ماذا لو التقيتُ بكاتب هذه الرسائل؟
عند سحبي الحقيبة من جوف الحافلة الجانبي، لم يخامرني أيّ شك بأنها نفسها التي رافقتني طوال رحلتي القصيرة بين لندن وبرلين، ذهاباً وإياباً، فلونها الأسود وحجمها وعلامتها التجارية لا تشي بأنها حقيبة أخرى، ولم أكتشف الحقيقة إلا بعد وصولي إلى بيتي الواقع في ضاحية منسية على الطريق الرابط بين مطار “سْتاندْسْتَيد” ومحطة فيكتوريا.
لا بدّ من الإشارة إلى أن مستودع الأمتعة، عند انفتاحه أوتوماتيكياً، كان خالياً من أيّ حقيبة أخرى لها نفس مواصفات حقيبتي، ولعل ملامح نفاد الصبر على وجه السائق الشاب، جعلتني أتجاهل تلك الفروق الضئيلة بينهما، وأتعجل في سحبها، لكن عينَي زوجتي الحادتين كشفتا الحقيقة حال إلقائها نظرة واحدة عليها. « ماذا جلبتَ معك؟» قالت ضاحكة، لكأنها أرادت تأكيد تفوق احترازها وانتباهها على ما لديّ، ولعل ذلك جعلني مصراً على خطأ حكمها، فأمضي، غير مبالٍ بتعليقاتها الساخرة، في فتح الحقيبة.
أستطيع الآن إدراك الفارق الذي لحَظَته زوجتي فيها: إنه القِدَم: حتى مع احتفاظ الحقائب بصلابتها يغور الزمن في عروقها فتبهت ألوانها، حتى لو كانت غامقة السواد، وهذا ما لم أره.
لم تحتوِ الحقيبة على أشياء كثيرة، ومن اللحظة الأولى، أدركتُ أنها ليست لي. كذلك، فإن بطانتها الرمادية الذاوية بفضل تأصل العث فيها كشفت بوضوح عن قِدَمها المفرط. وما عمّق هذا الإحساس فيَّ، التنظيم الدقيق لمحتوياتها، فالكنزة الصوفية والقميص والسروال مصففة بعناية شديدة، وفوقها كانت هناك محفظتا جلد صغيرتان لونهما مائل إلى الأحمر القرمزي، وفي كل منهما سحّاب. كذلك كانت الشبكة الفاصلة ما بين غطاء الحقيبة الصلب وحاويتها محملة بملابس داخلية بيضاء مصففة بنظام صارم.
عند فتحي لسحّاب المحفظة الأقرب لي، اتسعت عينا زوجتي، وفيهما قرأتُ دعوة للتوقف عن المضي في العبث بأشياء شخص غريب عني.
قلتُ مخففاً عنها قلق المسؤولية القانونية التي اعتادت التصريح بها كلما اقتربتُ من الخط الفاصل بين الشرعي واللاشرعي “لا تخافي، هذا مجرد فضول… لن أمسّ أيّ شيء فيها”.
غير أن الفضول تضخم كثيراً في صدري عند اكتشاف عينيَّ رُزَماً متجاورة من المظاريف القديمة، قابعةً في قاع الحقيبة، ومخبأةً تحت ورق بلاستيكي سميك وشفاف، غطى بالضبط طولها وعرضها.
رفعتُ بحذر وتأنٍ قطع الملابس المصففة واحدةً بعد الأخرى، ووضعتها على مائدة الطعام. ها هي يدي تتسلل لتسحب الرزمة الموضوعة بجانب الحافة اليمنى من الحقيبة.
أمامي الآن مظاريف خمسة مشدودة معاً بشريط فضي على شكل صليب، وعلى وجه الأول منها نُقِشت كلمات إنجليزية غامضة في معناها وطريقة كتابتها. استطعتُ أن أقرأ آنذاك اسم المرسَل اليه فقط، من دون أن يكون هناك أثر لعنوانه: ج. م.
وكأن ذلك الاسم على ظهر المظروف الطيني اللون طلَّسَم فتح لي سر الحقيبة على مصراعيه. أستطيع الآن من وسط فوضى غرفة الطعام في بيتي أن أرى صاحبها الحقيقي يمشي على بعد خطوات أمامي في قاعة مطار “سْتاندْسْتَيد”، ومعه يتردد صرير عجلات حقيبته المتخلخلة وهي تتقدم على الأرضية الصقيلة.
لعل ذلك الضجيج كان ناجماً عن حركته المتسارعة التي جعلت قدميه تبدوان متحررتين من الجاذبية الأرضية. ولا أستبعد أن انطباعاً قوياً تشكّل في نفسي بأنه مسافر دائم، لا تكاد الطائرة تهبط به في مدينة ما حتى ينتابه الضجر ليدفعه إلى الطيران عشوائياً صوب مدينة أخرى.
بعد وقوفي في طابور طويل، صعدتُ سُلَّمَتَي الحافلة المنشودة، فأغلق السائق بابها على الفور، وعند تقدمي في الممر الفاصل بين صفَّي المقاعد شاهدته جالساً بجانب النافذة وعيناه ساهمتان صوب السماء الملبدة بالغيوم الرمادية، بينما كان المقعد المجاور له فارغاً، فجلست عليه من دون أيّ تردد.
لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً كي نكتشف وجود آصرة تجمعنا: كلانا من أصل عربي. مع ذلك، ظل جاري ميالاً للحديث معي بالإنجليزية كلما وجد نفسه مضطراً إلى الإجابة عن سؤال أو تعليق ما يحضرني، وكأنه بذلك كان يريد قطع إمكانية أيّ تواصل مستقبلي بيننا.
أتذكر أننا تحدثنا عن الطقس البريطاني، كيف أن أيام الصحو تعقبها غالباً عواصف وأعاصير وأمطار، وكأنها الثمن الذي يجب دفعه مقابل الأيام المبهجة القليلة. أمامنا كانت النافذة تكشف طريقاً مضبَّباً قليلاً، مائلاً لِلَون تبني باهت، بينما بدت الشجيرات المزروعة على جانبي الطريق أشبه بظلال تماثيل داكنة، تتفكك بين لحظة وأخرى بفعل المطر الخفيف الذي ظلت ماسحتا الحافلة العملاقتان تطردانه بانتظام من أمام السائق. بالمقابل، كانت هناك شاشة تلفزيونية منصوبة في أعلى يسار النافذة الأمامية الواسعة، تنقل باستمرار صور الشارع المتغيرة، لكنها على الرغم من نقلها نفس الصور كانت تنقلها بشكل آخر. قال جاري من دون الالتفات إليّ “ما نراه ليس الواقع كما هو بل هو واقع افتراضي”.
“كيف؟” سألتُ مستغرباً.
” إذا نظرتَ إلى الواقع المعكوس على الشاشة ستجده أكثر كثافة من الواقع الذي تلتقطه عيناك إلى يمينها، وأجمل بكثير. صور الكاميرا الذكية اليوم تحاكي الواقع أكثر من أن تنقله كما هو”.
وحين واجه صمتي، تمتم كأنه يحدِّث نفسه «هي تسعى لجعلنا نتخلى عن تواصلنا مع الواقع مباشرة، ونقبل بتأويلها له كما تشاء”.
التفتَ إليّ فجأة، متطلعاً لحظة في وجهي، ثم ردد ضاحكاً “لن يكون اليوم بعيداً حين تكفّ عن رؤيتي في الواقع مفضلاً صورتي. الكثير من الناس أصبحوا أسرى صورهم على الشاشة”.
غير أن وجوماً غامضاً علا وجهه، وتعمقت الغضون المستقيمة الثلاثة على جبهته العريضة، بينما تقلصت حدقتا عينيه، وأصبح الانتفاخ تحت عينيه أكثر وضوحاً، “حتى الحروب أصبحنا نستمتع بمشاهدتها عبر الشاشة، فهي ما عادت كالسابق بشعة بدماء قتلاها وجثثهم المقطَّعة؛ كل شيء أصبح نظيفاً وأنيقاً، ولا بأس أن نتابعها كما نتابع مباريات كرة القدم”.
قلتُ تعبيراً عن عدم موافقتي، على الطريقة الإنجليزية الدبلوماسية، وإنهاءً لخطاب جاري المتشائم “لا أدري… أنا مجرد مترجم محلَّف، لا أفهم بالتكنولوجيا الحديثة كثيراً”.
بعد صمت قصير، التفت إليّ وقد علت وجهه ابتسامة غامضة، ليقول بنبرة حماسية جعلتني أظن، آنذاك، أنه كان يسخر مني “عظيم”.
ساد الصمت بيننا، بعد إخراجي لهاتفي الجوال من حقيبتي اليدوية، وانشغالي بكتابة رسالة نصّية لزوجتي، بينما راح جاري يقرأ في صحيفة. كانت عيناي تتنقلان، من وقت إلى آخر، بين بروفيله الشاحب المتغضن والفضاء الكئيب المتجهم خلف النافذة، حيث بدت الغيوم الداكنة معلقة، بلا حراك، فوق صف الأشجار المتفرقة، في وقت ظلت خطوط المطر المائلة قليلاً تضرب برفق زجاج النوافذ، مكونةً نقراً ناعماً على صفيح هدير محرك الحافلة النائي.
لا أتذكر متى نهض جاري، واستأذنني بإفساح المجال له للخروج. لا بد أنني غفوت قليلاً، تحت رجّات الحافلة الخفيفة، مما جعل الزمن يمر سريعاً، ها أنذا أراه الآن بقامته المديدة يتحدث مع السائق، ثم يبقى واقفاً بجانب الباب. وها هي الحافلة تقف في محطة خاوية من البشر على مشارف لندن، ليهبط الغريب فيها. من النافذة الواقعة إلى يساري، كنت أستطيع أن أراه واقفاً بجانب مستودع الأمتعة بانتظار انفتاح بابه، لكنني لم أستطع أن أرى الحقيبة التي سحبها معه.
اتصلتُ في اليوم التالي هاتفياً بمكتب النقل المعنيّ، فشرحتُ لهم ما حدث، لكن الموظف الذي تكلمتُ معه أكد عدم تسلمهم أي حقيبة بالمواصفات التي أعطيتها له. سألته عما يجب أن أفعله، “يمكنك تسليم الحقيبة، إلى فرع شركتنا في منطقتك، وتنتظر”، أجابني، ثم أردف قائلاً “قد يسلّم الآخر حقيبتك لنا،” قاطعته “وماذا لو لم يسلّمها؟”. أجاب بنبرة مرحة “اِحتفظ بحقيبته إذا لم يكن هناك أي شيء ثمين فيها”.
أعطيته رقم هاتف بيتنا وعنوانه، وانتظرتُ ثلاثة أسابيع، كنت خلالها أمنِّي النفس بعودة حقيبتي وما فيها من ملابس وكهربائيات: بدلة جديدة ارتديتها مرة واحدة حين كنت في برلين، وكاميرا نوكيا ثمينة، وكمبيوتر وثلاثة قمصان فاخرة.
لعل عودتي إلى حقيبة الآخر نوع من العزاء، على أخذه حقيبتي. كنت أعلم أن كل ملابسه بالية نوعاً ما، وحتى لو كانت أجدّ، فهي ستكون أكبر حجماً مما ألبسه. مع ذلك، كان هناك شيء واحد فقط يجذبني إليها، وظل ملازماً تيار أفكاري طوال تلك الفترة. إنها حِزَم الرسائل الغريبة.
كانت ليلةً هرب النوم عن عينيّ فيها، فبقيتُ مسمَّراً على السرير، بينما غطَّت زوجتي في نوم عميق، بالرغم من نقرات المطر الدؤوب، من وراء ستارة النافذة السميكة، على زجاجها. في مخيلتي برزت تلك المظاريف الغريبة من قاع الحقيبة، كأنها تناديني لفتحها.
تسللتُ إلى الطابق الأرضي، دون إثارة أيّ ضجيج قد يوقظ زوجتي؛ ها هي أول رزمة منها أمامي على مائدة الطعام، أفتح أول مظاريفها بعناية كبيرة، أسحب منه الأوراق المرزوزة في أعلى حافتها اليسرى، أفرشها أمامي، ينتابني شعور غريب: مزيج من فرح طاغٍ بالدخول إلى مجاهل إنسان آخر دون موافقته، وقلق غير قابل للتفسير؛ لعله قلق اللص حين يتسلل إلى بيت خالٍ من أصحابه ولا يعرف متى سيظهرون أمامه.
قضيتُ الليل غارقاً في قراءة الرسائل الغريبة. كانت مكتوبة بإنجليزية متقنة، تشير إلى أن وراءها عقلاً اعتاد على تأليف البحوث الأكاديمية. مع ذلك، كانت هناك كلمات وعبارات شديدة الغموض بسبب طريقة خطها باليد، وبعضها الآخر بحروف ناقصة؛ إلا أن هذا الاختلال الملموس لم يؤثر على فهمي لمعظم تفاصيلها.
لا أتذكر كم مضى من الوقت، على قراءتي الأولى لها، قبل أن أقرر ترجمتها إلى العربية، ولعل ما دفعني للقيام بتلك المهمة أكثر من أيّ شيء آخر، هو شعور غامض بقدرية سلسلة الأحداث التي أوصلت هذه الرسائل إلى بيتي، فكأني بهذه الطريقة أمنح لها معنى ما بدلاً من إبقائها كسلسلة مصادفات منفصلة لا رابط يجمعها، أو ربما هو سعي لا إرادي للتعويض عما خسرته في حقيبتي الأصلية. نحن نعيش في عالم سريع التغير، لا يمنح الذاكرة فرصة الإمساك بالمراحل المتعاقبة على عجل، وقد تكون مبادرتي هذه نوعاً من الإبطاء الذاتي لهذه التحولات الجارفة في حياتنا اليومية.
كان عليّ أن أذكر، أني غيَّرتُ كل الأسماء التي تضمنتها رسائل ذلك الغريب العابر، تجنباً لأيّ ملاحقة قانونية، أو إحراج لتلك الشخصيات التي قد تكون ما زالت على قيد الحياة. كذلك فقد ابتكرتُ بعض العناوين تعويضاً عن تلك التي تعذر عليّ فك شفرتها، مع ملء تلك الكلمات المبتسرة أو العسيرة على القراءة بأخرى تجعل هذه الجملة أو تلك ذات معنى متوافق مع سياق النص.
شيء واحد التزمتُ به دائماً: إبقاء التواريخ التي سجلها المؤلف على بعض مظاريف رسائله، رغم أنها لا تشير، على الأغلب، إلى تواريخ كتابتها بقدر ما هي تواريخ الأحداث نفسها، ووفقاً لتلك التواريخ رتبتُ تسلسل المظاريف نفسها، بينما أدرجتُ بينها تلك الخالية من أيّ تاريخ بشكل عشوائي.
مع ذلك ظل سؤال يحضرني كلازمة مزعجة، ولم أجد جواباً له حتى الآن: ماذا لو أني التقيتُ يوماً بكاتب هذه الرسائل، وصادف أنه قرأ الترجمة مطبوعة، فتولّد في نفسه غضب من مبادرتي بدلاً من الرضا؟ إدانة بدلاً من إطراء على كل جهودي؟ كيف سيكون عند ذلك رد فعلي على موقفه؟ إذن هل عليّ أن أتلفها أم أنشرها؟