كل البشر حولي عناصر قابلة لأن تصير شخصيات في رواياتي
يتشقلب العالم كما مهرج السيرك، كيف إذاً لكل هذه الأمواج التي تحرك الهواء وتشعل النيران أن لا تترك أثراً؟ كل تغيير في العالم حولنا سيترك وشماً على دفاترنا وفي نصوصنا، سيغير شخوص رواياتنا كما تغيرنا نحن. هل سيد عبدالجواد يشبه أيّا من أبطال عمل روائي راهن؟ لا أظن، فلذاك زمانه، وللبطل الجديد زمن مغاير مختلف يهزأ بالبطولة وبالسيادة، وهل النسوة الجميلات الرومانسيات اللواتي جمّلن صفحات الروايات الأولى يشبهن النسوة المارقات الثائرات ذوات الصوت العالي اللواتي يتناثرن في روايات اليوم؟ طبعاً لا. إنه زمن يطيح بالمسلّمات والثوابت، وإذا كان بعض البشر يراوحون في مركز وقوفهم، ليشبهوا آباءنا الأولين، فإن شخوص الرواية، كل رواية، لا يمكن أن يقنعوا بمصير الموت ثباتاً، فالشخصية الروائية مدت برأسها أساساً إلى الحكاية لتغيرها، لتتمرد، لتقول كلاماً جارحاً حول صباح يبدو متسقاً هادئاً، إلا أنه صباح مخاتل غادر، هذا ما تعلمناه معشر الروائيين، وإذا لم يعرف التغيير طريقه إلى نصوصنا، فنحن محكومون بالفشل. الرواية لا تتطور شكلاً فنياً مشاركاً في الثورات النقدية في العالم فحسب، ولكنها تتطور موضوعياً، وعلى رأس هذا التطور المهم تقود الشخصية الروائية المعركة.
كل الوجوه التي تراها العين في الشارع تترك أثراً في الحبر، نظرة عابرة قد تصنع وحياً كبيراً، تشكّل مخيالاً عظيماً، فما بالك بالشخصيات التي لم تعبر بسلام، تلك التي خرمشت يدك، أو أنشبت أظافرها في ذاكرتك وأبت الرحيل، أو تلك التي دفعتك إلى تغيير مسير حياتك أو معتقداتك. كل البشر حولي عناصر قابلة وجاهزة لأن تصير شخصيات في رواياتي، أحبها أو أكرهها، علمتني أو أطاحت بي أو رفعتني، كلها سأطاردها في حارات الذاكرة، وأعيد صياغتها مجدداً، سأتعامل معها كجراح ماهر، أجمّلها أو أشوّهها وفق غاياتي، وأسير بها إلى حافة الهاوية وألقي بها بين دفّتي كتاب، وإن كنت أظن مرات عديدةً أنها هي التي تطاردني، أتلفّت فزعة، وأعرف أن بعضها يعايشني أكثر مما أعيش مع شخوص حولي أتعامل معهم في كل دقيقة على أنهم حقيقيون، بينما شخوص الرواية وهم، في لحظات الكتابة تسقط الحدود بين الوهم والحقيقة، فيتعانقان.
بئر الأمنيات وبئر الواقع بكل ثقله وبئر الأحلام التي تطير إذا ما طلع الصباح كلها مغذّيات أساسية لشخوصي، بل وأكثر، إذ بتنا ندرك أن الرواية ليست مجرد الحدث العظيم الذي وقع لشخصية ما مكتوباً في لغة محكمة، لكنها صورة للعالم المعقد، لهذا تنمو الشخصيات عندي وتتنوع، تصير الأمكنة شخوصاً، والشجرة التي تصنع المشهد تتحول لتصبح بطلة العمل كما تلك الأشياء الصامتة تحكي، تسجّل شهادتها على الحدث ووجهة نظرها فيما يدور في عالمها، لم تعد الشخوص مجرد هو وأنا وهي، العالم كله يتشخصن ليكون مدماك الرواية الأساسي.
قد أفضّل الرجال الأقوياء، والنساء الجميلات المتمرّدات، أفضّل البشر الذين يحفرون قاع الحياة وينبتون نبتهم الخاص، بحثت عنهم في أمنياتي وفي الأجداد والجدات والناس الذين يملكون سحراً خاصاً وعلامة فارقة، لكني أيضاً أبحث عميقاً في المهمشين والذين يمرون مروراً عابراً، أمنحهم مساحاتهم ليسجلوا ما حدث لهم كأنه الحدث الرئيسي في الكون، من حق كل الشخصيات أن تتمطى على ورق الرواية، وأن تظن أنها أكثر حضوراً واشد شجاعة وبأساً من عنترة.
ولأني أرى الحياة كلها رواية عظيمة بأمكنتها وبشرها وأحجارها وبحارها وأشجارها وحاضرها وتاريخها وصولاً إلى مقترحاتنا على مستقبلها القادم، فإني أغرف من كهف التاريخ كثيراً، لم أعتقد يوماً أن التاريخ درب للعودة إلى الخلف، أو سور منخفض يساعدنا على الهرب من الحاضر، نقفز من أعلاه بحثاً عن مسوّغات لعجزنا عن عيش الحاضر أو تقصيرنا في إبداع شخوص جديدة مفعمة بالحياة، لكنّي عالجته كأنه قائم، لإيماني العميق بأنه يسري في أوردتنا كما دمائنا، الشخصية التاريخية بذرة تساعد على إنبات شجرة جديدة، التاريخ يعلمنا ويفضح واقعنا ويكشف أسباب تساقط الأحداث في حياتنا الراهنة، كما يكشف طرائق نمو البشر وأسباب خياراتهم الصائبة أو المخطئة، يضع اليد على الجراح مباشرةً ويفسّر ما سيقع، وحين ألجأ إلى شخصية تاريخية أفيض بدارستها لأستعيدها كما لو أنها ماثلة، لا أكذب بشأن ما وقع لها، ولكني أجتهد، وأمنح خيالي رخصةً لكشف أسرار ظنها حدسي، أطرحها كجزء من وجهة نظري المعاصرة للأمور.
تخفّفت من الضوابط التي تحد من حرية النص، وبتّ أطلقه حراً مقللةً من شأن الرقيب الرسمي أو الذاتي، إلى حد كبير، وإن لم يكن كاملاً، وهذا ما يحدث للكاتب حين يتقدم في العمر وتنضج التجربة، لا أظن أن الشخوص التاريخية تحايل على الحاضر، ولا قناع يساعدني على مساحات من الحرية أو يتهرّب من استبداد الأنظمة، فالشخصيات القادمة من التاريخ قادرة على إدانة الظلم، وإعلاء شأن الحرية، ومجابهة الجهل مثل تلك التي تعيش بيننا، مثال شخصية “يحيى” في الرواية التي تحمل اسمه، والتي تمردت على الفهم الديني للحياة، وعلى استبداد الحاكم، ولم تتخلّ عن ربط ما وقع في الماضي عمّا يقع اليوم. نعم يضيق بعضنا بكل قضبان السجان، لكن الكلمات كائنات رشيقة تفرّ من أضيق الأماكن محمولة على الريح والضوء، الكلمات لا تخاف حتى لو خاف كاتبها، وليس كل ما تجربه من طرق لتقول إلا مسارات تعلمتها مع التجارب قد تكون طرقاً خلفيةً التفافيةً تصل إلى المحطة النهائية، وهذا في تقديري نموّ في الخيال الإبداعي، وليس نضوباً أو انكفاءً في النضال الفكري، أو تقصيراً في مجابهة الحياة بكل قسوتها ومظالمها.
هذا ليس دفاعا عن شخصياتي القادمة من التاريخ في سلسلة من أعمالي الروائية بقدر ما هو توضيح لدورها في نموي الإبداعي، فلقد منحتني تلك الشخصيات فهماً عميقاً لحاضري، بل وفتحت عينيّ على سعتهما لرؤية مثالب الحياة الراهنة، فاشتد انتباهي لشخصيات معاصرة نبتت من مخيالي، مستعينةً بكل ما عرفت في حياتي عن الإنسان وشروره، كتبت مؤخراً محاكمة حقيقة للمجتمع في روايتي “بقعة عمياء” رغم أني أميل دوماً إلى تجميل الحياة، لكن المرور بالكتابة التاريخية ساعدني على الوقوف عند أعتاب تلك البقعة العمياء التي يقع المجتمع عندها في خطاياه وانحرافاته.
هكذا ولدت شخصيات الحاضر مثقلةً بالأسى والفشل، وريثةً للهزائم والانكسارات، مختلة القيم. أنا نفسي فجعت بمصائرها وخياراتها، وكرهت شدة واقعيتها وشبهها بالبشر الحقيقين، وما زال ذلك الخيار في تعرية الإنسان من الداخل يتلبّسني، لهذا فإن بطل روايتي القادمة سيكون ذلك الإنسان المقيّد بالشر، إنه الورقة التي ألقيها أمام القارئ معترفةً بأن الإنسان الملاك مجرد خيال لم يوجد يوماً، وأننا خليط غريب من الطين والنار وسمّ الأفعى التي أغوت الإنسان الأول، قد يكون الوقت مبكراً للحديث عن الرواية التي ما زالت في طور التكوين، لكنها قادمة بشخصية لم تعرفها كتاباتي قبل ذلك، وإن تناثر شيء منها عبر النصوص القديمة، لماذا كل هذا الشر؟ وهل هو فقدٌ للإيمان بالخير؟ لا، ليس الأمر كذلك، لكنه رفع الستار عن الحقيقة التي تمثل الإنسان، سأفعل ذلك من دون اللجوء إلى التاريخ، فالحياة التي نعيش كافية لتطلق صرختنا الحبيسة، وكل ما يقع من أحداث في الزمن المعاصر يفوق الخيال، والإنسان لم يعد يخجل من كشف تشوهاته. روايتي القادمة ستعالج التوحش البشري بهدوء جراح، وستطلق الصرخة ببرود روائي يسخر من الحياة.
في كل هذا لا أحب أن أرسم لنفسي أو أن يرسم لي الآخرون حدوداً لحرية الكتابة، فالكتابة نفسها مشدودة بسلاسل غير مرئية، لكنها تمتلك وحدها القدرة على فك أسرها، وأظنني مع كل كتابة جديدة أعالج قفلاً أو حلقةً حديديةً تدمي رسغي، بلا حدود ، أظن أني مقبلة على تكسير ما أمكنني تكسيره، ومثلي يفعل آلاف الكتّاب. إننا نعيد صياغة العالم كما يحلو لنا.