لسان جديد أم بلاغة جديدة
دارت النقاشات الأكاديمية وتدور منذ عقود حول المنهج الذي ينبغي أن نتعامل به مع اللغة وأقصد هنا اللسان؛ أي المشترك الجماعي من حيث هو حصيلة للمنجزات والاستعمالات الكلامية من الأفراد المتخاطبين المنتمين إلى مجال لغوي واحد، وهو في هذه الحال اللغة العربية، فبين من يرى أن اللغة الفصحى بقواعدها وأصولها المعيارية واستخداماتها الأصلية هي اللغة التي يجب أن يُحتكم إليها انطلاقا من مبدأ “الصواب والخطأ اللغوي”، ومن يرى أن اللغة ما هي إلا حصيلة تطورات وتغيرات تاريخية ومجتمعية وأن مبدأ “التواضع والاصطلاح” بمفهومه العام هو المبدأ الذي ينبغي أن يرجع إليه في تصوّر ماهية اللغة نفسها، وأصحاب التوجّه الأول هم المعياريون الذين يعدّون اللغة العربية الفصحى مقياسا لإنتاج الخطاب اللغوي واستقباله، ويرون أن العاميات في الأصل لحن، وليست من باب التطور اللغوي، على معنى أنها أخطاء في استعمال العربية إضافة إلى ما يلحق هذه العاميات من إدراج للغات أخرى، وتركيب غير مستساغ بين الفصحى والعامية، وبين الفصحى وغيرها من اللغات واللهجات.
أما أصحاب التوجّه الثاني فهم الوصفيون الذين يعتمدون – إجمالا – على التنظيرات اللسانية الحديثة، والمناهج والمقولات ذات المنشأ الغربي التي ظهرت في الساحة العربية بشكل بارز منذ بدايات القرن العشرين، وهم – مثل سابقيهم – طيف واسع يبدأ بالأكثر تشدّدا والأقل مرونة وينتهي بالأكثر مرونة والأقل تشدّدا.
وبعض هؤلاء يرفضون العلوم اللسانية التقليدية كالنحو والصرف والبلاغة أو يرفضون التوسّع فيها، وينادون بالاكتفاء بما يقيم اللسان منها، ولو اقتصر الأمر على نطق أواخر الكلم ساكنا دون حركات إعرابية، أو التواصل باللهجات العامية والكتابة والتعليم بها واستخدامها في الفضاء العمومي مثلما يحدث في الإعلام المرئي والمسموع اليوم، وبعضهم يدعو مباشرة إلى الأخذ بالمعطيات اللسانية الغربية دون الرجوع إلى التراث اللساني العربي إن على مستوى مناهج الدراسة والتحليل أو على مستوى المادة العلمية نفسها؛ أي أنهم يرفضون مناهج الدراسة القديمة، ويرفضون كذلك المفاهيم والمصطلحات العلمية التقليدية ويدعون إلى إحلال المفاهيم والمصطلحات اللسانية الحديثة محلها، على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى البلاغة الجديدة والأسلوبيات في مقابل البلاغة التقليدية.
أهي أخطاء لغوية؟
إن الناظر في ما يتم تداوله في فيسبوك، وما يتم التعبير به عن الوقائع اليومية يرى أن الذين يكتبون أو يتواصلون فيه – عموما – متوزعون بين فئات شتى، تختلف فيما بينها في المستوى العلمي والمعرفي العام، وفي مستوى المعرفة باللغة العربية وغيرها من اللغات الشائعة، وفي المواقف والقناعات الأيديولوجية وما يتصل منها بالموقف من اللغة العربية، وهذا التفصيل يمكّننا من إدراك أن الحكم على لغة فيسبوك بأنها لغة جديدة بناء على قاعدة التطور اللغوي والتواضع السالفة حكم فيه الكثير من التعميم والاختزال.
فمن الفيسبوكيين من يكتب أو يتواصل باللغة العربية الفصحى – في الأغلب الأعم – سواء في منشوراته أم في تعليقاته.. ومنهم من يكتب بغير الفصحى، ولكنه مع ذلك يرى أن لغته مزيج بين الصواب والخطأ. وهكذا..
وقد أشار الجاحظ قديما إلى أن العامة يميلون إلى التخفيف، ويفضّلون التعبير بأقل الألفاظ والحروف، بل نقل الجاحظ تعريفا للبلاغة على أنها: الإيجاز، ومعنى البلاغة نفسه مشتق من البلوغ؛ أي الوصول والانتهاء، فأقل ما أبان وأعرب به المتكلم عن غرضه وأوصل الرسالة في مستوى علم المعاني هو المرتبة الدنيا المطلوبة في التواصل، ثم ينتقل المتكلم بعدها إلى مرتبة التحسين وهي البديع والبيان، والبلاغيون يوردون البيان – هنا – بمعنى الجمال في استخدام اللغة وهو ما يسمّونه: معنى المعنى، فأنت حينما تقول: كثير الرماد فإنك لا تريد معنى كثرة الرماد الذي يدل على كثرة الطبخ، بل تريد ما تدل عليه كثرة الطبخ من الكرم والجود وحسن الضيافة وتواترها في من تصفه بهذا الوصف.
وتأسيسا على ما سبق نقول إن البلاغة بلاغات؛ فهي أوّلا بلاغة المتكلمين، وهي ثانيا ذلك العلم الذي يدرس تلك البلاغة بمنهج ورؤية محددة ذات أبعاد تاريخية وثقافية.
وهي ثالثا بلاغات ثقافية وتاريخية؛ أي صيغ ذهنية ومحمولات لغوية وأساليب وألفاظ تختلف باختلاف العصور والمراحل التاريخية والبيئات الثقافية. لكن العبرة في كل ذلك ليست بالألفاظ التي يتلفظ بها المتكلمون على ضروب اختلافاتهم الكثيرة، ولكن بالمعاني؛ لأن المعاني خادمة للألفاظ كما يقول عبد القاهر الجرجاني، والتركيب يتحدّد من خلال المعنى وليس العكس، ولكل تركيب وظيفة يؤديها في تحقيق معنى معيّن، وهنا نصل إلى بيت القصيد، وهو البيان العربي، فما دام كل تركيب أو أسلوب كلامي يحقق معنى محدّدا؛ فإن ذلك يعني أن التعبير عن المعاني المتعدّدة – التي يفرّق بينها أحيانا خيط رفيع – بتركيب واحد من آثار التواصل بالعاميّات واللهجات والازدواجية اللغوية (خطاب فيسبوك وتويتر)؛ التي اختزلت المعاني الدقيقة وهي ما يميّز العربية بشكل خاص في معان عامة وسطحية وأفقية إلى حدّ كبير؛ وذلك لأنها تعبّر بعاميّة، أو مزيج غير متجانس هو في الأصل كسر للقواعد اللغوية.
لكن المعضلة التاريخية اليوم لا تتوقف عند هذا الحد من الاستشكال؛ بل يتعدى الأمر ذلك إلى مسألة اللغة العلمية بالمفهوم العام، خاصة ما كان منها من ضرورات الحياة مثل التعبير عن الحاسوب ومكوّناته، وأنواع وسائل النقل المخترعة ومركّباتها، وأسماء الأدوية، والألبسة، والأطعمة الحديثة، وغير ذلك من المستلزمات التي لا غنى للمتكلمين عنها.
فهذه المسميّات ابتكرت في الغرب بحكم أنه هو الذي ينتج المعرفة، وكثير منها حافظ على اسمه الأجنبي، وبما أنه منتج علمي فاسمه سيكون دقيقا إلى حد كبير، وهنا يجد روّاد فيسبوك كتمثيل للواقع الاجتماعي أنفسهم في مفارقة كبرى بين اختزال معاني العربية وهي لغة البيان والتفصيل والتدقيق، وتدقيق المعاني الأجنبية؛ لأن الضرورة تحملهم على ذلك.
وهكذا لا نستطيع التعامل مع لغة فيسبوك تعاملا وصفيا مباشرا، وإن كان الوصف فيما يبدو مرحلة أولى من التصوّر المعياري؛ لأن الشرط التاريخي والمعرفي يجعل لغة فيسبوك مرتبطة بالواقع الذهني، والنفسي، والعقلي، وآثار المثاقفة الحضارية، لا مجرّد لغة تكتب أو تقال، ولا مجرّد تطوّر دلالي؛ إذ أن التطوّر الدلالي لا يمكن أن يكون بمعزل عن الشرط التاريخي، ولا عن التخطيط والاستراتيجيات اللغوية التي تقوم على مبدأ المقايسة والأصل المرجعي، والبناء الخاضع للأهداف والغايات المجتمعية.