كأن الحلم حقيقة
ما إن أغمضت عيني لوهلة بعد آخر فجر من آب، حتى مضيت إلى حلم ملائكي عاد بي إلى زمنٍ ملائكي، عاد بي إلى السنة الرابعة من العقد التاسع من القرن التاسع عشر، ونحن في بيرزيت بمدرسة الأمير حسن الثانوية، تدرّجنا بالصفوف إلى صف الثانوية العامة هناك رمقة حسناء المظهر تلك، تدعى صفاء السيد علاء، كانت من المتفوقات بلا منازع خصوصا بشعبتنا شعبة العلوم، كنت أتغزل بها سرا ولم يكن يعلم أحد بذلك غير صديقتها بدير تلك الكتومة التي كانت خزان أسراري.
كانت جالسة في أحد مدرجات جامعة بيرزيت، دخلت القاعة سعيا لأجد مكانا في مقدمة المدرج كي أستوعب المحاضرة جيدا، كانت محاضرة في مادة تطور النظام الدستوري في فلسطين، ما إن جلست حتى وجدت صفاءْ جالسة بجانبي أمعنت النظر فيها، حدقت بإلحاح في تعاليم وجهها، أدركت أنها هي خاطبتني وكأن لقاء الثانوية العامة مازال حديثا وكأنه حدث البارحة، تحاورنا قليلا، قررت مغادرة المحاضرة عقلي لم يعد يقوى على التركيز في أحد سواها، طلبت منها مرافقتي مسكت يدي وسرنا، لم أكن أستوعب حقا أفعالها تلك، كيف للفتاة التي كانت تحظى بكل التقدير من لدن الجميع، صاحبة المقعد الأول، عند مرورها الكل يفسح لها الطريق أن تتحول إلى عاشقة بلا كلام مسبق مني..!
جلسنا في قارعة الطريق عند مقعد محاط بالأزهار لا يكاد يرانا إلا من يتجه مباشرة صوب ذلك المكان، ظللت أستدمج الماضي وأحاول معرفة ما فاتني من أحداث في فترة غيابي، كنت بعد الثانوية العامة أبحث عنها دوما وبعد شهر من التوجه إلى الكليات علمت أنها اختارت دراسة الطب في ما أنا اخترت دراسة العلوم السياسية، بادرتها بالسؤال ما الذي جاء بك إليَّ في وقت مثل هذا بالضبط؟ طأطأت رأسها لوهلة قصيرة وقالت،… نعم، إذن هناك شاب يدعى صبحي أحب في سره فتاة تدعى صفاء وظل يتعقب أثارها منذ ذلك الحين، يغيب مدة ثم يعود ليبحث، يطمئن عنها ولا يتحدث؛ قاطعتها ومن أخبرك؟ ليس المهم كيف علمت بذلك كان جوابها، المهم أني علمت، وكيف لطبيبة تعالج المرضى ألاّ تقوى على معالجة شاب أحبها وهو في عمر الثامنة عشر والآن عمره يتجاوز الثلاثين بسنة؟ هل تصارحه هي أنها أحبته.. أم تتحسّر على ضياع ماضٍ كان حتما سيكون ورديا مليئا بالعواطف والمشاعر الصادقة، حقا صبحي لما اخترت صفاءْ دون غيرها؟ أكنت ترغب بالعذاب لنفسك؟
عادة وأنا أتحدث في مواضيع تهمني تجدني أنظر إلى السماء أحيانا، وأحيانا أخرى أنظر إلى فم المتحدث ألاحظ حركات شفتيه كيف يحركها وكيف يضيع الوقت ليتحدث عني، لكن وجدتني صفاء أحملق في خصلات شعرها تلك الجدائل التي اعتدت أن أراها في الصف وأنا أجلس وراءها مباشرة، ذلك الشعر الأحمر الذي طالما أنساني حتى عنوان درس الفيزياء لأتلقى توبيخا من أستاذة المادة.
وضعت يدها على وجنتي وقالت أين سبح ذهنك، دعه معي أرجوك صبحي، قلت هو لك حقيقة سبح في ماضينا في قصة حب أسستها ضدا في واقعنا، لم أكن أسعى أن تساعدني يوما في الدروس بل كنت أسعى أن تساعدني في عتمة هاته الدنيا، أدركت فتاة نادرة بكل المقاييس، تحفة من متحف اللوفر هي التي تقف أمام عينيّ الآن، لقد وجدت فيك صفاء الخلق وصفاء الحب وصفاء الدنيا، نعم بلا خجل أقول هذا، قد أحببتك ضدا في كل مفاهيم البعد بيننا بين فتاة لا تتحدث مع أحد، كنت أغار من الأساتذة عندما يطرحون الأسئلة وتجيبين وأنا ليس بمقدوري أن أسأل لتجيبيني.
ولكن من أخبرك بهذا الحب كله، من أخبرك بهذه التفاصيل التي كان لا يعرفها سوى بدرية، ردت صفاء مباشرة نعم تلك الفتاة هي التي أخبرتني، جمعنا اللقاء قبل سنة واحدة في أحد مقاهي رام الله، تحدثنا كثيرا وعدنا إلى الماضي فوجدتها في لحظة غير قادرة على أن تتكلم، ترجيتها أن تفصح عمّا بداخلها فقالت لي حينها، “لم تكن لي الجرأة لأكون فأل خير عليك مع أحدهم، كان يحبك أيام الثانوية العامة، كان مهووسا بك، كنتِ أحلامه، كنتِ له القرآن الذي يقرأه، التسابيح التي يسبح بها، كنت له الترانيم التي يؤديها في أديرة قلبه.. كان يسترق بعض اللحظات العابرة ليلمس شعرك دون أن تحسّي بذلك.. كان عاشقا صادقا”.
بعدها مباشرة من ذلك اللقاء بحثت عنك وسألت عنك، ووجدت بدواخلي حبا يتجه نحوك، لم أعلم بأنك تدرس بكلية القانون والإدارة إلا منذ أسبوعين، ترددت في أن أقرر هل آتي إليك أم أدعك تعيش حياتك دون أن أفسدها، نعم هكذا ظننت أني قد أفسد حياتك، صدقا أحسست أني كنت ساذجة عندما كنت أحول بيني وبين زملائي أو بالأحرى بيني وبينك ولكن كان الضباب يعمي بصيرتي…
سمعت أصواتا غريبة جعلتني أفيق من نومي، أصابتني دهشة هل كان حلما، نعم كان حلما عدت إلى النوم لعلني أعود لألقاها ولكن كان الحلم كسراب يراه العطشان ماء.. كان حلما.. كان الحقيقة التي أرجوها.