كيف تجد معنًى لأيامك في العزل

الأربعاء 2020/04/01
صيغة خيالية للتعامل مع أيّام العزل (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

1

إذا كنت تجلس مثلي لساعات طويلة في غرفتك تحت العزل الإجباري ولا تجد شيئا تفعله، ضع لنفسك خطة يكفي تنفيذها أسبوعا بشرط أن تحميك من الملل ومن الوسواس القهري.

كنت قد ترجمت لتوي قصيدة للشاعر ألموج بيهار بعنوان “كيف تختفي داخل جسد امرأة”؛ وهي قصيدة يحاكي فيها نص الكاتب المصري هيثم الورداني “كيف تختفي”، فكان أول ما فعلته هو معاودة قراءة النص العربي ومحاولة تتبع نصائح الورداني الإرشادية في كيفية الاختفاء حتى نهاية فترة الحجر، ثم تطبيق إرشادات معاودة الظهور مرة أخرى بعد مرور العاصفة.

كانت تلك هي الصيغة الخيالية كي أتعامل مع أيّام العزل، أما الصيغة العملية فتمثلت في وضع خطة بديلة تمرر الوقت وتحميني من الملل – الذي أنا بارعة في ممارسته حقا -، وتجعلني أتغلّب على وسواس الإصابة المؤكدة.

احترت في ترتيب البنود؛ فكانت عاداتي الروتينية تقفز أمامي فارضة نفسها على الخطة وهو ما كنت أتجنبه؛ فالخطة هدفها الأساسي القضاء على الملل ولن تساعدني عاداتي في ذلك، خاصة بعد أن أجبرني العزل على تغييرها أو إضافة عادات يومية جديدة مربكة. فمع تنفيذ إجراءات السلامة الصحية للوقاية من الفايروس، وضعت قائمة بالكتب المؤجلة التي لم يسمح لي الوقت بقراءاتها سابقا، وأخرى بالكتب التي أرغب في إعادة قراءتها. وإذا كانت تساعدك العناوين فهي – إلى جانب “كيف تختفي” للورداني – كالتالي: ثلاثية أغوتا كريستوف “الدفتر الكبير – البرهان – الكذبة الثالثة”، الأعمال الشعرية الكاملة لبسام حجار، وكان الكتاب المناسب لتلك الفترة هو “فن اللامبالاة” لمارك مانسون.

2

تغلب على إحساسك بالملل وابتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي وتحلّى بالجهل حتى تنعم بالراحة، ونم أطول عدد من الساعات.

ساعدتني تلك القائمة في الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، وهنا أعترف بإصابتي بالذعر كلما سمعت أخبارا عن عدد الإصابات المتزايد وما يستجد على عدد الوفيات كذلك.

قمت بالالتزام بعدم التطلع إلى شاشة الفيسبوك، كإجراء يتماشى مع اجراءات السلامة الصحية والنفسية التي قررت تطبيقها، ورغم ذلك أصر الأصدقاء على دعوتي لصفحات التوعية بفايروس كورونا وعلى إضافتي في مجموعات الواتساب المهتمة بالأمر نفسه، فما كان مني إلا تفعيل خاصية “عدم الإزعاج” ولمدة عام.

اعتقدت أن الجهل بالمعلومات يناسبني، مطبقة مقولة “مارك توين” بأن كل ما أحتاجه للنجاح في الحياة هو الجهل والثقة؛ خاصة بعد اختباري لأعراض الإصابة بالمرض حتى لو كانت أعراض وهمية، فمشاعر الخوف كانت سريعا ما تنتقل إليّ في صورة من نوبات الهلع مع كل صوت من إشعارات الفيس بوك والواتساب، فأصبحت أتخيل الفايروس بتيجانه المميزة يهاجم حنجرتي وينغرس داخل رئتيّ.

ورغم أن الأزمة إنسانية عامة أصابت العديدين على سطح الكرة الأرضية؛ فإن مشاعر الخوف – أو لنقل مدى الإحساس به – هي مشاعر فردية، تماما مثل شعار التوعية “خليك بالبيت” (stay home) فاحتمالية تطبيقه فردية، فهناك العديدون ممّن لا يملكون بيتا – بمعناه الحقيقي أو المجازي – لذلك كان عليّ أن أجد الصيغة المناسبة لأتغلب على مشاعر الخوف أو على الأقل أحدّ من تأثيره، فكان النوم لأطول فترة ممكنة سبيلي في ذلك.

3

إذا كنت تحبّ الشعر مثلي، ردد لنفسك الأبيات الشعرية التي تحبها والتي تنمي داخلك المشاعر الحيادية تجاه الأمر؛ فلن تأمن عواقب الانحياز.

كانت جملة محمود درويش -الختامية بالذات- “في البيت أجلس، لا حزينا لا سعيدا، بين بين” هي الجملة التي سيطرت على تفكيري وبت أرددها لمرات. أنا، التي لا أقف من المشاعر إلا على طرفي نقيض، دربت نفسي على الحياد؛ فلا داعي للانحياز إلى الأمان الزائد الذي يجعلني أتنازل عن الحرص، أو إلى الوسواس المرضي الذي قد يحرمني من ممارسة الحياة.

4

قم بتغيير شعاراتك، فقد تغدو أنت استثناء القاعدة.

بدأت أشك في فاعلية بعض قناعاتي الخاصة، مثل قاعدة “يحدث للآخرين فقط” خاصة بعد إصابتي بالأنفلونزا، لم أكن أعرف حينها إن كانت الأنفلونزا أم كورونا؛ لذلك انتقل خوفي من إطار الذاتية إلى نطاق الغيرية.

ورغم التزامي بجانب الجهل؛ فإنني اطلعت على فيديوهات طرق حماية الآخرين من انتقال العدوى، وتعلمت حساب النقاط التي تفرق بين أعراض كلا الفيروسين والتي جاءت متساوية لتجعل الاحتمالين قائمين.

لم يكن الموت هو ما يقلقني، لكن ما قد يسبقه من آلام، وأكثر ما أرّقني هو خوفي على من يلازمني خاصة أمي؛ التي أقضي الليل برفقتها لمشاهدة حفل أم كلثوم ثم نتابع حلقتين من المسلسلات الأجنبية التي تحبها؛ وأختي نهلة التي أشاركها الغرفة نفسها ونقضي ساعات طويلة سويا في الدرس والمذاكرة، وفي اللهو والمشاكسة كذلك.

فارتيدت الماسكات والقفازات داخل البيت طالما كنت أشعر بأعراض المرض من سعال وارتفاع واضح في درجة حرارة جسدي. وبعد انحسار الأعراض تخليت عن الماسك والقفاز، لكن لم أتخلّ عن تطهير الأسطح والمقابض وشاشات التلفزيون واللاب توب والموبايلات.

قم بتغيير شعاراتك، فقد تغدو أنت استثناء القاعدة (لوحة الفنان فؤاد حمدي)
قم بتغيير شعاراتك، فقد تغدو أنت استثناء القاعدة (لوحة الفنان فؤاد حمدي)

5

طبق الطرح الفوكوي ومارس سلطتك على جسدك وانشغل بتحديد متطلباته الجديدة وتكيف مع مساحاته الملزمة.

يرى ميشل فوكو أن الجسد “هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها”، ويؤكد دافيد لوبروتون كذلك على أن “الشرط الإنساني جسدي في الأساس”. وقد مارستُ سلطتي المحدودة على جسدي، بعد أن مارستها عليّ السلطة الأكبر التي يمتلكها الفايروس المهدد لشرط وجودي الإنساني.

وعاودني من جديد كابوس التآكل من الداخل، والآلام التي قد تصاحبه حتى أتلاشى تماما، صحيح أن الألم دليل على أن جسدي يعمل بكامل كفاءته؛ لكنه مؤشر الانهيار كذلك؛ فما كان عليّ إلا أن أحارب هذا “التآكل الداخلي” بمحاولات ترميم خارجية. ليسجل جسدي هذه الفترة رقما قياسيا في امتصاص العقاقير المعززة للمناعة وفي استقبال الفيتامينات المقوية، وعرف الكحول طريقه إلى يدي، ورغم ما يسببه من جفاف فإنني وجدت حلا فعالا باستخدام الكحول نهارا ومرطبات الأيدي ليلا.

لم يكن تحديد المسافات صعبا؛ فأستطيع أن أحافظ على المسافات جيدا، لكن إلزام يدي بعدم ملامسة وجهي كان التحدي الأكثر صعوبة لعادتي الغريبة في الحك فوق أنفي أثناء التفكير أو في أوقات الانشغال، فلم يكن هناك حلّ سوى عدم التفكير – وهذا مستحيل – أو البقاء مكتوفة الأيدي أثناء وجودي خارج البيت – وهو ما وجدته مناسبا -.

6

لا تجعل خيباتك في بعض البشر تسطير عليك وتذكر أنك خيبة أخرى لغيرك، وأحط نفسك بمن يهتم بك وبوجودك.

علمت أنها الفترة الأمثل لتداعي الذكريات الخاصة بكل الخيبات التي تعرضت لها من البشر – أصدقاء أو أحباء -، وتذكرت كوني خيبة محتملة في حياة الآخرين أيضا، فساعدني الابتعاد عن “دور الضحية” على تخطي تلك الذكريات وعدم السماح لها بالسيطرة على أفكاري.

بل وجعلني أكثر تسامحا حيال غياب بعض الأشخاص، الذين لم أتوقع انشغالهم عني في تلك الفترة، والتمست لهم العذر؛ ولنفسي كذلك للوقوع في الخطأ نفسه. واكتفيت بهذا العدد القليل – لكن الحقيقي – ممن يحيطون بي.

7

إذا تجدّدت مدة العزل، ضع لنفسك خطة أخرى تحميك من الملل ومن الإصابة بالوسواس القهري.

مع تجديد فترة العزل مرة أخرى، بدأت في طرح أفكار عن نهاية العالم المحتملة، وتساؤلات عن عصر نهضة جديد قد نشهده بعد انحسار الوباء؛ إلا أنني مللت من هوس تطبيق كل القواعد السابقة – قد يكون هذا تصرفا خاطئا، لكن “القدرة” نفسها على تكرار الأشياء فقدتْ فاعليتها على العمل -؛ فقررت العودة لعاداتي القديمة والتوقف عن التعامل مع العزل بوصفه عزلا إجباريا، واستلمت لطبعي في حب الوحدة واستمتعت بأمان الانعزال الذي طالما اخترته نهجا للحياة ووسيلة للنجاة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.