ما بعد الخصوصية
فرضت خبرات العلم والمعرفة والاكتشافات المتسارعة على الأفراد والمجتمعات وعياً بالزمن أكثر تركيبا وحذاقة، وانعكس هذا على شتى المجالات وطال علاقة البشر بالفن والفكر والأدب وقد أدرك الملهمون في المجالات العلمية والأدبية ما لفكرة السيطرة على الزمن من أهمية قصوى في ظل تسابق محموم للمجتمعات على مصادر الثروة والقوة والغلبة في عالم تحكمه رأسمالية السوق وقد توحشت إلى أبعد الحدود، وصار لها، فضلاً عن حضورها الواقعي، واقعها الافتراضي المهيمن ورموزياتها الأيقونية.
وفي ظل انهيار المنظومات الأيديولوجية التي حكمت الدول والمجتمعات طوال القرن العشرين، وولادة العصر الرقمي وعالم “المابعد” حيث لم يعد اليسار يسارا خالصا، ولا اليمين يمينا خالصا، وتحوّل الدين إلى فولكلور بوجهين: مسالم وإرهابي، باتت “الأسواق” التي افتتحتها الشركات الكبرى المنتجة والمسوقة (وعلى رأسها التكنولوجية) مصنعا للمعتقدات والتصورات والأفكار والظواهر والموضات، وكل ما من شأنه أن يشكّل شبكة التعارف والتواصل بين البشر. انقسم العالم إلى مبتكر ومستهلك. فالمبتكر يمكن أن يبني بفعل ابتكاره المرتبط، غالباً، بشبكة التواصل الإلكتروني الفعال والمدهش، إمبراطورية (غوغل –فيسبوك – تويتر- إنستغرام..) تتفوّق، في قدرتها على الإخضاع والاستثمار والثراء، على أعتى الإمبراطوريات العسكرية. وها نحن في خضم لحظة إنسانية تخلو فيها العلاقات بين المبتكرين والمستهلكين من كل رادع أخلاقي. وبات الإنسان ضعيف الحيلة أمام غوايات السوق إلى درجة الهزال التام وانعدام المقاومة.
في ظل العلاقات الجديدة للاستهلاك باتت شجرة المعارف نفسها، تستبدل أوراقها من قبل حتى أن تصفرّ بأوراق أكثر خضرة، وثمارها التي ألفت بثمار لم تألف. فالعصر الرقمي يضرب لك يوميا مثالا يجدد لهاث البشر على الأشياء الجديدة، فالشركات التي ابتكرت تلك العلبة السحرية التي غيرت العالم إلى غير رجعة، وجعلت من البشر أدوات وموضوعات لها، لا تني هذه الشركات العملاقة الأكول تخرج على المستهلكين بأجيال جديدة من هذه العلبة الساحرة بميزات غير متوقعة، ووظائف تخطف العقول والأبصار، في لعبة تُسابق الزمن والإنسان معاً.
***
لن أمضي في استعراض أوجه ما أتاحته التكنولوجيا الرقمية للإنسان، فهي أكثر من أن تحصى لكونها تشمل مستويات لا حصر لها من أوجه النشاط الإنساني والتواصل بين الناس. بل إن كل ما هو كائن في الواقع بات له نظير ومثال وصورة على الشبكة العنكبوتية.
هناك من بين بني البشر، لاسيما من ينتمي منهم إلى مجتمعات لم يكن لها سهم في التطور العلمي، من يعتبر منافسة العالم الافتراضي للعالم الواقعي ضربا من الخير الممزوج بالشر، ولا بد منه، ومنهم من يعتبره شراً محضاً، فيهجوه وهو عاجز عن مقاومته. وفي كلتا الحالتين نحن إزاء نموذج من البشر المنفعلين بالعالم، العاجزين عن الفعل فيه. فما من بديل لهذا الوحش الإلكتروني وعوالمه الافتراضية، بل لا مناص من الاستسلام، وغالباً الانغماس في هذا العالم، فمن لا موطئ قدم له على هذه الأرض الزائغة لا موطئ قدم له في الأرض الصلبة.
***
مئات المقالات وعشرات الكتب حُبّرت بالأسئلة الحائرة عن مستقبل السلوك والتفكير البشريين في ظل الثورة التكنولوجية المذهلة التي عصفت بالعالم، وبدّلت في السلوك اليومي للبشر على نحو فارق، وشملت بذلك سائر سكان الكوكب، فقراء وأغنياء، قرويين ومدينيين، متعلمين ومحدودي التحصيل العلمي. بل إن الثورة التكنولوجية ساهمت في ردم الفوارق بين الفئات المختلفة، ومكّنت الأفراد من الوصول المتساوي إلى مصادر المعرفة. وأتاحت لهم جميعاً فرص التعبير عن الذات على نحو غير مسبوق، والتواصل في ما بينهم وبين من يرغبون في التواصل معهم أكانوا قريبين منهم جغرافياً أو هم في أقاصي الأرض، وقتما يشاؤون.
***
شيء مذهل حقاً، ما وقع من تغيير ليس فقط في السلوك اليومي للناس، في علاقات العمل والصداقة، والعلاقات بين الجنسين، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الأسر المختلفة. بل إن ما حدث من تطور تكنولوجي وهيمنة لمفردات الأخطبوط الرقمي أصاب عمق البنية الذهنية للناس، وهو في سبيله إلى خلق حقائق يومية قاهرة من شأنها أن تملي نفسها على الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد، وتعيد تعريف الأشياء؛ كل الأشياء، وصولا إلى تغيير قواعد السلوك، وإلى ما يمكن أن نعتبره اختراقاً لقلعة المفاهيم الأخلاقية التي بناها البشر وطوّروها عبر ثوراتهم المتعاقبة واجتهاداتهم الفكرية، وأغنوها بمفاهيم جديدة أعادت مراراً تعريف فكرة الأخلاق بالمعنى الفلسفي للكلمة، والمنظومة الأخلاقية بالمعنى الاجتماعي.
على أن التطورات الجارية في العالم على الصعيد الذي نتكلم فيه ليست إلا عتبة في رحلة خارقة للعادة يخوضها البشر مع التطور التكنولوجي، في ظلّ ما اصطلحوا على تسميته بـ”العصر الرقمي”. ولا شيء يمنع إطلاقاً من أننا نتجه نحو مفترق طرق غير مسبوق، معرّضين لعواصف من شأنها أن تعرّي الكائن البشري من كل ما ستر به عريه من قيم ومفاهيم وأخلاقيات، لطالما تشكلت بأثر من التجارب التي خاضها البشر وبفعل الخلاصات التي توصّل إليها الوعي الاجتماعي للإنسان عبر رحلته المديدة منذ أن اكتشف النار وغادر ظلام الكهف إلى نور المعرفة.
***
قدر لا دافع له.
لكنّ ثمة وعيا آخر، لدى أناس ينتمون إلى الأجيال الجديدة غالباً، يرى أن العالم تغير بلا رجعة، وكلنا جزء من هذا التغيّر الذي أدخلنا فيه العصر الرقمي. ما من كائن مهما كان مستقلا ومقتدرا يمكنه أن يقيّم زمنه الخاص بمنأى عن المجرى العام للزمن. والسؤال الأوجب في حال كهذه هو كيف نتصرف بإزاء اللغة الجديدة التي يبتكرها لنا العصر الرقمي. هل نتعلم هذه اللغة ونصبح مواطنين كونيين في كوكب متصل الأجزاء يتبادل ناسه على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وأحوالهم، الخبرات والتجارب والعلوم والمعارف، أم ينخرط البعض وينكص البعض الآخر، فتتضاعف الفوارق بين الجهات والجماعات، وتنشأ أسوار بين ثقافات وثقافات، ويدخل البشر في طور من التفاوت لا صلاح له؟
قد يبدو السؤال هنا مبسّطاً، في ظل التعقيد الهائل الذي يحكم الجغرافيات والدول والجماعات الثقافية المختلفة. مادام التفاوت واقعا لا حلول له بين أمم قوية منتجة وأخرى ناكصة مستضعفة، أمم غنية وأخرى فقيرة أو مستفقرة، نظم متقدمة وأخرى متخلفة، وثمة شركات عملاقة تطحن الحجر والبشر وتقيم في العالم أسواق الاستهلاك، وغالباً ما تقع الحلقات الأضعف في هذه المعادلة ضحية استنزاف لا نهاية له.
ومن المفارقات التي تحتاج إلى درس، على خلفية هذه اللوحة، أن أفراداً في أفقر المجتمعات اليوم يملكون أجهزة إلكترونية نظير تلك التي تتوفر للأفراد في أغنى المجتمعات، وهذه واحدة من مفارقات العصر الرقمي. وهو ما يدخل البشر في مخاض معرفي سينتج كائنات تختلف في وعيها للعالم وطرائق تلقّيها الاشياء، وتعاملها مع الظواهر أطوارا جديدة كلية. فثمة أبواب للفرص لدى الجميع أيّا كانوا، ومهما تفاوتت أحوالهم الاقتصادية، أو اختلفت أفكارهم، أو افترقت بهم سبل التعبير عن أنفسهم.
***
قبل أن أمضي في طرح الأسئلة المتصلة بالموضوعات الأكثر خصوصية وحميمية في حياة الأشخاص وطبيعة حضورها عبر الشبكة العنكبوتية، أود أن أشير هنا إلى أنني أستبعد الحديث في سلبيات الشبكة العنكبوتية، من دون أن أستبعد التفكير فيها أو أن أنفي وجودها، تاركاً لغيري مثل هذ الاهتمام. فما يهم، بالنسبة إليّ، هو المشاركة في قراءة بعض أوجه الظواهر الناجمة عن السلوك التواصلي والسلوك الاستعراضي عبر شبكة الإنترنت.
***
في هذا السياق تتبادر إلى الذهن تلك الصور التي يتبرع بها سكان الكوكب في نشاطهم الافتراضي المحموم على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر التطبيقات المختلفة المتاحة عبر جهاز الموبايل وكذا عبر شاشة الكومبيوتر. ثمّة من يتبرّع بجلسته العائلية، ومن يتبرّع بوقائع رحلته في الطبيعة والمدينة، ومن يستعرض ملابسَه وصحنَ طعامه وكتاباً يقرؤه، وقطعة موسيقية أو أغنية، أو نعي أب أو أمّ أو صديق، أو صورته في مشفى بقدم مكسورة، وهناك السيلفي لوجه شوّهته اللقطة ومن ورائه جماعة أو لوحة أو حافلة أو سهل أو حيوان. أو قطار محطم أو طائرة تحترق أو أشخاص توزعوا الشاطئ شبه عراة. وهناك البيان، الشخص ضد شخص أو جماعة أو حاكم، وتعبير عن الانتماء إلى فكرة.. وهناك الجالسة إلى المرآة وفي وجهها المساحيق، ولكن الباكية الشاتمة شريكا كفّ عن أن يكون وفيا.
تبرّعٌ بوصف الحال وتصوير الانشغال وإعلان عن انتماء أيديولوجي أو ديني، وأخبار عن أشخاص قد يسعدهم حضورهم، أو يغضبهم هذا الاختراق لنواح حميمية من حياتهم وليست للتداول العام. استعراض للذات، في شبكة تزخر بالفضوليين المستمتعين الصارفين الوقت في متابعة الشارد والوارد وكذا السقطات التي تصدر عن هذا وذاك وتلك.
والسؤال الآن، ما الذي يجعل أولئك “النرسيسات” الليليين الهاربين من الواقع كائنات غارقة في زرقة الشاشة لولا استغراقهم في ذوات تائهة وقلقة، وربما معذّبة اجتماعيا، تبحث لوجوهها عن مرايا، نرسيسات بوجوه شتّى ولها طلب مشترك ولكنها على شيء من التناقض مع بطل الأسطورة القديمة عاشق ذاته، فالنرسيس كما قدمته الأسطورة الإغريقية، واستقر في علم النفس الفرويدي هو طالب اتصال مع الجمال لا يتحقق له وجود إلا في التماهي بصورته، والغياب في تلك الصورة. بينما نرسيس الإنترنت طالب حضور لدى الآخر أبرز ما في طبعه الاستعراض، أو هو فضولي تنعشه الصور الشخصية لعارضين تبرعوا بأنفسهم في دورة استعراض وتلقّ تقيم بين الطرفين علاقة إشباع مرضية لا حرج فيها لأيّ من الطرفين مادامت تجري في عالم افتراضي وبين كائنات تسكن في عزلات محصنة من الاتصال المباشر. يجمع ما بينها وبين نرسيس القديم عشق الصور، وغالبا على حساب المعنى العميق للكلمة والمعنى الأسمى للوجود.
لندن - آذار/مارس 2020