كل شيء هادئ على كل الجبهات

الأحد 2021/08/01
والكثير من الصمت

منطقتنا تسبح بالمآسي. الفنانون التشكيليون سبقوا الجميع في تصوير هذه المآسي. لدى الفنانين التشكيليين قدرة سريعة على التقاط الصورة وتحويلها إلى أعمال فنية. هذه ميزة تحسب لهم. لكنها صورة أيضا مليئة بالبعد الدامي والحزين والصادم. أشياء لا تستطيع أن تحملها معك طوال الوقت. لوحات معارض وليست لوحات للاقتناء الشخصي. ولهذا فإن تأثيرها الصادم سريعا ما يتبدد، مرة بالنسيان ومرات بزحام الصور الحقيقية للمآسي التي تعيدها الفضائيات والمواقع والصحف بشكل مستمر.

لست خبيرا أو متابعا، لكن أعتقد أن ثمة خللا كبيرا في دور الأدباء في رصد المرحلة. هنا لا أقصد الشعراء فهم مكثرون – ربما أكثر من اللازم – في الوصف والعويل. الشعر عمل بصري مكتوب. الوصف فيه يعتمد المبالغات، ومثله مثل الآثار البصرية المأساوية للوحات والأعمال النحتية، لا يستطيع الصمود طويلا. هذا نص مليء بالبكاء. هذا نص آخر من شاعر آخر مليء ببكائيات أكثر. والحبل على الجرار.

الناقص هو الأعمال الروائية. مر وقت طويل على انطلاق الحروب الأهلية في عالمنا العربي. حروب أهلية شاملة أو جزئية. لكن الأدباء ساكتون. المشهد يغص بتجارب إنسانية كثيرة، لكن لسبب ما لا نجد الكثير من الأعمال الروائية التي تنقل لنا روح المرحلة. تجربة الحرب. تجربة التهجير. تجربة الجوع. تجربة اضطهاد اللاجئ من قبل أفراد في بلد اللجوء. تجربة احتيال اللاجئ. تجربة الهجرة إلى أوروبا. تجربة الحرب بعين الضحية. تجربة الحرب بعين القاتل. تجربة الجندي المجبور على القتل. تجربة الطائفي المتفاني في القتل. تجربة نساء دواعش. تجربة العيش في مدينة تسهر لوجه الصبح في حانات وهي محاطة بسلفيين ينتظرون الفرصة للانقضاض عليها. تجربة أئمة كذب ونفاق. تجربة وهم بالقادة.

الكثير من التجارب. والكثير من الصمت.

لنأخذ مثلا من تاريخ الشعوب. لنتخيل جدلا أن أوروبا لم تتفاعل أدبيا مع تجربتي الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، أو أن أدباء في الولايات المتحدة لم ينتبهوا للوقع النفسي على الناس، منتصرين أو مهزومين، بعد تجربة الحرب الأهلية. كيف سيكون الأدب الغربي إذا قرر أدباء أوروبيون أو أميركيون أن يسهوا عن هذه التجارب. الأدباء لم يكتبوا في حينها فقط، بل ثمة أجيال أعقبتهم تقلب صفحات كتب التاريخ وتكتب أدبا عن تلك المراحل من حياة الأمم، بكل مشاهدها القاسية والقبيحة والإنسانية.

لا يمكن، على سبيل المثال، أن تفهم عمق التأثير الذي ضرب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى من دون الاطلاع على رواية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” لأريك ماريا ريمارك. لا يمكن أن تفهم لماذا صعدت النازية بعد الحرب لتقود أوروبا إلى حرب أخرى من دون متابعة قراءة روايات لريمارك التالية ومن عاصره من روائيين كانوا في قلب الحرب، سواء على الجبهة أو في مآسي العوز والآلام في المدن أو في وجوه الجنود العائدين.

الوصف الروائي الإنساني مذهل في “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”. هذه ليست رواية توثيقية وسردا عابثا. عندما يفهم الجندي الذي ذهب مندفعا إلى الجبهة أن الموت ليس مغامرة تعود منها، فإن حياته تتغير. هذا ليس وصفا لمشاعر الخوف من الموت. كلنا نخاف من الموت. لكن أن تذهب إلى الجبهة بوصفها مغامرة مثلما تقوم بنزهة كشفية، ثم تتعرف على الموت هناك ليس بصفته المجازية، هنا يحدث الفارق وترصد المعنى الحقيقي لفكرة محاولة النجاة، بل ماذا يعني البقاء. هؤلاء جنود عادوا بهذا الانطباع، ورصدتهم الرواية. هذا ما أرى أنه وأمثاله من هذه التجارب مفقود في أدبنا الروائي في عصر الحروب الأهلية العربية.

لم أسمع عن روائي عربي أو كردي واحد يقوم الآن بعملية توثيق لشهادات ضحايا أو مجرمي الحرب. هذه فرصة تاريخية قبل أن تكون أدبية. أنت في قلب المعمعة في حلب أو الموصل أو طرابلس. هذه قصص وحكايات يمكن أن تنسج في أعمال روائية. ألم الضحية. متعة القتل. غرائزية الدوافع. مشهد شيعي للقتل. مشهد سني للقتل. مشهد جوع. مشهد لأسر تجوع وتستمر بالإنجاب. مشهد لمهرب للبشر. مشهد لمهرب آخر يرى في الحرب في بلده فرصة لتهريب أفارقة أو أفغان. مشاهد اغتصاب، شرعية بحجة تزويج القاصرات للسترة، أو اعتباطية في لحظة سكر لحارس على معتقل أو على مركز مهاجرين. حرائق للمخيمات. حرامية وسراق من بيننا. هدايا كتب لأطفال بمعدة فارغة. قصص عن خطط محكمة للهجرة.

لست أديبا ولكني قارئ ينتظر. لا أريد أن أكثر من الرصد لما أعتقد أنه فات على الروائي العربي أو الكردي. لكن بعيونهم لو صدقناها، لا نرى إلا صمتا، وأن كل شيء هادئ على كل الجبهات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.