الحزمة الأكبر من الاحتمالات. من ذا الذي يستطيع اليوم أن يتخذ قرارات تمسّ حياة المواطن دون معرفة نتائجها الاجتماعية، ودون قياس اتجاهات الرأي العام ؟ وهذا يقوم به علم الاجتماع وعلم السياسة. كيف يمكن تجاوز حالة الفساد دون معرفة أسبابه؟ وهذا يحتاج إلى تدخل العلوم الإنسانية. بالسؤال: ما عوائق البحث العلمي للعلوم الإنسانية في جامعات الوطن العربي عموماً؟
أولاً: اعتياد السلطة في الوطن العربي تاريخياً على عدم الاكتراث بأهمية العلوم الإنسانية ونتائج أبحاثها في تعاملها مع مشكلات المجتمع والأمّة.
ثانياً: العائق الأيديولوجي الذي يقوم على تزييف الواقع، ففي حين تقوم العلوم الإنسانية بكشف حقيقة الواقع وتقديم سبل تجاوزه تقوم الأيديولوجية السلطوية بإخفاء حقيقة الواقع والتعويل على الإعلام الرسمي الذي يجمّل القبح.
ثالثاً: غياب الديمقراطية مما حرم المجتمع من نخبه من مؤسساته التي من شأنها لو وجدت لأعطت البحث العلمي مناخاً للعمل.
رابعاً: هشاشة الطبقة الرأسمالية الجديدة وجهلها، والتي تحُول صفاتها هذه دون توظيف أي جزء ضئيل من أرباحها للبحث العلمي أو للعمل الثقافي عموماً.
خامساً: العوز المادي الذي تعيشه الفئات العاملة في حقل العلوم الإنسانية، ممّا لا يسمح لها هذا العوز بالتفرغ للبحث العلمي بل يفرض عليها عوزها المادي الانهماك في توفير سبل استمرار الحياة اليومية.
وإذا أضفنا عوزها هذا إلى حرمانها من المؤسسات الجامعية التي يمكن أن ننظم عملها، أدركنا حجم الكارثة.
لم يكن انهيار الجامعة عربياً حالاً منعزلة عن انهيار المجتمع والمؤسسة بسبب الطغيان والدكتاتورية والفساد والانفصال المطلق بين السلطة الحاكمة والمجتمع في الدول الدكتاتورية على وجه الخصوص.
وبالتالي إن حل مشكلة الجامعة واستعادة دورها المعرفي والعلمي والتنويري والمدني والسياسي مستحيل دون تجاوز دولة السلطة والانتقال إلى سلطة الدولة.