كلام في الكوميديا
لاحظت أن صديقا عربيا يعيش في لندن منذ أكثر من 20 عاما يتجنب الإشارة إلى المسلسلات الكوميدية البريطانية في حين لا يتوقف عن الحديث عن المسلسلات الكوميدية الأميركية. هناك شيء يجذبه إلى الإنتاج الدرامي الأميركي وينفّره في نفس الوقت من الدراما البريطانية.
يمكن استيعاب أن تقترب اللهجة منك أو تبتعد، فتحب أن تشاهد الدراما أو الفيلم أو تستمع إلى الأغنية التي تلائم لهجتك، أو ما اعتادت أذنك على سماعه. أن تكون عراقيا مثلا، فأنت تشاهد المسلسلات المصرية والسورية بشكل دائم، وعلى مدى سنوات من على القنوات العراقية، إلى جانب ما تجود به قطرات الدراما العراقية. لكن العراقي سيجد أمامه حاجزا من قلة التعود عندما يتعلق الأمر بدراما تونسية أو فيلم جزائري. بعض الأفلام الجزائرية كانت تعرض في بغداد “بترجمة” عربية مكتوبة أسوة بالأفلام الأجنبية.
لكن صديقي يعيش في بريطانيا، ونظريا فإنه أقرب إلى اللهجة الإنجليزية الدارجة من تلك الأميركية القادمة من هوليوود. كيف تستطيع الكوميديا الأميركية أن تجعله يضحك بهستيريا، بينما الكوميديا البريطانية تبدو لديه ثقيلة الدم؟
إنها البيئة. الكوميديا الأميركية مصنوعة لبيئة عابرة للثقافات. الضحك في مسلسل “أصدقاء” الشهير مبني على مواقف لا تنتمي إلى ثقافة. هي مواقف تعيشها الشخصيات ويكاد يندر في كل حلقة من الحلقات الـ236 في عشرة مواسم أن تتم الإشارة المبطنة إلى حقيقة حياتية أميركية. أكاد أراهن أن أغلب المتابعين المغرمين بالمسلسل لا يعرفون أين تقع أحداث المسلسل، أي في أيّ مدينة أميركية، أو أنهم يفكرون بأنها يمكن أن تقع في أيّ مدينة، لا يهم.
على الضفة الأخرى هناك الكوميديا البريطانية. هي كوميديا غارقة في المحلية، ومبنية بالكامل على أن المشاهد ابن البيئة ويعرف كل مداخلها ومخارجها. في مسلسل “للحمقى والخيل فقط” مثلا، تبدأ أغنية المقدمة بالقول “لا ضريبة فردية ولا ضريبة إضافية.” إنهما همّ البريطاني اليومي الذي يدور حول المال، لشخصيات من قاع مجتمع لندن المسحوق. مسلسل من أجزاء من العاصمة البريطانية لا يعرفه السياح بالتأكيد، والعرب منهم بالخصوص. من دون فهم الثقافة المحلية البريطانية، سيكون من الأفضل مشاهدة مسلسل صيني ناطق بالصينية.
هذا لا يعني أن البريطانيين يفوّتون فرصة الانتشار العالمي. يستطيعون أن ينتجوا حلقات من مسلسل كوميدي، إنجليزي جدا، لكنه عابر للثقافات. أنظر روان إتكينسون وهو يقدم شخصية “مستر بين”. هذا مسلسل تستطيع أن تشاهده وكأنه مصنوع من زمن تشارلي تشابلن، أي من دون صوت تقريبا. ستضحك بلا تحفظ.
هناك عدد قليل جدا من المسلسلات الكوميدية ونجوم الكوميديا الأوروبيين ممن استطاعت/استطاعوا تجاوز الحواجز التي تفرضها الثقافات المحلية. الدراما في أوروبا -مثلها مثل بريطانيا- تصنع للبلد، من دون أدنى اعتبار للانتشار العالمي. في فيلم “أنظر من عاد!” الذي يروي قصة عودة الزعيم النازي أدولف هتلر للحياة في ألمانيا اليوم، تعالج الكوميديا تبدّلات اجتماعية وثقافية ما كان هتلر ليحلم بها وهو حيّ: الألمان يشاهدون برامج الطبخ بلا توقف من دون نية لاحتلال العالم. وفيما عدا بضعة مهرجين فرنسيين في الثمانينات، لا أحد يذكر الدراما الفرنسية، كوميديا أو غير كوميدية.
لا أستطيع لوم الصديق العربي. أغلب العرب في الغرب يعيشون بعقليات الغيتو. كثير منهم يكاد لا يفهم لهجة جنوب لندن الشعبية (الكوكني). اللهجة عائق حقيقي، لكنها يجب أن لا تمنع فهم البيئة إلى درجة النفور من الإنتاج الدرامي البريطاني. الأعمال الدرامية الأميركية، بضمنها الكوميديا، تحتل حيزا كبيرا من شاشات القنوات البريطانية. البريطانيون ما نظروا للولايات المتحدة يوما إلا أنها امتداد لناسهم ولغتهم وعقليتهم. البريطاني يحتفظ بحسه الساخر ويضحك، ويشاهد الكوميديا الأميركية ويضحك. في اللاوعي هو ابن بيئتين هما في تقديره بيئة واحدة.
الاشتغال على الكوميديا والدراما في شمال أفريقيا والخليج أشبه بالطريقة الأوروبية. هذه أعمال ابنة بيئتها ولن تستطيع أن تفصلها عنها. الأعمال الدرامية العربية القادمة من مصر وسوريا سبقتها الثقافة المحلية المصرية والسورية إلى عقل المشاهد. هي قاهرية محلية وشامية أيضا وابنة بيئتها، ولكن أيّ عربي يمكن أن يشاهد مسلسلا مصريا من 60 حلقة ولا يحس بالغربة عنه. المشاهد ابن متبنّى للثقافتين المصرية والسورية. هما ثقافتنا “الأميركية” العابرة للثقافات.