كائن شفاف
الساعة الآن الثامنة مساء. أسدلت ثريا ستائر البيت ورتبت طاولة العشاء كما تعودت أن تفعل دوما مع اقتراب رجوع أدهم إلى البيت. رضيعها نائم في سريره بعمق شديد بعد أن أرضعته وفق النظام المعتمد لكليهما، والمستمد من مختلف الكتب التي قرأتها خلال فترة حملها.
لم تكن ثريا متحمسة لاستقبال أدهم، لم تكثرت لمظهرها ولم ترتب الطاولة بشكل استثنائي، كان الأمر روتينا يوميا، اكتفت فقط بوضع الأطباق والأدوات عشوائيا.
بحلول الساعة الثامنة والنصف بالضبط دخل أدهم وأغلق الباب وراءه بإحكام كأنه يفر من عالم مليء بالوحوش. بوجهه العبوس لم يلتفت إلى ثريا ولا إلى طاولة الطعام، هرع إلى غرفته وأقفلها أيضا، تاركا وراءه ثريا حائرة تتخبط في تيه لا نهائي؛ “هل دخل ليغيّر ملابسه وبعدها نتناول العشاء معا أم دخل ليستلقي وينغمس في عالمه غير مكترث بعالمنا؟”، استفهمت في صمت. إلاّ أنها قررت هذه المرة بعد طول انتظار أن تبدأ بتناول عشائها.
* * *
للمرة العشرين هذا اليوم أو أكثر، تجتاح أدهم الرغبة في إبداء رأيه الشخصي عبر صفحته. استشعر حريته المطلقة في نقد المنظور السياسي الذي ستنهجه الدولة في الأعوام القادمة، فقرة بسيطة بكلمات معدودة وفق برنامج تحديد الكلمات المسموح بها على الموقع “أنا المواطن أدهم أرفض بشكل تام سياسة الخوصصة التي تسلكها الدولة، نعم لعلاج صحي عمومي جيد.. نعم لتعليم عمومي جيد…لا للخوصصة .” كانت هذه الأسطر استنساخا متداولا على مواقع التواصل الاجتماعي توهم من يضيف اسمه أنّ صوته مسموع. جلس يترقب ما سيحصل، كأنّ العالم الذي انصرف عنه موصداً باب بيته بإحكام سينقلب في حينه بأسطر عابرة، وألفاظ مجترة لم يكن بمستطاعه نطقها بين زملائه في الصباح حين كان النقاش حادّا فيما بينهم. بدأت رموز الإعجاب ترن في حسابه التواصلي، رموز باختلاف أشكالها ودلالتها تثير في خاطره نفس الأحاسيس، بدا سعيدا حين استخدم بعض أصدقائه الافتراضيين رمز القلب مبدين بذلك إعجابهم بمنشوره، ويبتسم بعد كل تفاعل تلقاه كلماته المستنسخة.
* * *
كانت ثريا ما تزال جالسة على طاولة الطعام حين وردها إشعار بمنشور زوجها؛ أدركت حينها أنه لن يخرج من الغرفة. لم يكن أدهم ينتمي حيث توجد أسرته، كلما نظرت إليه وجدته يبتسم في وجه الهاتف دون أن تعرف سبب ذلك، لم تتذكر آخر مرة تحدثا فيها معا عن أمورهما الخاصة. بالأمس أخبرته أنها تود الحديث إليه عن شيء هام يخصهما. فلم يعرها اهتماما، حمل هاتفه وبدأ ينظر إلى شاشته منتقلا من عالم إلى آخر، مخبرا إياها أنه سيشاهد مباراة لكرة القدم فيما يمكنها أن تُطلعه بما تريد عبر تطبيق المحادثة الأسرية، فهذا سيكسبهما مزيدا من الوقت وراحة أكثر في الحديث. بدت كمزحة ثقيلة في البداية، لكنها تحولت إلى نمط عيش سطّره أدهم غير مكترث بما تريده زوجه.
صحيح، أنهما تعرّفا على بعضهما عبر موقع مخصص للزواج، لكنها لم تخمن أنّ العلاقة بينهما ستكون بهذا البرود القاسي، أحست أنها تمثال من رخام في قمة جبل ثلجي، ظنت في البداية أن سبب ذلك يرجع إلى صورها التي ليست مطابقة تماما لصورتها في العالم الحقيقي، إلا أنها رغم ذلك تبقى نفس الشخص الذي أغرم به في عوالم الخيال والافتراض، أليس كذلك؟ لم تدرك حينها أنه لو كان بمقدور أدهم الإنجاب عن بعد لفعل ذلك؛ إلا أنه لم يكن بإمكانهما إنجاب طفل عن طريق إرسال الحيوان المنوي عبر قناة تواصلية لاسلكية افتراضية، تستقبلها بويضة من صنع خوارزمية ما فتشكل بذلك رضيعاً من أب وأم هما في الأصل سلسلة رقمية، بل احتاج الأمر إلى جهد حقيقي تلاقت فيه الأجساد بكل ما فيها من دفء وحرارة وعطر؛ محاولات أولى فاشلة، احتاج الأمر إلى مساع متعددة، وإصرار متواصل، ووضعيات جسدية متنوعة. تصبب العرق وامتزجت الأجساد في لحن موسيقى قديم نتج عنه طفل صغير، لم ينظر أدهم نحوه إلا عندما أراد التقاط صورة لهما ووضعها على حسابه وهو يبتسم.
* * *
حينما كان يردّ على بعض التعليقات على منشوره ومنشورات أخرى كان قد نشرها في مواقع تواصلية مختلفة في فترات زمنية متفاوتة، وهو يستعد للنوم وهاتفه لم يفارق يديه، وضع رأسه على الوسادة قرب ثريا النائمة منذ نصف ساعة وجلس ينظر إلى كمية الإعجاب الذي حصل عليه اليوم، وقبل أن يترك هاتفه على المنضدة، ظهر له إعلان لتطبيق جديد، بدا له مشوقا من خلال اسمه: “كائن شفاف“. حمّل التطبيق على هاتفه وحدد المعلومات الخاصة به: بريده الإلكتروني، بلده، اسمه، تاريخ ميلاده. كانت الصفحة الثانية عبارة عن عقد اتفاق وجبت الموافقة عليه كخطوة أخيرة، العقد طويل لقراءته كاملا، ضغط أدهم على موافق بسرعة: “تمت العملية بنجاح، لقد صرت من الكائنات الشفافة”.
قبل أن يغط في نوم عميق وهو ما يزال ممسكا هاتفه، دخل إلى التطبيق الجديد فوجد نفسه وسط مدينة مليئة بأشخاص من لحم ودم، وقد كان هناك بلحمه ودمه. يجوب شوارع لم يعهدها في مدينته، ويلبس ملابس لن يكون بمستطاعه اقتناؤها من أجرته، ونال سيارة لا يمكنه حتى التفكير فيها على أرض الواقع، بمقدوره الآن تحقيق كل ما يفكر فيه عبر هذا التطبيق في جزء من الثانية، يفكر في شيء مّا يضغط على الزر فيجده أمامه، بدا الأمر شبيها بسحر الفودو. وهو يجول في دروب التطبيق ونعيمه الافتراضي غط في نوم عميق.
كعادته لم يحلم أدهم بشيء، غادرته الأحلام منذ زمن لا يتذكره، لم يعد للأحلام مكان في حياته بعد أن صارت تتحقق في عوالمه الافتراضية، وصار اللاشعور يجد لنفسه مكانا أفضل من الحلم ليعبّر عن طاقاته الكامنة منذ تاريخ طويل؛ يكفيه الوهم ليصير هادئا من نشاطه المفرط. عندما استيقظ وجد نفسه قد تحوّل إلى كائن شفاف، يستطيع النظر إلى جميع أعضائه البيولوجية الثاوية خلف ستار سميك، ستار اللحم والجلد. وقف مشدوه الفاه ينظر إلى نفسه، متى حصل له ذلك؟ كيف حصل؟ لا بد أنه مازال يغط في نوم عميق. هذا ما ظنه للحظة.
استيقظت ثريا على صوت بكاء طفلها، لترى كائنا شفافاً أمامها، صرخت بشدة من هول ما رأت، كانت تنظر من خلاله إلى كل شيء. تكلم الكائن الشفاف:
• أنا أدهم يا ثريا، لا تجزعي.
• ما الذي أصابك؟
• لست أدري، لقد حمّلت بالأمس تطبيقا يسمح بالعيش في حياة موازية لحياتي، إلا أنّ الحياة هناك شفافة، بمقدور المرء العبور من خلالك أو تجاوزك، كما يمكن للضوء أن يخترقك.
• ما هذا العالم الذي تتحدث عنه؟ ربما هو مجرد حلم لم تتبينه بالكامل.
• كيف لي الآن أن أعود لما كنت عليه في السابق.
• لست أدري؟
• ربما يمكنك مساعدتي؟
فكر أدهم في شيء يمكن لثريا أن تفعله من أجل مساندته، وإخراجه من مأزقه:
• لا بد أن تزيلي التطبيق الجديد من هاتفي.
• حسنا، ما هو رمز الدخول؟
• يكفي أن تقربي كاميرا الهاتف الأمامية من وجهي.
• وجهك؟ يبدو أنّك فقدت ملامحك ولن يتعرف عليك هاتفك الذكي.
هوى أدهم في صمت مريب، لم يضف كلمة لمدة دقيقتين من هول الصّدمة قبل أن يقترح:
• حمّلي التطبيق ذاته على هاتفك يا ثريا، ولننظر ما سيحصل لك.
• يجب أن تكون خطتك واضحة لكي ننجح في مساعدتك، إذ لا يمكن أن نتحول معا إلى كائنين شفافين مخلفين وراءنا رضيعاً، مع العلم أنني لا أجيد العمل بالهواتف الذكية بمقدارك.
• لا عليك، المعرفة بهذه الأمور سهلة، فقط يجب أن تدخلي بعض المعلومات بعد تنزيل التطبيق وسيكون كل شيء بخير.
لم تصدق ثريا أي كلمة مما قاله أدهم، شعرت به شخصا غريبا عنها، لم يتحاورا يوما كما يفعلان الآن. لماذا يريد مني تنزيل شيء جعل منه كائنا شفافا، فكرت. لم ترغب في ذلك على الإطلاق، لا بد أن يتحمل المرء عواقب أفعاله، كان أدهم يصرخ في وجهها بأن تستعمل التقنية التي جعلت منه كائنا شفافا، لكن صراخه لم يكن نابعا من الكائن الشفاف الماثل أمامها، بل متدفقا من الهاتف النقال، كأنه طيلة الحوار الذي جرى بينهما كانت تخاطبه عبر الهاتف وليس بشكل مباشر، ارتفع الصوت فجأة لتكتشف أن الكائن الشفاف يمكنه أن يقوم بحركات مختلفة لكنه لا يستطيع حمل الأشياء أو تغيير موضعها، إنه مجرد صورة شفافة مطابقة للأصل الذي سجن في الهاتف.
لم يتوقف أدهم عن إزعاجها، ولم تشعر أنّ وجوده الشفاف البارد يختلف عن وجوده الفعلي، فلم يؤثر غيابه في مجرى حياتها. صارت تترك النوافذ مفتوحة على أشعة الشمس التي تخترق جسد أدهم كأنه منعدم الوجود، ولم يعد باب بيتها يُغلق بكثرة الأقفال صادا كل زائر موصل للرحم. لكن طلبه الملحّ وإصراره على تنزيل التطبيق صار أمرا مزعجا بالنسبة إليها فكان قراراها إزالة الصبيب من منزلها نهائيا، محتفظة بالهاتف الأرضي. لم يعد أدهم يظهر لها بعد ذلك نهائيا، لم تسمع كلماته ولم تره بعدها مطلقا، لقد سُجن بين الكائنات الشفافة.