كلُّنا أسماء
كنت غارقة في قراءة كتاب عثرت عليه صدفة فوق أحد رفوف المكتبة التي تتراكم فيها القصص والروايات وكتب الفلسفة وما إلى ذلك. لم أصدق عينيّ حين وقعتا على العنوان وخلتني أقرؤه خطأ أو ربما هو تشابه في الأسماء لا غير.
تصفحته ووجدته طبعة لاحقة بتقديم عميق لأحد المفكرين الذين ذاع صيتهم واشتهرت مقاربتهم للإنسان، ذلك المجهول كما وصفه ألكسيس كارييل.
لم أنتبه لمن دخل إلى المكتبة أو من خرج منها منذ وضعت كل العالم بين قوسي الكتاب وهو بين يديّ حتى أني لم أسمع صوت الجرس، وقد قيل لي إنه رن مرتين وحان معها موعد الدرس.
لم أبرح مكاني، ولم أرفع رأسي إلا حين شعرت بها تقف أمامي وتناديني بصوت عال:
– سيدتي… سيدتي، هل يمكنني التحدث إليك؟
التفتُّ نحوها حانقة ولم يكن ذلك من عاداتي فالكل يسميني بطبيبة النفوس المتعبة. قلت:
– اتركيني الآن. ألا ترين أني مشغولة؟
فاجأتني بوجهها المدموغ وعينيها المتورمتين وأنفها الذي فقد حجمه ولونه الأصليين.
انهمرت دموعها حتى لكأنه السد وقد تحطم فانعتقت مياهه تجري ولا تلوي على شيء.
أفزعني الدمار الذي رأيت على وجهها كما لو كانت مدينة حطمها زلزال وهشّم كل ما فيها أو غزاها الإرهاب وعبث بوحشية الأوغاد بآثارها ورموزها وتاريخها المجيد.
لم تكن هي ولم يكن شيء مما أرى في ذلك الوجه يشبه التلميذة أسماء ابنة الخمس عشرة سنة التي أعرفها، تلك البنية فائقة الجمال التي تتقد نشاطا وتتفتق المواهب على يديها كالغناء والرسم والشعر، والمولعة خاصة بالتمثيل المسرحي.
لقد جمعت كل ذلك في شخصها بما يفسر شدة حبها للحياة وإقبالها البهيج عليها.
ولكن ما الذي قلب الأمور وما الذي جدّ في مدة قصيرة لا تزيد عن الأيام الفاصلة بين زمن الخروج في العطلة والعودة منها؟
هل بإمكان الأسبوعين اليتيمين أن يفعلا فيها كل ذلك؟
لا أعرف كيف نهضت فجأة ورميت الكتاب فسقط، ولا كيف نسيت الالتحاق بقسمي، ولا… ولا…
أخذتها في حضني وقمت بضمها إلى صدري. كانت متشنجة شاحبة يابسة كغصن أعياه العطش وأفقده أوراقه.
صرخَتْ من شدة الوجع وقد آلمتها المعانقة لما في جسدها من رضوض ولعلها كسور وجروح.
لم أعرف ماذا أفعل ولا كيف أتصرف وأنا أراها محطمة موجوعة وعلى تلك الحال من اليأس.
قلت لها:
– يا ابنتي، لا بد من الاتصال بأبويك.
ردت على الفور:
– لا، لا. أرجوك سيدتي.
قلت:
– هيا بنا إذن إلى المستشفى حالا، ثم نرى ما سنفعل بعد ذلك.
رفضت رفضا قطعيا التحرك من مكانها راجية مني إغلاق باب المكتبة عليها وتركها داخلها لترتاح قليلا ريثما أعود إليها بعد إكمال حصة الدرس.
استغربت منها رفضها أن يراها الطبيب ورفضها إعلام والديها وبالمثل مدير المؤسسة التربوية.
سألتها في الحين:
– ما الذي حصل يا ابنتي؟ قولي ولا تخافي. صارحيني بالحقيقة حتى أتمكن من مساعدتك. من الذي فعل بك هذا؟ من تجرّأ على إلحاق كل هذا الأذى بك؟
وضعك سيّئ جدا ومن غير الممكن البقاء مكتوفة الأيدي لا أفعل شيئا، فمسؤوليتي تحتم عليّ إبلاغ رئيس المؤسسة فورا.
ما إن لاحظت إصراري على إحاطة المدير علمًا بالأمر حتى استجابت راجية مني بإلحاح شديد أن يبقى ما ستعلمني به سرّا بيني وبينها.
كنت أنظر إلى ملاك صغير يفصح عن تعرضه لأبشع أشكال العنف.
قالت:
– في أول أيام العطلة خرجت صحبة صديقاتي لنتنزه ونحتفل بانتهاء أحد فصول السنة الدراسية بعد تعب الامتحانات، وكنت قد حصلت على الإذن من أمي التي كانت موافقتها مشروطة بعودتي إلى البيت قبل أبي لنتقي أنا وهي شرّه. لذا كان عليّ الالتزام بما أمرتني حتى لا تنقلب حياتنا إلى جحيم.
أخذت طريق العودة تاركة صديقاتي ينعمن بمتعة الصحبة الجميلة لبعضهن بعضا. كنت غاضبة ولكني أقفلت على غضبي في أعماقي متظاهرة بأن ضيوفا حلّوا ببيتنا وأن رجوعي ضروري لألتقي بهم إذ اشتقت إلى رؤيتهم.
عندما غادرت المقهى حيث كنت برفقتهن رن جرس هاتفي فقمت بالرد وكان أحمد على الخط، وهو شاب تعرّفت عليه صدفة منذ ما يقارب الشهر. استمالني إليه بلطف معاملته ومعسول كلامه وجمال مظهره الذي أوحى إليّ بأنه من عائلة ميسورة الحال حتى إنه كثيرا ما كان يفاجئني في طريق المعهد وهو يقود سيارة فخمة يقول إنها على ملك والده صاحب إحدى الشركات الكبرى في البلاد، فكان كل ما فيه يبهرني كما يستهويني الحديث معه دون أن أغامر بمصاحبته في السيارة رغم إلحاحه الدائم، وكان ذلك خوفا من أن يراني أخي أو أن تقع عليّ عينا والدي وقد كانتا تتبعانني حيث ذهبت حتى أني كثيرا ما كنت أتخيل ظله ورائي، وكان ذلك الخيال كافيًا ليحدث بين ضلوعي رعبا يمنعني أحيانا من النوم.
كنت عائدة إلى البيت حين اتصل أحمد وكان يسأل عني وعن أخباري التي انقطعت عنه بمناسبة العطلة، ولما أجبته بأني كنت مع صديقاتي وأني في طريق العودة إلى البيت ألح عليّ بضرورة انتظاره حيث أنا حتى يلتحق بي، إذ هو اشتاق إليّ وعليّ ألا أفوّت فرصة اللقاء ولو لدقائق.
قبلت على مضض وأكدت على ضرورة عدم التأخر خشية أن يدركني الوقت ويحدث ما لم يكن في الحسبان.
لم يطل انتظاري، ووصل أحمد ولكنه لم يكن بمفرده. لقد جاء صحبة صديق لم يسبق أن رأيته.
عرفني به، مؤكدا أنه صديقه المقرب إذ تربط بينهما عِشرة عمرها يقارب عمرهما فهما يقطنان حيا واحدا وقد زاولا تعليمهما الابتدائي والثانوي في نفس المؤسسات.
ظلت أسماء تروي تفاصيل لم أكن في حاجة إليها في تلك اللحظة، فأنا أنتظر منها أن تعلمني بحقيقة ما حصل لها ومن الذي تسبب لها في المأساة التي أرى أثارها أمامي.
قلت مقاطعة إياها وقد نفد صبري:
– أخبريني يا أسماء، ما الذي حصل حتى تكوني مهشمة هكذا؟
ردت باكية وقد مزقت دموعها المنهمرة شراييني، ولكن كان عليها أن تقول الحقيقة، وكان عليّ أن أعرف تفاصيل ما حدث.
– أبي يا سيدتي، وقد عاضده أخي في الفتك بي وتهشيم جسدي كما ترين.
نزل عليّ اعترافها كالصاعقة، وكان وقع الحقيقة محطما لانتظاراتي من أب خلته أفضل من يشعر فلذة كبده بالأمان وأول من يدافع عنها إن هي تعرضت إلى مظلمة. أما الأخ فتلك مصيبة أخرى. إنه يرث سلوكا جندريا يصبغه التخلف وتلفه الهمجية.
يا إلاهي، ما هذا؟ رجلان بكل تلك الرجولة التي تُمجَّد وتُمدح، رجلان بجسدين قويين وأيادٍ غليظة وأرجل ضخمة ينهالان ضربا وركلا وعضّا على طفلة صغيرة السن، هشة العظام، شفافة الجلد تظهر منه أوعيتها الرقيقة وضلوعها التي أضحى عدّها ممكنا.
ثم من تكون تلك الطفلة يا رب؟ إنها ابنة الأب وشقيقة الأخ فكيف يمكن أن يصبحا عدوّين لها في لمح البصر؟
ولكن ماذا جرى حتى يفعلا بها ما فعلا ويحصل ما يحصل؟ لا شيء يمكنه أن يبرر أفعالا قبيحة ومشينة ومؤذية كتلك التي اقترفها هذان المجرمان في حق الطفولة البريئة؟
ثم أين أمّها؟ أليس لها أمّ تحميها من بطش الجلادين اللذين يقيمان معها تحت سقف واحد؟ هل هشما ابنتها أمام أنظارها؟ هل يمكن تصور وجود أمّ بهذا القدر من الجبن؟
فجأة تحولت أسئلتي إلى نقمة شديدة وكراهية لم أعرف لها مثيلا قبل الآن، وشعرت في الحين بألم حاد يمزق معدتي ثم بالغثيان والرغبة في التقيؤ، وتحركت الأرض تحت قدميّ وأنا أربط الصلة بين المشهد الذي أمامي والصور التي اجتاحتني تزامنا مع ما كانت ترويه لي البنية.
أرعبها وضعي وشعرت بأنها سبب ما أنا فيه لحظتها، فانطلق سيل اعتذاراتها بكل الطرق، لكني حاولت تمالك نفسي ما استطعت، وقلت لها بحزم وإصرار:
– لا مناص من إشعار مندوب حماية الطفولة فهو المرجع في حالة الطفولة المهددة، ولن أترك لهما المجال ليعبثا بك مرة أخرى، ثم إن هذا الذي اقترفاه لن يمرّ دون عقاب، ففي بلادنا قانون يحمي الأطفال ويعاقب من يرتكب جرائم في حقهم، وهذه ليست جريمة بل جناية يا ابنتي.
ألا تعرفين أن تونس هي أول دولة عربية أنجزت مجلة قانونية لحماية الطفولة؟ فكيف نسكت عن هذه الاعتداءات الفاحشة؟ إن السكوت قبول ضمني بما يحصل للأطفال ضحايا اعتداءات الكبار، وهذا يتعارض كليا مع مجلة حماية الطفولة وحقوق الإنسان عامة والتي من بينها حرمة الجسد.
ما إن أنهيت هذا القول حتى فاجأتني أسماء بخروجها المباغت من المكتبة. ركضت وراءها ولكني لم أتمكن من إدراكها. لقد فرّت.
لمت نفسي. كان عليّ أن أتحكم في رد فعلي فأتصرف بحكمة حتى لا أترك لها فرصة الهرب، لأني لا أعرف شيئا عن مصيرها بعد أن تركتني والحال أنها جاءت لتستنجد بي. لعلها كانت تنتظر مني إيواءها أو التوسط لها عند والدها ليسامحها… ولكن ماذا فعلت المسكينة؟
الآن أدركت كم كنت غبية. هل يعقل أن لا أترك لها الفرصة لتحيطني علما بالغلطة التي قامت بارتكابها فثارت حافظة والدها بسببها؟
مرت أيام لم تظهر أثناءها أسماء، ولم تكن لدينا أيّ معلومة تفيدنا عنها. كنت قلقة متوترة وقد تحدثت مع مدير المؤسسة في شأنها فنصحني بالانتظار، وإن لم تظهر بعد أسبوع فسوف يتصل بالجهات المعنية ويقوم بما يلزم.
وقبل أن يأتي الأسبوع على نهايته بيومين تلقيت الخبر عن طريق ملاك الصديقة الحميمة والمقربة لأسماء. قالت:
– في ذلك اليوم التقتْ صديقتي بحبيبها وكان مصحوبا بصديقه. سار ثلاثتهم في اتجاه بيتها وقد أسدل الليل ستاره. كانوا يتجاذبون أطراف الحديث حين غيّر أحمد طريق العودة، ودون أن يترك لأسماء فرصة للانتباه أو التفكير، توجه بها صحبة صديقه إلى مكان مقفر حيث تداولا على اغتصابها والتنكيل بجسدها.
وغدان يتبجّحان بانتمائهما إلى شرفاء القوم يمزقان طفلة صغيرة ويغدران بثقتها ويتركانها تتخبط في فجيعتها ويطلقان أرجلهما للريح.
لملمت المسكينة بقاياها وجمعت شتات قواها الخائرة وعادت إلى البيت ووجدت والدها في الانتظار. تسلّمها بمجرد أن وطئت قدماها عتبة البيت واستنطقها، فأطلعته على الحقيقة ظنا منها أنه سينتقم لها من المجرمين ويأخذ حقها منهما، إلا أن ما حصل لم يخطر على بالها إذ سلط عليها جام غضبه واستعان بشقيقها عليها مبالغةً في عقابها على جرم كانت هي ضحيته، وأعلمها أن لا شيء يشفي غليله غير وأدها بيديه.
لقد تحولت أسماء في لمح البصر إلى عدوّة لدود لا يرضى والدها بغير موتها، إذ رهن حياة فلذة كبده في قطرة دم نزفت بغير رضاها في يوم اجتمعت فيه ثنائية رهيبة انتهك فيه رجلان غريبان جسد الطفلة البريئة فمزقاه، وحكم عليها بالوأد رجلان هما الأقرب إليها من أنفاسها.
فهل تبقى حياة جديرة بأن تعاش تلك التي تختزل في ثنائية شرف وعار يعلّقها المجتمع الذكوري المتخلف بين فخذي أنثى؟
تيقنت أسماء أنها غريبة تعيش في عالم ذئاب يتقنون عزلها ليسهل صيدها، وأن وجودها وعدمها كانا رهينيْ غِشاء شفاف وصدفة عبثية اجتمعا مرتين أهدياها الحياة ثم انهياها بوحشية.
هم وأدوا البنية أسماء يوم قرروا موتها، وسجلت في ذلك التاريخ الأسود بدفاتر الأموات ولكنهم في نفس التاريخ بعثوها حية إذ أعلنوا ميلادها الجديد فينا، وفي كل الأحياء المناضلين من اجل أن تتغير العقلية.
كلنا أسماء.