لا أدب اغتراب ولا هم ينغرسون
لا أعرف إن كان بوسعنا الاستمرار في استخدام مصطلح “الاغتراب الأدبي”. مر على وجودي في المهجر أكثر من 30 عاما، وأستطيع أن أدّعي أن الأدب في الغربة كائن غير موجود. هذا لا يعني أني خبير بالإنتاج الأدبي سواء المستوطن أو المهاجر. ولكن عندما تمر كل هذه العقود من دون أن تستوقفك الظواهر، فيصير من حقك أن تتساءل أين هذا “الاغتراب الأدبي”.
لست ناقدا أو متابعا دائما، لكني مراقب. برأيي لكي يصح المصطلح ويستقيم استخدامه، ينبغي أن يكون هناك “مغترب أدبي” لكي ينتج أدبا مغتربا.
بحكم العمل في الصحافة ومؤسساتها المهاجرة، والاختلاط بالأصدقاء والمعارف من المهتمين والمتابعين، استكشفت طبيعة الأديب والمثقف المهاجر. يمرون عليك ويجلسون معك ويتحدثون ويغادرون. يكتبون ويستكتبون وينشرون ويجتمعون ويتحاورون. يتحدثون في كل شيء عن بلادهم وظروفهم وحيواتهم التي تبددت في التنقل بين نقطة لجوء وأخرى. محاور الحديث سياسية في معظمها، لكن الأدب موجود وحاضر مع بعض متردد من الثقافة.
أين المشكلة إذن؟ كل عناصر الأدب موجودة. هل يحصل أدبنا على باسبورت بريطاني أو فرنسي ليصبح مغتربا مثل أصحابه؟
المشكلة أن أصحاب هذا الأدب ليسوا مغتربين. هم منزاحون جغرافيا لأسباب شخصية وسياسية ومادية. يقرأون بالعربية ويشاهدون الفضائيات العربية ومؤخرا صاروا يغردون على تويتر بالعربية عن قضايا عربية، وينشرون بوستات بالعربية في فيسبوك عن هموم وقضايا أوطانهم الأصلية.
لنفترض جدلا أن هناك ألف أديب ومثقف عربي مهاجر في أوروبا. الآن لنمرّ على الأشياء التي يتناولونها في كتاباتهم وأدبهم وقضاياهم وتغريداتهم وبوستاتهم. لا أحب القطع والجزم بما لا أعرف تماما، لكن أيّ مراقب منصف سيفتقد الإشارة إلى الدول التي استوطنوها في هجرتهم. لا قضايا تلك الدول ولا شؤونها ولا أدبها. لا انعكاسات في الإحساس بالبيئة التي يعيشون فيها ولا مناقشة لقضية راهنة تمسّهم من قريب أو من بعيد. أشك أن بوسع أحد في عالمنا العربي أن يميز، لو لم يكن يعرف خلفية التواجد الجغرافي، بين مقالة كتبها مثقف “مغترب” وآخر لا يزال في مدينته العربية.
بحكم العمل في الصحافة، تمر عليك مقالات لمن يفترض أنهم يعيشون في الغرب ويكتبون عن قضية سياسية في بلد الإقامة. إنها الصدمة الكبرى. لا أعرف أيّ مقالات يقرأون في الصحافة الغربية أو أيّ محطات تلفزيون يتابعون. عزلة تامة وانطباعية ساذجة.
كثير من الأدباء والمثقفين لم يحاولوا حتى معرفة – ولا أقول إتقان – اللغة في البلد الذي يقيمون فيه. في كيس مفرداتهم 500 أو 1000 كلمة تساعدهم في التسوّق وزيارة الطبيب. غير هذا هم متشرنقون إما في مجاميعهم في التسعينات ومطلع الألفية، أو في الشبكات الاجتماعية بعد ازدهار عصر الكمبيوترات اللوحية والهواتف الذكية. جرّب أن تجري محادثة مع مثقف عربي باللغة الإنجليزية مثلا في لندن. حتى لو كان يعيش في المدينة لسنوات طويلة، سيصدمك بضحالة لغته. سيأتيك بين حين وآخر يتحدث عن أديب غربي سمع عنه. ستنصت، ثم اتركه شهرا أو شهرين واسأله عنه. في الغالب لا يتذكر اسمه ولا موضوعه. لن يتذكر – أو لم يعرف أبدا – اسم وزير خارجية بريطانيا.
عينة أخرى اصطحبت معها ما تعلمته في مدارس البلاد العربية. عليك أن تتقبل الحديث عن أدباء الخمسينات والستينات وأن تعتبر الحديث يتم عن “الأدب الغربي المعاصر”. توقفت عقارب الساعة عند تراجم تلك المرحلة، وكل ما يمت للأدب الغربي الحديث والثقافة الغربية النابضة من قضايا هو غير مهم. لا نريد هنا الإشارة إلى البعض الذي امتهن الترجمة من المصادر الميّتة في اللغات الغربية وتقديمها للقارئ العربي كقراءة وفهم شخصي للحالة الثقافية والأدبية في الغرب. هؤلاء فئة لصوص لا تستحق الإشارة إليها.
المشهد الاجتماعي لأماكن عيشنا في المهجر مليء بمحلات اللحم الحلال وغيتوهات دينية/سياسية تمتد لأحياء كاملة في المدن الكبرى. جلسات نميمة ووعظ وصراعات سياسية باطنة وظاهرة. روايات عن المتعة الكبرى في زيارة الأوطان دون تفسير لماذا الهرولة سريعا للعودة من تلك الزيارات.
هذه هي البيئة التي يعيش فيها “الأديب” و”المثقف” المهاجر أو المهجّر أو المزاح جغرافيا. هي بيئة بعيدة كل البعد عن فكرة الاغتراب بالمعنى الكلاسيكي، أي الانتقال جغرافيا وفكريا إلى بيئة جديدة ثم الكتابة الواعية عن روح أدبية أو فكرية أو ثقافية غرست في أرض جديدة. القليلون من الاستثناءات لا يمكن أن يعدّوا ظاهرة، بل السؤال الأصعب والأكثر إثارة للقلق: كيف يمكن أن تهاجر كل هذه الآلاف من الأدباء والمثقفين وتعجز عن أن تجد غرسا في بيئتها الجديدة؟