ما بعد الحياة
لحظة ما لم تعد الحياة بعدها كما كانت. تحديداً، لم أعد أنا كما كُنت، ذلك الجسد المقيد بين قضبان العجز، منحني شرارة التوهج، وبعث في جسدي نبض لم أعهده من قبل. دقات مختلفة تعاند الواقع وتلهث خلف البقية الباقية. وهبني آخر ما كان بحوزته من أنقاض عنفوانه ونفخ الروح في أمنياتي الصغيرة. جعلني أتطلع إلى العالم من ربوة أحلامه التي رفض نسيانها. وضعني إلى جواره في ساحة الأمنيات التي تتحدى الزوال والذبول.
أدركت معه أنني لم أعرف العشق يوماً، بل ولم أعرف الحياة أيضاً. شيء مختلف في نظراته الممتلئة بزهو الذات، رغم عجز جسده الكلي عن الحركة. ربما لم يكن هو المصاب بقيود جبرية، بل كنت أنا المصابة بانغلاق عالمي، حتى جاء يصطحبني إلى بقايا بهجته التي أشعرتني كم كانت دنياي سجينة المَرافِق كـ”زنزانة” مزركشة بألوان مائية سرعان ما ذابت وخلّفت فوضى بصرية مزعجة.
بمجرد أن تلتحم عيني ببريق عينيه الغارقتين في الاحتواء، أسبح في فضاءات بعيدة ولا أعود من طوافي حول روحه التي أبغي بقاءها حولي أطول وقت ممكن. أنامله العاجزة عن لمسي، التي لا تتغير وضعيتها الثابتة، دائماً ما قالت شيئاً خفياً أمكنني سماعه. نظراته العاشقة لطفولتي، المُراقِبة لشغفي التلقائي، كانت تغازلني غزلاً لا يعرفه الكون. كأنني طفلته الأولى والأخيرة ومعشوقته الأبدية وملاذ ضعفه الآمن. ابتسامته دائماً ما اخترقت حواسي، فلا تدع لي سبيلاً سوى الاستماتة فى دفعه للتشبث بالحياة.
لملمت زهرات البهجة وأهديته إياها طمعاً في بقائه، بينما كان يسعى هو لإسعادي في أيامه القليلة المتبقية، ليطمئن كيف سأواصل طقوس الحياة كما أرادها لي. كم كُنا نتبارى في جولة العشق الأخيرة، طمعاً في نهاية ليست قاسية. لكنني لم أفهم ذلك إلا بعد أن غادر وتركني إنسانة أخرى، لم يكن لها وجود من قبله. صنعني من بقايا روحه ولونني بأقلامه الموشكة على النفاد. وضع عطره النفاذ حول خصلاتي وتركني أتنفسه – على مهل – في كل لحظة. أوصاني بالحياة، وكأنني سأعيشها نيابة عنه. وسأكمل ما انقطع في رحلته القصيرة. لقنني وصاياه بأن أمنح نفسي أولوية أستحقها. وأخبرني أن الوجود المادي ما هو إلا صيغة فانية للحياة لا ترقي إلى الوصل الروحي الذى لن ينقطع، قط، بيننا.
مارسنا العشق بمفهومه العذري، كالناسك الذي يتمم فروض عبادته دون أن يرى معبوده أو ينتظر إثابة لحظية على تفانيه في عبادته. كنت فقط أختبئ في عينيه وأغرق بهما مثل زورق صغير يستسلم لنهم الاشتياق. أستنشق أنفاسه بعناية، ولا أدعها تتسلل خارجي، وكأنها نطفة الهوى التي أدعها تنمو بداخلي، لتغزو كياني. أسمع نبضات قلبه المتسارعة وأنا قريبة من صدره الذى أغفو عليه كطفلة متعبة وجدت الراحة بعد طول عناء. أسترق النظر إليه وهو على مقربة منّي. وأترك توقيعي الهادئ علي وجنتيه كعناق يتوسل إليه أن يقاوم ويتشبث بالحياة بعد أن جعلني أستوثق بخيوط روحه التي تحزم حقائب الرحيل. علمني أن الحياة ما هي إلا روح نأنس بها، ليصبح الموت “حياة” إذا ما كان بين أيادي محبة. ولقنني درسه المفضل في انتزاع المتعة من الأيام قبل أن تدير ظهرها لنا دفعة واحدة.
هكذا يمكننا البعث مرة أخرى، عندما تسكننا أرواح لا تغادر ولا تغيب. تنمو بداخلنا كشجرة الظل ونكتب على أوراقها كيف كنّا وكيف صِرنا بعد لقاء أعاد صياغة الحياة بداخلنا من جديد!