كينونة الدمشقي
من البديهي أن تكون دمشق في قلوبنا جميعاً، إذ أنها كانت دائماً مآلنا وقمة ما نطمح إليه من آمال وأحلام. إلا أن دمشق تحولت على يد كاتبنا الكبير خيري الذهبي إلى شيء أكبر وأبعد من هذا كله، حتى أنها بدت تماثل الأسطورة وتتجاوزها في الكثير من الأحايين. فإذا كانت البيوت الشامية “قارورة من الياسمين” كما كان يسميها نزار قباني مجازاً، فلا شك بأن خيري الذهبي كان أول من اخترق مكنوناتها الحقيقية وقدم لنا ما يشدنا ويربطنا إليها دون أن نعرف من أين وكيف تنبع هذه الجاذبية الساحقة. فمن اللهجة، إلى النباهة والرقة، وفوق كل شيء إلى تلك العادات الحميمة التي تشعرك بالوقار أمام عظمتها وتقاليدها الراسخة في الزمن، تمكّن عبر رواياته أن يرسم لنا كل خفاياها وملامحها، وإن بدت أحياناً ملتبسة، مثل شبابيكها التي لا تنفتح على مدى ضوئي مديد. وما خطته السنين، جعله كاتبنا الكبير متواتراً يلج القلب دون أيّ وساطة. فأنت هنا أمام مقاربة تحتفي بحياة أقدم مدينة في العالم وبأناس حالما تسمع لهجتهم الرقيقة، يقفز بك الخيال إلى أسلوب حياة تتلهف إلى أدق تفاصيلها، والتوقف مطولاً أمام أسماء أطباقها الغريبة التي تشي بنوع من الغموض المحبب، لتحقق بالتالي انفلات خيالنا ومتعة الاندماج في عالم لم نشك أبداً أنه بعيد عنا. فهي منذ البداية، أي عندما كنا نصل متعبين إلى ساحة المرجة، في إجازة أو رحلة قصيرة إلى العاصمة، كنا لا نعرف من أين نبدأ، فسحرها سرعان ما يأخذ بتلابيبنا ويطغى على أفئدتنا، ومن كان يرجع إلى البلد دون علبة “برازق”، فكأنه لم يزر “الشام”، بل ارتكب خطأ لا يغتفر.
في تعاقب جمع بين السرد ورصد الواقع السوري القديم والمعاصر، بقيت أصابع خيري الذهبي مغموسة في الحبر لتؤرخ لنا سطراً في الأبدية، وتستعيد ما افتقدناه منذ عقود الهمجية عبر صفحات رواياته وكتاباته الصحفية. فهكذا من عاهد الكلمة وشرّع لها أبواب الضمير في عالم انحسرت فيه القيم واندثرت كل المعايير دون أن تترك حتى فسحة صغيرة للمجتمع المدني. هنا جسد احتضنه التراب، وهناك، أي بين أضلعنا وشفاهنا تراث يستمر في العطاء، لأجيال وأجيال ليظل يروي بغيابه الحاضر مأساتنا أو فلنقل حيواتنا التي هي امتداد لنبض حياته. يرحل الجسد وتبقى الكلمة عنواناً لكينونة جديدة. ينتظم في هذا النسق الوعي الجمعي، حتى لدى أولئك الذين لم يقرؤوا له حرفاً، فهم بفطرتهم يعرفون تماماً أن هناك من كتب حكاياتهم ورسم بكلماته ما كابدوه خلال فترة أشبه ما تكون بكابوس لم يتمكنوا بعد من استيعاب فظاعته المهولة.
• ميلانو 15-07-2022