ماكرون ومعلّمه ريكور
بعد فرانسوا هولاند، الذي وصف نفسه بالرئيس العاديّ ردّا على سلفه نيكولا ساركوزي الذي زعم أنه غير عاديّ، وكلاهما محدود الثقافة، يجد الفرنسيون أنفسهم هذه المرة، بوصول إيمانويل ماكرون إلى السلطة، مع رئيس مثقف، ليس على طريقة جورج بومبيدو الذي ترك أنطولوجيا عن الشعر الفرنسي، ولا فرنسوا ميتران الذي جرّب الكتابة الأدبية وكان يعاشر الأدباء ويحلم أن يكون مثلهم، بل على طريقته الخاصة، إذ استطاع أن يشفع نزوعه إلى عالم المال والاقتصاد بأرضية فلسفية عميقة، منذ دراسته الجامعية، قبل أن يبلورها في منظومة فكرية سياسية، عند تأسيسه حزب “الجمهورية إلى الأمام”، حتى أن كثيرا من المحللين لا يترددون اليوم عن وصفه بالفيلسوف.
ليس اعتباطا أن يستشهد ماكرون في خطبه ومقالاته قبل الانتخابات بأرسطو وديكارت وكانط وهيغل، وينصح الطلبة بقراءة ماركس، فخلافا لأغلب الساسة الذين يذكرون هذا العَلم أو ذاك انطلاقا من ورقة يعدّها بعض الكتبة المتخصصين في صياغة خطب الزعماء، يتحدث ماكرون عن حقل معرفيّ ألم بأطرافه، فقد تتلمذ على الماركسي إتيان باليبار أحد أتباع ألتوسير، وأعدّ بحثا عن هيغل لنيل شهادة الدراسات المعمقة، ولكنه لم يتأثر بأولئك جميعا قدر تأثره ببول ريكور (1913-2005) أهم فيلسوف في النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان قد استعان بماكرون أيام التحاقه بمعهد الدراسات السياسية بباريس عام 1999 في تحرير كتاب “الذاكرة والتاريخ والنسيان”. وهو ما يعترف به ماكرون نفسه حين صرّح أن بول ريكور أعاد تقويمه على المستوى الفلسفي، أي أن هذا الذي اشتهر بين الناس بمروره ببنك روتشيلد ثم بوزارة الاقتصاد والمالية تجاوز في الواقع المسار الكلاسيكي والتقني لموظفي الدولة، وحاز عمق تحليل غير مسبوق لدى رجل سياسي بهذه الأهمية.
فكيف تتجلى مكتسبات ماكرون الفلسفية في فكره السياسي الحالي؟ وما مدى تأثره بريكور؟
يؤكد أوليفيي أبيل، أستاذ الفلسفة بجامعة الفقه البروتستانتي بمونبيليي، والمتخصص في فكر ريكور، أن ثمة بونًا شاسعا بين عالم السياسي وعالم الفيلسوف، فالسياسة هي فنّ التحكيم واتخاذ القرار، في حين أن الفلسفة تُمارَسُ منذ سقراط من خلال الحوار اللامحدود، حيث الأهم هو التساؤلات الجارحة التي تحملنا على التحاور عبر الأزمنة واللغات. ولا يعني ذلك أن ريكور تجاهل السياسة، فقد مارسها حين تولّى عمادة جامعة نانتير بين 1969 و1970، ولكنه مارسها بوعي حادّ بأن المرء في السياسة يمكن أن يخطئ، كما سبق أن كتب في دفاتر سجنه عام 1942. ثم إن فكر ريكور هو من السعة ما لا يمكن حصره في توجه سياسي ما.
وفي رأيه أن أهم ما أخذه ماكرون عن ريكور، وطبع عمله السياسي، هو مبدأ “وفي الوقت نفسه” الذي يؤثر الجدلية على قرينة التعارض بين مسألتين حدّ التصادم. كأن يريد في الوقت نفسه تحرير العمل وحماية ضعاف الحال، شأن من يجمع بين نقيضين، أو يقرّب معطيين لا يربطهما في الظاهر رابط.
هذه البراغماتية، التي نعتها بعضهم بأنها رخوة ومتذبذبة وحتى ماكرة، تندرج ضمن تمفصل دائم بين ما يسمى بإيتيقا القناعة أي الإرادة الطوباوية التائقة إلى عالم المُثُل، وإيتيقا المسؤولية أي تطبيق تلك الإرادة في سيرورة التاريخ. على هذا النحو يمكن تفسير تموقع ماكرون فلا هو يميني ولا هو يساري، ولكن هو هذا وذاك “في الوقت نفسه”، ليس بمعنى العمل على التحام كيانين لا يلتقيان في الغالب بغرض نَقضِهما، وإنما لجعلهما يتجاوران داخل فكر نقدي لاستخلاص أخصب ما يحويان، وهو ما وسم حركة ماكرون.
ذلك أن ريكور لا يؤمن بذوبان الإيتيقا في السياسي، خشية الوقوع في المكيافيلية، ولا بتدخل مباشر للإيتيقا في السياسي حذر الوقوع في الأخلاقية. وهذا يتحول في خطاب ماكرون إلى عدم التخلي عن مرونة اقتصادية أفضل (إيتيقا المسؤولية)، ولا عن الحاجة إلى المساواة والعدالة الاجتماعية للجميع (إيتيقا القناعة).
المسألة الفلسفية الثانية التي أخذها ماكرون عن ريكور تصوره للتاريخ والثقافة. فالفيلسوف البروتستانتي يلح على تضمين الذاكرة كل التقاليد المترسبة، وهو ما يتبناه ماكرون في رفضه الجدل المتصلب حول الهوية الوطنية، وإيثاره رؤية تعددية للثقافات، مستثيرا بذلك غضب اليمين المتطرف، لا سيما حين صرّح أن “لا وجود لثقافة فرنسية، بل ثقافة في فرنسا، وهي متنوعة ومتعددة”. وهو أيضا ما حمله على وصف احتلال الجزائر بكونها “جريمة ضدّ الإنسانية”، مستهديا بما قاله ريكور في كتابه سالف الذكر من أن “واجب الذاكرة أن ينصِف المرءُ عن طريق التذكر شخصًا غيره”.
أما الأثر العميق الذي تركه ريكور في الرئيس الفرنسي المنتخب فكان حول الليبرالية. يقول ريكور “إذا أمكن إنقاذ مصطلح الليبرالية السياسية من سوء السمعة الذي أغرقها فيه قُربها من الليبرالية الاقتصادية، فسوف يقول ما ينبغي أن يقال، من أن مشكل السياسة الأساس هو الحرية؛ إمّا أن ترسي الدولةُ الحريةَ عن طريق عقلانيتها، أو أن الحرية تَحدّ من شغف السلطة عن طريق مقاومتها”. هذا التصور الذي صاغه ريكور عن الحرية هو البوصلة التي توجه الحوكمة في برنامج ماكرون وخطبه.
أول تلك المواضيع، جروح التاريخ، وهي الثيمة التي تناولها ماكرون خلال حملته الانتخابية، لا سيما حديثه عن حرب الجزائر، حيث رسم الخطوط الكبرى لسياسة ذاكرة عادلة أرادها وسطا بين غواية النسيان وغواية التذكر المفرط. وهي طريقة ريكور في الدعوة إلى الإنصاف والتصالح “في الوقت نفسه”
تلك نقاط الائتلاف التي يلتقي حولها ماكرون بمعلمه ريكور، أما نقاط الاختلاف فتتمثل في وضع تلك الليبرالية موضع التطبيق، فإذا كان ريكور يتمسك بضرورة إيجاد ما يعدّل كفة الاقتصاد بحقول أخرى، ثقافية واجتماعية وسواهما، فإن ماكرون يركز حدّ الهوس على الوجه المادي لتلك الليبرالية، كالاقتصاد والميزانية والمالية بوصفها المحرك الأساس للسياسة. فبينما يدعو ريكور إلى نصيب من الطوباوية يكون هدفا لتسيير الشؤون الإنسانية، يميل ماكرون إلى براغماتية مبسطة تنفي كل طوباوية، وكأن الحد من البطالة يشكل لديه أفق تمنّ لا يمكن تجاوزه.
ولا يختلف الفيلسوف جان فيليب بييرون كثيرا عن أبيل في تحديد المواضيع التي تبين أثر ريكور في فلسفة ماكرون السياسية.
أول تلك المواضيع، جروح التاريخ، وهي الثيمة التي تناولها ماكرون خلال حملته الانتخابية، لا سيما حديثه عن حرب الجزائر، حيث رسم الخطوط الكبرى لسياسة ذاكرة عادلة أرادها وسطا بين غواية النسيان وغواية التذكر المفرط. وهي طريقة ريكور في الدعوة إلى الإنصاف والتصالح “في الوقت نفسه”، ففي رأيه أن ليس من حق المؤرخ ولا القاضي ولا المشرع أن يضع نفسه مكان “شخص ثالث في المطلق”، لأن ذلك من عمل التخالف المدني (dissensus)، وأن الذاكرات الجماعية ينبغي أن تتحرك معا لتفتح في الماضي وعودًا مسحوقة، وتشكل أفقَ انتظارٍ مشتركًا.
وثاني تلك المواضيع قدرات الفرد، حيث غالبا ما يستعمل ماكرون مفهوم القدرة كما يراها ريكور، الذي يلحّ على وضع الفرد في موضع القدرة الفعلية على استغلال ممكناته الخاصة بدل تصوره كذات مدججة بحقوق نظرية، لأن مجتمعا أقل ظلما وإذلالا يجب أن يعطي كل فرد الوسائل التي تجعله “قادرا”، كما قال ريكور عند حديثه عن تكافؤ الفرص الذي طوره المفكر الأميركي جون رولز وعالم الاقتصاد الهندي أماريتا سن. وإن كان يرى أن الذات القادرة هي أيضا ذاتٌ متَّهَمة وهشة، وأن الجميع مدينون لبعضهم بعضا، وألا وجود لمجتمعٍ ولا لأفراد دون هذا “الدَّين المشترك”، وهذا يخالف ما يذهب إليه ماكرون في حديثه عن متعهد نفسه بنفسه، ذلك الذي لا يدين لأحد إلا لجهده الخاص.
أما الثالث، فيخص النفوذ السياسي. ففي حديث لمجلة “فكر” نُشر عام 2011، تساءل ماكرون عن كيفية إقامة شكل من الخطاب والمسؤولية السياسية يعيد الثقة في المنطوق والعمل السياسيين. أما ريكور فكان يلحّ في محاضرته “اللغة السياسية وفنّ الخطابة” على هشاشة اللغة السياسية، التي لا تدخل في باب المعرفة الخالصة ولا ضمن الآراء الذاتية الصرف، بل هي مصوغة وفق قناعات مدعّمة بحجج، يصحح بعضها بعضا ويتغاضى بعضها عن بعض. وكان قد أشار منذ عام 1957 في “المفارقة السياسية” إلى وجود “مرض سياسي” خاص بالسياسة وعقلانيتها، ويتمثل في أن السلطة، باحتكارها القوة، تنزع دائما لاستعمالها، ما يجعل للسياسة معنيين: معنى عموديٌّ لأن ثمة عنفا وموازين قوى، ولا بدّ من حماية أكثر الناس هشاشة؛ ومعنى أفقيٌّ من خلال ميثاق حرية التصرف معا الذي يصنع العقلانية الديمقراطية. غير أن ماكرون يذهب مذهبا آخر.
فرغم إقراره بأن العمل السياسي يفرض إذكاءً دائما للجدل، فإنه يقدّم البعد العمودي الذي يُدرجه في تصور أشمل للسلطة يمكن وصفه بـ”التيولوجيا السياسية” لاستنادها إلى تحليل معتقدات عميقة، ما يوحي بأن في قلب المجتمع الفرنسي مكانًا شاغرا، هو مكان الملك، وهو ما يفسر ادعاءه رئاسة البلاد على طريقة جوبيتر، كبير الآلهة ورئيس مجمّع الأرباب عند الرومان، والحال أن ريكور ما انفك يبين أن ثمة تيولوجيا سياسية أخرى أكثر ملاءمة للديمقراطية، ويعني بها التحالف الحرّ الذي يفترض وجود حرية تعبير عن تعددية أصوات أو أحزاب، وثقة حقيقية في قدرة المجتمعات على مساندة صراعات مثمرة.
وأما الموضوع الرابع، فهو نقد التكنوقراطيا. فلقد انتقد ماكرون غياب أيديولوجيا حقيقية تصحّح الحراك السياسي وتعيد بناء المخيال السياسي الفرنسي وتطرح من جديد مسألة الغايات، لأن رجل السياسة ينبغي أن يعطي لنشاطه معنى يواجه به رؤى أخرى للعالم، لأجل إقامة علاقة بالزمن أطول وأوسع من الاستحقاقات الانتخابية. ولكن إعطاء المعنى لا يعني الاقتصار على خطاب العلم والتخصّص الذي يدّعي لنفسه دون سواه حيازة المعرفة الضرورية لإدارة المجتمع كما ينبغي.
وهو ما كان حذّر منه ريكور حين أدان وجود قطيعة إبستيمولوجية بين عقلانية العلم والأيديولوجيا، وادعاء كل فريق وقوفه إلى جانب العقلانية ودحر الآخر نحو الأيديولوجيا. فالاعتقاد بأن الحقل الاقتصادي يمكن أن يحيط بكل شيء ويمثل كل شيء، أبعد ما يكون عن فكر ريكور، الذي كان يطفّف مكيال الأيديولوجيا بالطوباوية، بوصفها قادرة على تفكيك أطر العالم واستكشاف الممكن.
فهل يجعل ذلك كله من ماكرون فيلسوفا؟ كلا، يجيب ميشيل أونفري وميريام روفو دالون، ففي رأيهما أن عملا عارضا صحبة بول ريكو لا يمكن أن يجعل من ماكرون فيلسوفا. أما أوليفيي مونجان، الذي أشرف على مجلة “فكر”، فيعتقد أن للرئيس الجديد تكوينا فلسفيا متينا، وهو ما يؤيده فيه مارك أوليفي باديس من مخبر الأفكار “تيرّا نوفا”، إذ يرى أن انسجام مشروع ماكرون يجد جذوره في قيم اليسار الحديث، الذي يمكن أن يصالح مختلف التيارات في فرنسا، فهو قادر في الوقت نفسه أن يستأثر باهتمام القوميين وأنصار العولمة، العلمانيين والدينيين، بفضل اطّلاعه الواسع على مختلف التيارات الفلسفية.