ما بعد كورونا
أرتاب دومًا من طلبات الكتابة عن أمور قيد التشكّل. الكتابة تقتضي مسافة للتأمل والفهم والاستيعاب. مسافة مختلفة عن هذه التي أضحت مفروضة علينا الآن في ظل الحَجْر الصحي. لكنّها مسافة ضرورية لكي نحس بالعالم والأشياء. لكي نحدّد إحساسنا العميق بما يحدث على نحوٍ قابلٍ للصياغة… صياغة الأسئلة الأكثر بساطة والأشدّ خصوبة والتي تشكّل جوهر وجودنا الإنساني القلق بطبيعته. فما بالك بطلبات الكتابة النبوئية عمّا قد ينتهي إليه العالم بعد الجائحة.
لستُ عرّافا، ولا أعتقد أن من يجرفه سيلٌ أعمى، سيكون على استعداد لإعطاء تصوّراتٍ واثقةٍ عن مستقبل العالم بعد أن يُلقي به السيل – إن حصل ونجا – على يابسة. الكوارث تتطلّب تعاطيا آنيا وحذرا مع الواقع المضطرب من أجل الإفلات. إنها تعيد الاعتبار للاحتياجات الأساسية للإنسان: الصحة والأمان… أي “البقاء” ببساطة شديدة. والأدهى أنّ البشرَ مُطالبون بمواجهة الوباء بإمكاناتهم الفردية المحدودة جدا. لا تلقيح هناك ولا دواء. فقط العزل، وضرورة الانضباط الحَرْفي لشروطه ومستلزماته على قساوتها. ثم الاعتماد بشكل أساسي على المناعة الخاصة إذا ما حصل المحظور واستوطن الوباءُ الجسد. فليس هناك من بروتوكول علاجي واضح حتى الآن.
إن هشاشة الكائن التي نستشعرها اليوم كأفراد تجعلنا في حالة من الضياع وفقدان البوصلة لا سبيل إلى الالتفاف عليها. وهناك ممّن له ولعٌ بالتنبّؤات، من عاد إلى الأرشيفات مقلّبًا بين رفوفها باحثًا عن ظلال فايروسٍ مُنتظَر – الحالي على ما يبدو – في سيناريوهات الأفلام والمسلسلات وفي الروايات بل وحتى داخل الكتب المقدسة. لكن ما بالك بمن يحاول التعالي على الوضع ومقاربته من موقع المتأمِّل الواثق. أنا لستُ مجبرًا على التأمل منذ الآن في مآلِ العالم على إثر الجائحة. ربما قد أفكّر فيما سأقوم به شخصيا بعد رفع الحجر الشامل… كالمسارعة إلى الذهاب عند الحلاق للتخلص من الشعر الذي تراكم طوال فترة الحَجْر. الحمّام التقليدي أيضا يراودني، هذا الطبيب الأبكم كما وصفه الفراعنة القدامى، تلحُّ عليّ فكرة زيارته باعتباره نعيمًا حقيقيًّا، أنا المكتفي عادة بحمّام البيت. ربما هي الرغبة في التخلص الكامل من أدران زمن الحَجْر الشامل. طبعا لن أفكّر في خدمات “كسّال” محترف. وهذا حتما سيكون من مخلفات زمن الحَجْر الصحي. فالتباعد الجسدي، الذي يسمّونه اليوم بشكل شنيع ومقرف التباعد الاجتماعي، سيربّي داخلنا نوعا من الحذر المُستحدث من أجساد الآخرين. من أبسط احتكاك في الطريق حتى العناق مع حبيب أو صديق… الاحتضان شديد اللهفة، تبادل القبلات الحارة تعبيرا عن الشوق، المبالغ فيه أحيانا، وحتى تلك المصافحة العضلية القوية دلالةً على مدى توطّد الصداقة، كلها أشياء باتت تدعو إلى الحذر والريبة. الاندفاع التلقائي باتجاه الآخر، التقارب الجسدي، التلامس العفوي، كله سيتغيّر. بل حتى حركة أجسادنا في الشارع قد تتغيّر. كنّا نتحرّك في الشارع بأمن تام وكأنَّ الأرض والسماء لنا… لا لغيرنا. لا يُخشى علينا منها إلا بمقدار ما قد يسبّب البشرُ لبعضهم البعض من متاعب: الجريمة، القمع، الاعتداء، الاحتلال، الحرب، الإرهاب… كل التهديدات مصدرُها الإنسان، فيما نتصوّر أن الطبيعة التي ندمّرها يوميا بشكل منهجي سادرة في عجزها مغلوبةٌ على أمرها. وحتى تعبيراتها الصاخبة عن الغضب من حين إلى آخر عبر العواصف والفيضانات والزلازل والبراكين والأعاصير تبقى محدودة في الزمان والمكان. وقد اجتهد الإنسان في إيجاد وسائل لمواجهتها أو التفاوض معها بل واستباقها أحيانا. فكم من سدٍّ مَنع فيضانًا هنا، وكم من إجراء احترازي ساهم في الالتفاف على غضب الطبيعة هناك… في هذه المنطقة أو تلك من العالم. لكن الطبيعة اليوم أبت إلا أن تعلن عن غضبها الشامل في صمت صاعق. تماما كمن يطلق بعشوائية مجنونة رصاصًا كثيفًا في كل الاتجاهات من مسدس كاتم الصوت.
فهل بعد انجلاء هذه الغمامة الثقيلة السوداء، ستعود علاقتنا مع محيطنا الطبيعي إلى سابق صفائها وعفويتها؟ هل سنعود إلى الارتماء في أحضان الطبيعة بأريحية وطمأنينة؟ هل سنشعر تجاهها بنفس الأمان السابق؟ لا أظن. فقد استهنّا بمحيطنا كثيرا، ونحن مطالبون بوقف اجترائنا عليه بالصلافة التي كنا نتصرّف بها أفرادا، حكومات، دولا ومجتمعات.
***
لا أريد الانخراط في ما يشبه المناحة التي تنذر بنهاية العالم. ولم تكن لديّ أدنى رغبة في الاستجابة إلى تلك الدعوات المتهافتة التي تستصرخ الشاعر والمثقف لكي يقول كلمته الفصل في هذه الرجّة الكبرى. كنت معنيّا بأمر آخر لا يقلُّ خطورة. فقد استقلَلْتُ طائرة العودة من بروكسل يوم الـ12 من مارس… وقد بحثتُ يومها في أكثر من صيدلية بالعاصمة البلجيكية عن كمامة واقية أرتديها في الطائرة دون جدوى. الأوروبيون اكتشفوا أنهم لا يتوفرون على العديد من الأساسيات التي لا يتمّ إنتاجها محليا، بسبب هوامش الربح المنخفضة. لذا فوَّتوا إنتاجها ليد عاملة أرخص في بلدان نائية مستفيدين بذلك من فضائل العولمة. هكذا وجدوا أنفسهم مرتبطين بإنتاجات آسيوية تُصنع في أجواء موبوءة أحيانا بل ومُصادَق عليها من طرف كوفيد – 19 شخصيا. وهكذا نفدت الكمامات عن المخازن الصيدلية للعديد من البلدان الأوروبية. من حسن الحظّ أن بروكسل كانت لا تزال تعيش حياتها بشكل اعتيادي. استجمعتُ قِوايَ واستعداداتي الفطرية للمُجازفة، وخاطرت بالطيران من دون “منقار”. لكن بعد يوم من وصولي إلى مراكش، سارعَت الحكومة البلجيكية إلى فرض الحجر الشامل. كما علّق المغرب كل رحلاته الجوية معها ومع هولندا وألمانيا والبرتغال إضافة إلى فرنسا طبعًا.
هكذا بين عشية وضحاها صرتُ شخصًا يُستحسن اجتنابُه… شخصا قادما من جهة الوباء تحديدًا. التهمة ثابتة وصوري على فيسبوك دليل قاطع ضدّي. كنتُ في بلجيكا وقبلها في فرنسا. إذن، عليّ أن أتفهَّم برحابة صدر الإلغاء المتلاحق لأكثر من موعد وبأعذار ليست مقنعة دائمًا. كان هذا أول اختبار على الصعيد الشخصي. وكان عليّ أن أبتلع هذه المرارة لألتمس الأعذار للآخرين. الآخر هو الجحيم، قال سارتر يوما. والآخر بالنسبة إلينا دائما وبشكل تلقائي أصل الداء. وها أنذا أكتشف أنني “آخَر” الآخرين. هو درسٌ إذن، فلأجرّب الاستفادة منه. عليّ مثلا أن أستوعب أنّ الآخر ليس وحدهُ مصدر الوباء. الفايروس أعمى، يخبط خبط عشواء. كل واحد منا مرشّح لأن تأتيه اللطمة من حيث لا يحتسب. ويمكن لكل منّا أن يجد نفسه مُحتلًّا من طرف الفايروس إثر غارة لا يذكُر متى شُنَّت عليه ولا بأيّ سلاح، وإذا به يشكّل خطرا على نفسه وعلى الآخرين. لذا فالمعركة الأولى تكون مع الذات، أو بالأحرى ضدّها. هكذا قرّرت أن أطيح بأناي الملكية لأعزل نفسي عن الآخرين.
جلست في البيت أغسل يديّ من حين إلى آخر وأجاهد لمنعها من ملامسة أنفي وعينيّ ضدّا على حساسية الربيع. كما وجدت الوقت مناسبا لأنهي قراءة روايات القائمة القصيرة للبوكر، وأعود إلى أعمال أخرى تراكمت في رفوف خزانتي ومنعني لهاث السفر والعمل والتصوير من أن أعطيها حقها. خصوصا وأنّ قراءاتي في السنوات الأخيرة صارت موجّهة بشكل رهيب. صرت أقرأ للتصوير، لزوم الإعداد، أكثر مما أقرأ لنفسي ولمتعتي الخالصة. الفرصة مُتاحة أمامي اليوم للاستدراك، وأيضا لالتهام رفٍّ كامل من الروايات المترجمة التي ظلّ الدنوّ منها مؤجَّلا على الدوام. الوقت مُتاحٌ أيضًا لأتابع هذا التَّدفق الإلكتروني الرهيب على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الأخيرة تُحقّق أهمّ شروط الحقبة الوبائية: التواصل في ظل التباعد. هناك مقالات وقصاصات وتحاليل ونكات وخطب ولايْفات لا تعدّ ولا تحصى. حيث احتشد الأطباء وأنصافهم، الخبراء وأشباههم، الخطباء والمنجّمون والعرّافون والأدعياء كلٌّ يُدلي بدلوه في بئرٍ قرارُها سحيق وغورُها عميق… إحصاءات ورسومات بيانية وتخمينات وأحاديث عن مؤامرات عابرة للشعوب والقارات. كنتُ أتابع أيضا أخبارا ميدانية عبر أختي وزوجها اللذين يعملان في قطاع الصحة العمومية. اكتشفتُ عبرهما، وعبر أصدقاء آخرين يشتغلون في نفس المجال، أبطالا مجهولي الاسم والهوية تُحوّلهم الكاميرات إلى كائنات شبه فضائية متشابهة وهم يتصدَّون إلى الفايروس في الجبهات الأولى. أطقُم طبية أظهرت شجاعة لا تضاهى. إنها بطولة المغمورين… بطولة من لا يطلبون مجدًا.
ثم يأتي من يطالبك وأنت في تلاطُمِ اللجَّة بأن تقول كلمتك، وكأنّ مصير العالم والإنسانية جمعاء متوقّف عليك؟ يستصرخُونَك وكأنكَ المُعتصِم بالله. كنتُ أتابع ذلك على فيسبوك باستغراب. أشخاص عجيبون لا يقرؤون كتبا ولا يخوضون في نقاش ثقافي، لكن كلما حلّت بالبلد مصيبة تجدهم يتصايحون على فيسبوك “لمَ لا نسمع صوت المثقف؟ أينكم أيها الشعراء؟” ثم يأتي رفاقٌ لهم، الوجه الآخر لعملتهم المغشوشة، ليستلموا كلّ من وقع في الأحبولة واستجاب للنداء “هل بهذه القصائد الجوفاء سَنُواجه الوباء؟ كان أفضل لشعراء آخر الزمان لو خرسوا ودخلوا إلى جحورهم، فالوقت ليس وقت شعر وغناء”.
تكرّرت اللعبة مرات، منذ “الربيع العربي” حتى “كورونا”، وصارت بالغة السّماجة والسخف. ومع ذلك، هناك في هذه الظاهرة الغريبة ما يدعو إلى التأمل. ثمة نزوعٌ عجيبٌ – في العالم العربي خصوصًا ـ إلى استصراخ المثقف في الأزمات والمواقف الصعبة وكأنّه نبيّ مخلّص. والحال أن أغلب مُستصْرِخي المثقف اليوم ليسوا ممَّن تُوجِّهُهُم الثقافة في حياتهم اليومية أو ممَّن تصدُر خياراتُهم الاعتيادية عن رؤية وموقف ثقافيين. لذا أرتاب شخصيا من محاولتهم إقناعنا في مثل هذه الظروف بأهمية المثقف ومحورية دوره. ورأيي أنَّ من يجب أن نتوقّع منه إجابات جدّية موجِّهة للرأي العام وحلولًا قابلة للتطبيق هم أصحاب القرارين الطبي والإداري. فيما يبقى المثقفون والأدباء مطالبين إزاء هذه النازلة، البعيدة عن اختصاصهم، بالتزام دَوْرهم المُواطِن بالامتثال للحجر الصحي. إنهم مواطنون كالآخرين، كل المطلوب منهم أن يتصرّفوا كمواطنين مسؤولين منضبطين. هل هذه استقالةٌ للمثقف؟ تخلٍّ عن دوره التاريخي؟ أبدًا. فمن يُطالب المثقف سواء كان منتجَ أفكار أو مبدعًا من صُنّاع الوجدان بإجابةٍ على وضعٍ خارجٍ عن اختصاصه إنّما يُزايِد عليه.
لكن، هل هذا يعني أن المثقف لا يمكنه أن يفيد بشيء؟ بلى، مساهمته مطلوبة حتى في ظل ظروف العزل التي نعيشها. ربما يمكن لبعض الكتّاب استغلال مصداقيتهم لدى القرّاء لممارسة نوع التحسيس وتنوير الرأي العام، وهذه خدمة ثقافية صغيرة – وجليلة أيضًا – يمكن الاضطلاع بها. لكن حسبُ المثقف ذلك الآن، لأن تفاعُلَه الأعمق والأكثر جدّية يحتاج دائما إلى وقت، والمؤكد أن المكتبة العربية والإنسانية ستغتني مستقبلا بسرود ومحكيات تلتقط ما يجري هذه الأيام بحساسية المبدع الخاصة، وكذا بتأملات شعرية وفكرية وفلسفية تشتبك مع هذا الحدث الفارق المُزلزِل وتحاول فهمه واستيعابه، ودراسات وتحاليل تقارب برصانة ما سيفتح هذا العبورُ القاسي للجائحة عليه العالَمَ من تحوّلات. والمؤكّد أيضًا أن هذا الذي نطالبه بالتدخّل الفوري، له مساهمات جدّية ما علينا إلا أن نبذل اليوم مجهودا لتثمينها ليس بالتمجيد والتقريظ، وإنما فقط بالإحاطة والإدراك. فقد أنتج المفكرون والأدباء العرب عشرات العناوين المهمّة في مختلف مجالات الإنتاج الفكري والإبداع الأدبي. هي مبذولة للجميع على رفوف المكتبات، وعلى الإنترنت… إمّا منشورة بشكل رسمي أو مُتاحة بشكل مجاني، بل ومقرصنة حتى، لا بأس. هذه الكتب أمامنا. يمكننا استغلال فترة الحجر الصحي لقراءتها والاطّلاع عليها. هكذا نتعرف بشكل أفضل على مثقفينا ونستوعب بنات أفكارهم، بدل اعتبارهم على الدوام كائنات من كوكب آخر.
***
من حسنات هذا العزل الاجتماعي والجسدي، أنه جعل الإنسان يشعر أخيرًا بحجم ضآلته. هذا الشعور قد يدفعه إلى مراجعة فردانيته الطاغية. فالخلاص من الوباء مثلا ليس بُغيَة أفراد فقط وإنما هو مطمح جماعي، لا يمكنه أن يتحقّق إلا بالانخراط الشامل في ما تتطلبه المرحلة من وقاية وعزل. عزلُك كفرد إجراءٌ ضروري لحماية الجماعة. وعدم انضباطك الشخصي لمعايير السلامة والوقاية المطلوبة يتحوَّل تلقائيًّا إلى تهديدٍ مباشرٍ للأفراد الآخرين الذين يشكّلون هذه الجماعة. لا مجال إذن للإعلاء من شأن حريتك كفرد. فسلامة المجتمع لها كل الأولوية. ولابأس في لحظة مصيرية كهذه أن يُقدّم المرء بعضًا من حريته قربانًا للحياة.
نشدانُ الخلاص الجماعي قد يقود العالم إلى أفق جديد في الحياة والمجتمع والعلاقات ما بين الأفراد والمجتمعات. وقد نجد أنفسنا مجبرين بعد نهاية العزل، من موقع تبعيتنا الفكرية والثقافية والحضارية للغرب، إلى الانخراط في هذا الأفق، دون أن نكون قد عشنا تجربة الفرد كما بلورَتْها الحداثة وحقّقتها في المجتمعات الغربية. فإذا كان الغرب قد أنجز مشروع حداثته على مختلف المستويات الفكرية والسياسية والصناعية، ليتمّ تحرير الفرد هناك من سطوة الدولة والدين والمجتمع وليتمَّ تتويجه مَلِكا على نفسه وعلى العالم، فإن حداثتنا معطوبةٌ أساسًا لأنها حتى اليوم لم تُعْلِ من قيمة الفرد ولم تُتِح له الهوامش المطلوبة لكي يتحقّق. إذ أنّ الصوت الجمعي لا يزال مهيمنا بيننا، وما زال الأفراد في بلادنا العربية مُلزمين بالعيش في كنف الجماعة والامتثال لتعاليم الحاكم والفقيه. المفارقة هي أن الغرب الذي طوَّر مقولة الفرد وعاش فرديته بالطول والعرض، يواجه اليوم مع هذه الأزمة رجّة قوية قد تدفعه إلى مساءلة هذه المقولة بعدما انتبه إلى حدودها. والمؤكّد أننا كالعادة سنقتفي أثره لنتراجع عن فرديةٍ لم نُجرِّبها بعد. وهذا عطبٌ كبيرٌ سيعزِّز، إن حدث، لائحة أعطابنا الحضارية الكبرى التي نجرجرها معنا منذ عصر الانحطاط.
***
حين عدتُ من بروكسل، كانت المقاهي والمطاعم لا تزال مفتوحة في المغرب. الناس تعيش حياتها الاعتيادية، ولم يكن كورونا أكثر من موضوع للتندّر. لكن بعدما بدأت الفيديوهات تتهاطل من أوروبا خصوصا تلك التي تصوِّر التدافع بالمناكب في الأسواق الممتازة، ومع تبنّي الدولة لخطاب صارم واتخاذها عددًا من التدابير الاستباقية القوية كإيقاف الرحلات الجوية ثم إغلاق الحدود، بدأ الناس يستشعرون جدّية التهديد. وكان أول رد فعل جماعي صدر عنهم بما يدل على استشعارهم خطورة الوضع هو التزاحم في الأسواق. ليس الانعزال وتجنُّب الاختلاط، وإنما – ويا للمفارقة – الهجوم الجماعي على الأسواق. وإذا كان وصول حمّى التزاحم على شراء وتخزين المواد الاستهلاكية الأساسية التي بدأت في أوروبا أمرًا مفهومًا مبرَّرًا، فإن حمّى شراء وتكديس مناديل المرحاض التي انتقلت عدواها إلى أسواقنا الوطنية تظل مستعصية على التبرير. إذ كيف نتهافت على ورق التواليت نحن الذين تبلور لدينا في ثقافتنا العربية الإسلامية أدب كامل وثرات شامل في ما يتعلّق بالاستنجاء؟ ولولا نُدرة الماء في شبه الجزيرة العربية في صدر الإسلام لما فُتِح أصلًا باب الاستجمار والتطهّر بغير الماء. فإذا حضر الماء بطل التيمّم. لذا لم أفهم بتاتًا كيف حذونا حذو قوم يصابون بالرُّهاب لمجرّد التفكير في ملامسة نجاستهم. ولكن التبعية كانت دائمًا هكذا، شديدة العماء.
***
ومثلما يعود التاجر المفلس إلى دفاتره القديمة، وجدتُني أقلّب في تدويناتي الإلكترونية التي راكمتُها على امتداد السنوات اللاحقة على صدور كتابي الشعري “دفتر العابر”. بدوتُ كمن يحارب العزلة بالمزيد من التحليق. هكذا استعدتُ أجواء بعض أسفاري ومشاهداتي نكاية بالحَجْر. وأفكّر الآن بجدية في جمعها في كتاب. أغلب هذه التدوينات كتبتُها في الفنادق ومطارات الترانزيت. وأشك اليوم في أنّ السفر سيبقى بعد كورونا مُتاحًا بذات الأريحية. بل وأشك في أنّ تأشيرات ما قبل كورونا ستبقى سارية المفعول. قد يكون هذا مجرد رجمٍ بالغيب. مجرد هاجس أسود لمُدمِن على السفر. لكنني لست متفائلا على كلّ حال.
أتابع أيضا في الصحافة الوطنية والعربية وعلى فيسبوك يوميات الكتّاب تحت الحَجْر متلصّصا على انشغالاتهم الصغيرة في زمن الجائحة… قرأت ما نشره عبداللطيف اللعبي في صفحته على فيسبوك: فصل صغير من كتابه الجديد يحكي فيه كيف يعيش مسيو بارْدْ، بطل الكتاب، حَجْره الصحي، وكيف يلعب الغُمّيضة مع الموت. تابعت ما ينشره أصدقاء آخرون. قرأت مقالا في جريدة فرنكفونية للطاهر بنجلون بعنوان “العزلة أو الموت”… عرفتُ منه أن صاحب “ليلة القدر” يقرأ ترجمة روايتي “هوت ماروك” بشهية طيبة على حدّ تعبيره، وأسعدني ذلك. فكرةُ السفر عبر الترجمة تستهويني أيضا. وهذه لا يمكن للحَجْر أن يمنعها أبدا.
في معرض بروكسل للكتاب الذي الْتأمَ رغم كورونا، ولعله كان آخر فعالية ثقافية كبرى عرفَتْها أوروبا قبل الحَجْر الشامل، أدرتُ ندوةً حول إنتاجنا الأدبي وآفاق ترجمته. هناك اختلال مريع نعيشه على مستوى الترجمة في علاقتنا بأوروبا. سواء كمغاربة أو كعرب، كمجتمعات أو كأفراد. ففي ظل انحسار القراءة في العالم العربي نحسُّ بحاجة العديد من أدبائنا إلى الترجمة، لا طلبًا لمنفعة مادية أو حظوة أدبية، بل فقط ليتحقّقوا ككتّاب أو على الأقل ليتعزّز وضعهم الاعتباري بين أقرانهم من منتجي الأفكار. لكن المفارقة هي أن الآداب الأوروبية أصلا غزيرة على مستوى الإنتاج، وهي تحقّق الاكتفاء الذاتي لسوق القراءة الغربي. وحتى حينما يريد القرّاء الغربيون تنويع قراءاتهم لا يجدون ضالتهم بالضرورة في الأدب العربي الذي لا يستجيب للذوق الأوروبي السائد. فهل على الأدباء العرب الاستجابة لهذا الذوق لكي تُترجَم أعمالهم وتُتداوَل في الغرب؟
حين لا تتوفر بلداننا العربية على بنيات ثقافية قوية تتيح لها بلورة استراتيجية عامة في مجال الترجمة، نصير محكومين بمزاج المترجم الغربي، وحسابات مؤسسات النشر الأوروبية وأولوياتها. كما أنّ اختلال ميزان الترجمة لصالح الغرب يجعلنا مجرّد مستهلكين لثقافته باعتبارها ثقافة عالمية، وكأنّنا نحن خارج العالم. الهيمنة مستفحلة إذن: عسكريا، اقتصاديا واستراتيجيا. ومن الطبيعي أن تفرض هذه الهيمنة الغربية الشاملة علينا تبعية لها تجلياتها الشائهة على الصعيد الثقافي.
***
ليست مقولة الفرد وحدها ما سيتعرّض للمراجعة بعد زلزال كورونا، وإنما مفاهيم الأمة والاتحاد والتكتل الإقليمي ستصير بدورها في رأيي موضع مساءلة. وإلا، هل نتصوّر مثلًا أن الاتحاد الأوروبي سيحافظ على تماسكه بعدما تمّ نقضُ حرية تنقّل الأفراد والبضائع بين دول الاتحاد؟ هذه الدول التي تخلّت عمليا عن إيطاليا مع بداية أزمة كورونا. صار كل بلد أوروبي معنيا بحماية حدوده الخاصة من اجتياح الوباء، ولا يفكر في غير مواطنيه. حتى منظمة “أطباء بلا حدود” هجرت بعض الجزر اليونانية على حدود تركيا، حيث يتجمّع اللاجئون في ظروف مُزرية مواتية لاستحداث فايروسات أخرى تُعضّد كورونا وتشدُّ من أزره، لتصبح هذه الحدود “حدودا بلا أطباء”. اليونان، وهي درعٌ أوروبيةٌ في مواجهة تدفّق اللاجئين، تبدو وحيدة أيضا في مواجهة قدرها. لذلك أصبحت تواجه اللاجئين الجدد بالرصاص والغاز المسيل للدموع.
كذلك النظام العالمي، الذي لم يعد جديدا، هل سيظل على ما هو عليه بعد الاندحار المدوّي لرموزه وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية التي يتابع العالم باستغراب تدبيرها السيّء للأزمة، ومسؤولية إدارتها الحالية بشكل مباشر تقريبًا في مضاعفة أرقام ضحايا كورونا ضمن أوساط الشعب الأميركي؟ أليس من الطبيعي أن يتراجع هذا النظام لصالح اختيارات استراتيجية مستجدّة فاجأت العالم كالنموذج الصيني المُحيّر في طريقة تدبيره لأزمة كورونا، أو النموذج الكوبي الذي أطل برأسه من قعر التهميش الإعلامي المضروب عليه على مدار عقود من الحرب الباردة والمتواصلة، ليقترح على إيطاليا والعالم دعما طبيا لم يتوقّعه الإيطاليون أنفسهم بعد ما طالهم من خذلان ذوي القربى وأهل الجوار؟
ثم ماذا عن فضائنا العربي الإسلامي؟ لقد صار واضحا أنّ منطقتنا تعيش هذه المحنة كدول قطرية في ظل صوريّة جامعة الدول العربية وهشاشة باقي اتحاداتنا الجهوية (اتحاد المغرب العربي، مجلس التعاون الخليجي).
وطبعا لا أحد لديه الوقت لمجرّد التفكير في عواقب تفشي الوباء داخل قطاع غزة مثلا والذي يعاني من ويلات الحصار والحَجْر الجماعي تحت الاحتلال؟ هناك حيث يمكن لتكالُبِ الفقر والاكتظاظ السكاني وضعف البُنى الصحية أن ينذر بكارثة محقّقة.
لكن الشائع في تفاعلنا الجماعي من الخليج إلى المحيط مع هذه الأزمة هو الانكفاء على الذات واللّجوء إلى مواجهة الداء بالدعاء والاعتلال بالابتهال. الإفلاس في مجال البحث العلمي يبدو مريعا في عالمنا العربي، لذا لم يكن لدى شعوبنا المسكينة من بديل عن رفع أكفِّ الضراعة إلى السماء.
من حسنات هذا العزل الاجتماعي والجسدي، أنه جعل الإنسان يشعر أخيرًا بحجم ضآلته. هذا الشعور قد يدفعه إلى مراجعة فردانيته الطاغية. فالخلاص من الوباء مثلا ليس بُغيَة أفراد فقط وإنما هو مطمح جماعي، لا يمكنه أن يتحقّق إلا بالانخراط الشامل في ما تتطلبه المرحلة من وقاية وعزل
من حسن الحظ أن كوفيد – 19 ظلّ رحيما نسبيا بأفريقيا جنوب الصحراء، في مراعاة رقيقة لظروف التخفيف. كما لو أن السيد كوفيد كان على علمٍ بقوائم ضحايا المجاعة والحروب والأوبئة التقليدية الأخرى، ليأخذ ذلك بعين الاعتبار… وإلّا، فلا أحد سيخمّن هول الكارثة لو كان الوباء قد اجتاح هذه المنطقة من العالم بنفس الطريقة التي تفشّى بها في بعض الدول الأوروبية.
الرّجة عميقة مُزلزلة. فهل نتصوّر – بعد انكشاف الغُمّة – ردًّا حضاريًّا كونيًّا على قدر هذه الزَّلزلة؟ لا أعتقد. ربما لأن مفهوم العولمة ذاته سيُلَملِم أوهامه ليغادر المشهد ويصير جزءا من الماضي. فالدولة القُطرية برأيي ستعود بقوة، وستخِفُّ نبرة التبجُّح بالقيم الكونية والنظام العالمي. يجب ألا ننسى أن انتقادات حقوقية شديدة اللهجة تم توجيهها للصين بسبب الأساليب الصارمة المنافية لحقوق الإنسان التي اعتمدتها لفرض العزل على مواطنيها. وها نحن بعد أسابيع فقط، نهنّئها على نجاح مقاربتها بل ونستلهم تجربتها بعدما صار العالم متأكّدا من أن تجاوز هذه المحنة بأخف الأضرار تقتضي وجوبًا التنفيذ الدقيق الصارم لمستلزمات العزل الصحي. ومع ذلك، هناك مجال لبناء مشتركات عديدة بين الدول والشعوب. وآمل أن ينتبه المنتظم الدولي إلى ضرورة إعادة تحديد العولمة – في حالة استمرارها كمفهوم وكأفق – على أسس جديدة تضمن التضامن والمساواة للجميع. وأن يتمّ تغليب احتياجات الإنسان في الصحة والتعليم والعيش الكريم على احتياجات السوق… ليساهم الجميع في مجهود كوني من أجل مستقبل مشترك: مشترك دون أن يكون مُعوْلَمًا بالضرورة.
لا يمكن لهذا الوباء أن يستمر إلى ما لا نهاية. سيتراجع حتمًا ذات يوم. بعد أسابيع، أو ربما بعد أشهر… حتمًا سيتراجع. لكن بعد أن تنكشف الغمة وينكمش الوباء، ستتراكم علينا خسائر باهظة يحتاج مجرد إحصائها إلى وقت طويل، ناهيك عن تجاوُز تبعاتها. والمؤكّد أن العالم سيجد نفسه أمام تحوّلات عصيبة وتحدّيات صعبة، فالآتي ينذر لا محالة ببلاءٍ لا يقلّ جسامةً عن الوباء.