كيف تتحول الانتفاضة إلى ثورة
في إجاباته عن “الحوار” يشرح تيزيني الكيفية التي أسهم بموجبها إخفاق المشاريع الفكرية النهضوية، أو بتعبير آخر، تراجع أصحابها عن مواقفهم العقلانية التنويرية، في تمهيد الطريق أمام الخطاب الإسلامي المتشدد راهنا، هذا الخطاب الذي تجسّد في العودة إلى مرحلة التوحّش التي سبقت تاريخ الإنسان العاقل.
أعتبر تيزيني الإقرار بصيغة من التوحيد بين الفعل الثوري والعنف المسلح. ويشير إلى أن النظام الاستبدادي هو الذي أسهم في ترسيخ هذا الانطباع في الحالة السورية، ليسوّغ عنفه غير المسبوق ضد المجتمع السوري؛ والعنف بصورة عامة مألوف معتمد من قبل الأنظمة الاستبدادية.
تعود علاقتي الفكرية مع أستاذي الطيب تيزيني إلى بدايات سبعينات القرن المنصرم؛ إلى أيام دراستي الجامعية الأولى في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بكلية الآداب – جامعة دمشق. وأذكر في هذا المجال بأن أول كتاب قرأته له كان “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” 1971، دار دمشق. وما لفت انتباهي منذ ذلك الحين في نتاج تيزيني العلمي هو المنهج المتماسك، واللغة السلسلة الرصينة، والصبر البحثي في تناول القضايا. وقد كانت موضوعات التراث والأصالة والمعاصرة تجسّد المحاور- الهواجس التي تتمفصل حوله جهود الباحثين والمفكرين العرب في ذلك الحين. وذلك في محاولات منهم لتلمّس ملامح طريق يمكّن المجتمعات العربية من تجاوز واقعها غير المرغوب فيه نحو نهضة تعيش عصرها، وتحافظ في الوقت ذاته على الثوابت في هويتها القومية والحضارية.
ثم تعمّقت هذه العلاقة في مرحلة الماجستير أوائل الثمانينات، وذلك بعد أن تسلّم مهمة الإشراف على رسالتي نتيجة مرض الأستاذ الدكتور صادق جلال العظم مشرفي السابق. وقد تحوّل مجال بحثي نتيجة ذلك نحو التراث وقضاياه، بعد أن كان تركيزه الأساسي على المنطق ومسائله. وقد ساعد موضوع الأطروحة على هذه النقلة الفكرية؛ إذ أن اختياري كان قد وقع على فكر زكي نجيب محمود الفلسفي؛ وكان مخطط البحث يتناول المراحل الثلاث في تطوره الفلسفي وهي: المرحلة الميتافيزيقية؛ والمرحلة الوضعية المنطقية؛ ومرحلة الاهتمام بالتراث. وقد كان الدكتور محمود نفسه قد وافق على ذلك التقسيم.
وتعمّقت علاقتي أكثر مع الدكتور تيزيني في مرحلة الدكتوراه؛ إذ كنا نلتقي باستمرار لمناقشة مختلف المسائل التي كانت لها علاقة بأطروحتي وكان موضوعها: من الوعي الأسطوري إلى بدايات التفكير الفلسفي النظري – بلاد ما بين النهرين تحديداً (تمت مناقشتها في صيف عام 1991)، ولكن إلى جانب ذلك كنا نلتقي ضمن مجموعة من طلبة الماجستير والدكتوراه يشرف عليها المفكر تيزيني بصورة شهرية؛ وكانت اللقاءات تخصص لمناقشة مختلف الإشكاليات الفكرية الخاصة بموضوع كل طالب. كما كنا نناقش القضايا المتصلة بمنهجية البحث وأدواته النظرية. كنا نسمي المجموعة: مجموعة البحث العلمي، ولا أنكر هنا بأنني قد استفدت كثيراً من المناقشات الفكرية التي كانت تتم ضمن إطار تلك المجموعة.
وفي منتصف تسعينات القرن الماضي غادرت دمشق إلى السويد، وذلك بعد أن انسدّت الآفاق أمامي في وطني، وانقطع التواصل الشخصي بيني وبين المفكر تيزيني، ولكن التواصل الفكري ظل، وما زال مستمراً حتى هذه اللحظة. وعليّ أن أعترف هنا بأن ما تعلّمته من سلوكية المفكر تيزيني لا يقل عما تعلّمته منه ضمن نطاق البحث العلمي؛ وقد حاولت جهد المستطاع أن ألتزم سلوكه في التواضع، والبساطة، والقرب من الناس، والعصامية النبيلة. هذا إلى جانب حرصه على المشاركة المستمرة في مختلف الفعاليات الثقافية الطلابية والفكرية، التي كانت تشهدها دمشق في مرحلة الثمانينات داخل الجامعة وخارجها.
يقرّ تيزيني بإمكانية إنجاز قراءة عصرية للنص، وذلك للمصادرة على المسوغات “الشرعية للتشدد” إذا صح التعبير، ويشير إلى وجود محاولات سابقة، كانت واعدة، ولكنها لم تستثمر، ولم تتحوّل إلى مشاريع واقعية مؤثرة
مقدمات وآفاق
الحديث مع المفكر تيزيني ممتع دائماً. يفرض الرجل احترامه وهيبته من دون أيّ تكلّف. يحرص باستمرار على التقاط العام المحوري الذي يضفي المعنى على التفصيلات، ويحدد وظائفها؛ وينقذ المرء من متاهات الفكر اليومي.
يتناول الحوار الفكري هذا مع المفكر تيزيني مقدمات وآفاق ما جرى ويجري في سوريا، والعديد من الدول العربية. وما نلاحظه هو أن مفكّرنا ما زال يعتمد أدوات المنهج العلمي لمقاربة وضعية تبدو لا عقلانية، عصية على أيّ تناول منهجي عقلاني. ففي إجابته عن السؤال الخاص باللحظة المناسبة التي طالما تحدّث عنها، وانتظرها، وانتظرناها معه، يدعونا المفكر تيزيني إلى اعتماد مفاهيم: البنية والسياق التاريخي والوظيفة، لمعرفة طبيعة الجهود التراكمية التي كان من شأنها نقلنا إلى تخوم اللحظة المناسبة لتجاوز الواقع مسدود الآفاق. ولكن الحامل الاجتماعي الجديد للتغيير لم يتمكن بعد من إنجاز مهامه، وذلك نتيجة التراكمات السلبية التي كانت بفعل جهود الدولة الأمنية، تلك الدولة التي وصف تيزيني منذ الثمانينات شعارها بدقة وجرأة تستحقان كل التقدير: إفساد من لم يُفسد بعد، وإدانة الجميع حتى يكونوا تحت الطلب.
فما حدث في سوريا منذ أكثر من أربعة أعوام كان يوحي بتحوّلات مستلهمة من المستقبل، تضمن العمل والكرامة لأجيالنا القادمة. ولكن عوامل كثيرة تضافرت فيما بينها، لتأتي جهود التغيير أضعف من أن تواجه الحاضر المثقل بعوامل الكبح؛ هذا الحاضر المستند إلى ترسانة الاستبداد الرباعي – على حد تعبير تيزيني- الذي تعاني منه المجتمعات العربية. وما يعنيه بهذا الاستبداد هو الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام، وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في “أن الحزب الواحد الحاكم يقود –مع قائده- الدولة والمجتمع″.
فقد أدّى هذا الاستبداد إلى تفكك الطبقة الوسطى، وتلاشٍ لافت للطبقة البرجوازية العليا التي “فُتّتت وتحلّلت في مجموعة من المافيات المالية”. هذا إلى جانب غياب الحياة السياسية في البلد. ومن هنا كان هذا “الانفجار السلمي” نتيجة الضغط المستمر، وعدم وجود النوافذ التي كان من شأنها “التنفيس ولو بحدود أولية”.
ويحمّل تيزيني النظام مسؤولية ما حدث لعدم محاولته قراءة أهداف الثورة السورية – من الملاحظ أنه يستخدم مصطلح الانتفاضة- السلمية التي استمرت لمدة ستة أشهر؛ بل أصرّ على خيار مواجهتها عسكرياً، وبعنف غير مسبوق؛ متكئاً على ذريعة روّجها بنفسه، مفادها أن ما يجري لا يخرج عن نطاق مؤامرة كونية، “وكل ذلك أدّى إلى تدخل عسكري من قبل إيران وصنيعها حزب الله وروسيا”.
ومع فرض العسكرة على الثورة، تراجعت أصوات المثقفين، وقلة من السياسيين اليساريين من الشيوعيين والبعثيين، ومن فلول التنظيمات القومية العربية؛ وتعقّد الموقف، وأصبحت الورقة السورية جزءاً من عملية تصفية الحسابات الإقليمية، وتفاعلاتها الدولية.
ويتوقّف المفكر تيزيني عند أزمة التيارات والتنظيمات الإسلامية التي تمزّقت تنظيمياً ووجدانياً بين توجهات معتدلة، وأخرى متشددة، الأمر الذي أدّى إلى نشوء ظواهر دينية في غاية “التشدد والوحشية وفي مقدّمتها داعش”.
الخطاب الغائب
وفي تناوله للسؤال الخاص بالخطاب الغائب لدى القوى الشبابية التي قادت الثورة، يشير تيزيني إلى صيغة من التمازج بين الأفكار الإصلاحية والثورية في طروحات تلك القوى؛ التي طالبت بالإصلاح في بداية الأمر. ولكن ارتفاع منسوب العنف من جانب النظام دفع بالقوى المعنية إلى المطالبة بإسقاط النظام، والدعوة إلى التغيير الجذري.
إلا أن الخطاب الشبابي لم يكن ناضجاً بصورة عامة؛ وكان ذلك حصيلة طبيعية لانعدام الحياة السياسية الفاعلة في البلد، وذلك بعد استئصال الخطاب السياسي في سوريا منذ بواكير الوحدة السورية-المصرية، وبموافقة عبدالناصر نفسه.
من الواضح أن قسوة الواقع المعيش قد أضفت مسحة سوداوية خاصة على تفاؤلية المفكر تيزيني المعهودة
ومن الملاحظ أن تيزيني رغم ذلك، يبقى متفائلاً من جهة أن الخطاب الشبابي المواكب لطبيعية مقتضيات الوضع ما زال ممكناً، رغم الجهود التدجينية التي خضع لها من قبل الخطاب التقليدي لمختلف بقايا التنظيمات السياسية التي كانت فاعلة في يوم ما.
وفي إجابته عن السؤال الخاص بالدين والثورة، والتحوّلات التي طرأت على الفكر الأصولي؛ وحول مدى إمكانية إيجاد قراءة للنص الديني قادرة على مواكبة الظروف التاريخية والاجتماعية الآن وهنا؛ يحمّل تيزيني الإسلاميين مسؤولية عدم الإسراع في الوصول إلى قراءة عصرية للنص. كما أن مواجهتهم للعلمانية -التي يرى أنها مشتقة من العالم وليس من العلم- وضعتهم في مواجهة مختلف الاتجاهات الأيديولوجية والتنظيمات السياسية في سوريا.
ولكنه في المقابل، يرى أن الحملات القاسية التي تعرض لها الإسلاميون في سوريا خلال فترة الثمانينات قد حوّلت مجال اهتمامهم إلى الداخل السوري، وليس إلى خارجه عبر ثنائية الغرب “في الخارج والمجتمعات الإسلامية العربية في الداخل”.
ويرى تيزيني أن العلاقة مع الغرب باتت محكومة في يومنا الراهن بالرغبة في الاستقواء به لغايات عسكرية وسياسية في المقام الأول، وذلك على حساب المقتضيات الأيديولوجية.
ويقرّ تيزيني بإمكانية إنجاز قراءة عصرية للنص، وذلك للمصادرة على المسوغات “الشرعية للتشدد” إذا صح التعبير، ويشير إلى وجود محاولات سابقة، كانت واعدة، ولكنها لم تستثمر، ولم تتحوّل إلى مشاريع واقعية مؤثرة.
خطاب المواطنة
وفي تناوله لفكرة إمكانية عودة ثقة العربي بمفهوم دولة القانون والحقوق، بعد إخفاق المشروع القومي نتيجة النزاعات العربية-العربية، وسيطرة الأنظمة القمعية. وبعد انتشار الإسلام المتشدد، يؤكد تيزيني أن المجتمع المدني الذي يسوده القانون والتعددية الحزبية والفكرية، ويقوم على أساس التداول السلمي للسلطة واستقلالية السلطات؛ يظل هو الإطار الذي يمكن أن يجمع بين سائر التيارات؛ ويوفّر المقدمات للحوار والتقارب فيما بينها. هذا مع إقراره بأن الأيديولوجيا الماضوية – بوجهيها القومي والإسلامي- التي تشدد على أهمية العودة إلى الأصول” النقية” لتجاوز الخراب قد فشلت في منح ما كانت تبشّر به.
وحول مدى إمكانية إعادة تشكيل خطاب المواطنة والسيادة والقانون في ظل العولمة والموروث القمعي الديني، يبيّن المفكر تيزيني أن المؤسسات التي يدعو إليها هذا الخطاب لم تتشكّل أصلاً؛ لذلك لا بد أن نعيد النظر في مدى مشروعية السؤال ذاته، أو في طريقة طرحه.
أما فيما يتصل بمشروع اليسار، فيبدو أن آفاقه قد باتت مسدودة، وذلك نتيجة توزّع أصحابه بين مناصرين للتدخلات الخارجية؛ وآخرين يدعون بهذه الصورة أو تلك إلى إعادة إنتاج النماذج القمعية. وفي هذا السياق، يرفض تيزيني الإقرار بصيغة من التوحيد بين الفعل الثوري والعنف المسلح. ويشير إلى أن النظام هو الذي أسهم في ترسيخ هذا الانطباع في الحالة السورية، ليسوّغ عنفه غير المسبوق ضد المجتمع السوري؛ والعنف بصورة عامة مألوف معتمد من قبل الأنظمة الاستبدادية.
واللافت هنا دعوة تيزيني إلى التمعّن في الواقع السوري لاستنباط حلول من شأنها الإسهام في إنتاج الخطاب الثوري وممارسته ضمن المؤسسات؛ وذلك عوضاً عن البحث عن تجارب سابقة؛ فلكل حالة خصوصيتها التي لا بد أن تُستوعب جيداً.
أما بخصوص مخاطر الانفصال أو التقسيم سورياً، لا سيما بعد الهزّة العميقة التي تعرّضت لها فكرة القومية العربية، فإن تيزيني يقرّ ببروز توجهات تقسيمية، ولكنه يراها غير واقعية، لأنها تجابه عوائق كثيرة دولية واقتصادية؛ هذا إلى جانب تناقضها مع المخزون الوطني السوري والقومي العربي. ومن الملاحظ أنه يستثني في هذا المجال الكرد.
ولكنه في الوقت ذاته، يسلّم بحقيقة مفادها أن النظام الاستبدادي قد دفع بالأمور نحو التقسيم، وأحدث شروخاً وانهيارات كبرى في الكيان المجتمعي السوري.
المراجعة النقدية
وحول سيادة الخطاب الديني بكل مستوياته في دول الربيع العربي، يلاحظ تيزيني تحوّل الإسلام من دين للشعب أو للمسلمين إلى دين للإسلاميين؛ الأمر الذي جعله صيغة من الأيديولوجيا، أتت على حساب الإسلام الشعبي الذي كان في مقدوره التكيّف مع توجهات الربيع العربي. في حين التقى التطرف الديني مع النزعات المذهبية والإثنية والطائفية.
وللخروج من هذه الوضعية، وحتى تتحوّل الانتفاضة إلى ثورة – على حد تعبير تيزيني- لا بد من الإطاحة بكل التراكمات السلبية، والتأسيس لحركة سياسية مدنية وطنية، لتكون مقدّمة لتشكيل مجتمع ديمقراطي تنويري؛ يصادر على احتمالات النزاعات والصراعات الدينية والإثنية والطائفية.
وبالتناغم مع هذا التوجه، يشرح تيزيني الكيفية التي أسهم بموجبها إخفاق المشاريع الفكرية النهضوية، أو بتعبير آخر، تراجع أصحابها عن مواقفهم العقلانية التنويرية، في تمهيد الطريق أمام الخطاب الإسلامي المتشدد راهناً، هذا الخطاب الذي تجسّد في العودة إلى مرحلة التوحّش التي سبقت تاريخ الإنسان العاقل.
ويعتقد تيزيني أن الوقت قد حان لإجراء مراجعات نقدية كبرى، تأخرت كثيراً بفعل “خطاب القتل والدم وحزّ الرؤوس″. وهو لا يستبعد حدوث أعمال انتقامية بين الشرق والغرب، نتيجة تفاعل مآلات التوجه الداعشي المتوحش، والنظام العولمي اللاإنساني.
المنطقة بأسرها تعيش مخاضاً عسيراً لم تتحدّد ملامح حصيلته بعد. والجهد الفكري الرامي إلى استيعاب ما يجري لم يرتق بعد إلى مستوى المطلوب. وهذا ما يضع المفكرين أمام جملة من التحديات، يعمل تيزيني من جانبه على أداء قسط من المهمة عبر كتاباته وأبحاثه.
كان هذا عرضاً سريعاً لما وجدناه من النقاط المفصلية التي تمركز حولها الحوار مع تيزيني. وهو حوار هام من دون شك، ومطلوب وسط هذه المعمعة الكبرى التي لا تترك للمرء أيّ فرصة حقيقية لإعادة ترتيب أفكاره، وإجراء مراجعات نقدية تؤهله لالتقاط المركزي المحوري ضمن وضعية التفصيلات اللانهائية؛ واستشفاف ملامح الآتي المتوقع بغية الاستعداد له، ومحاولة التأثير الإيجابي فيه.
للخروج من هذه الوضعية، وحتى تتحوّل الانتفاضة إلى ثورة – على حد تعبير تيزيني- لا بد من الإطاحة بكل التراكمات السلبية، والتأسيس لحركة سياسية مدنية وطنية، لتكون مقدّمة لتشكيل مجتمع ديمقراطي تنويري؛ يصادر على احتمالات النزاعات والصراعات الدينية والإثنية والطائفية
أدوات جديدة
ومن الواضح أن قسوة الواقع المعيش قد أضفت مسحة سوداوية خاصة على تفاؤلية المفكر تيزيني المعهودة. هذه التفاؤلية التي تبقى فاعلة رغم كل شيء؛ لذلك تظل الرؤية حالمة، تنتظر الجديد الذي نعقد عليه الآمال. الجديد الذي يتمثّل في الطاقات الشبابية الواعية الناضجة التي كانت الثورة بها ومن أجلها.. فمن المفروض أن تتمكّن هذه الطاقات من بلورة رؤيتها لمجتمعها على أساس القطع مع الاستبداد بكل صيغه، و تجاوز الحطام البائس الذي خلّفه. وإيجاد الأدوات المطلوبة لتحويل تلك الرؤية إلى واقع ملموس مادي على الأرض؛ وإلا ستظل في عداد التمنيّات الوردية التي لا يمكنها بأيّ شكل من الأشكال التغطية على التشوّهات الداخلية الكبرى، التي تجذرت في الجسم الوطني على مستوى الجماعات والأفراد.
الوضعية الجديدة التي نعيشها تستوجب منظومة مفهومية جديدة، وأدوات معرفية جديدة. فالأولوية هي للواقع – كما أشار إلى ذلك تيزيني- لا للتصورات التي نحاول أن نشكّل توقعاتنا ضمن قوالبها. وبناء على ذلك كنت أتوقع من المفكر تيزيني أن يتوقف بمزيد من الصبر والعمق عند المآسي التي أحدثها المشروع القومي البعثي في سوريا؛ هذا المشروع الذي أجهز على المشروع الوطني عبر محاولته فرض صورة أحادية المنحى على واقع متعدد متنوع بطبيعته. فالتعددية المذهبية والدينية والقومية واقع معيش قائم، لا بد أن نتفاعل معه بحكمة وموضوعية على أساس احترام الحقوق والخصوصيات، ضمن إطار وحدة الوطن؛ كما أسس المشروع البعثي لتوجّه فاشي استبدادي رافض للآخر المختلف على كل المستويات.
أما أن نغض النظر عن التحوّلات الكبرى التي كانت بفعل ما حدث ويحدث، فهذا لن يمكّننا من تقديم ما يعزز الثقة بإمكانية بناء مؤسسات حقيقية لمجتمع مدني ديمقراطي يطمئن الجميع قولاً وفعلاً.
بقي أن أقول: إنني أشكر الأخوة في مجلة الجديد، وأشكر الأخ العزيز الشاعر المبدع نوري الجرّاح، لإتاحة هذه الفرصة لإجراء حوار وجداني فكري مع إنسان نبيل أحب سوريا العزيزة بإخلاص.