مباغتة الأجناس الأدبية

لقد رسّخت الممارسة ذلك حتى أضحت من البديهيات النقدية المسلّم بها ولم تستطع بعض المحاولات النقدية الجادة أن تزعزع هذا اليقين بأن تعطي للشعر مكانه من هذه الأجناس على غرار كتاب “السيرة الذاتية” لجورج ماي، فبقي أدب الذات أدبا نثريا نهرا لا تحرّكه السواكن..

لكنّ الأدب هاجس لا يمل من هتك الثوابت، والتجربة لا تستسلم لمستقر ولا تقف عند نهاية وكذا المبدع في كونه، رسولا متمرّدا كلما ضاقت نفسه بحدود النقد ورتابة الممارسة. لذلك وجدنا من التجارب الشعرية ما يبدّد يقينيات فيليب لوجون، ويزيح أحادية النثر كشكل لكتابة الأجناس المنضوية تحت أدب الذات فيعيد للشعر وهجه وقدرته على صياغة العالم وقضاياه وعلى كتابة الأنا ونحت تفاصيل سيرتها.. وهذا، تحديدا، ما وجدناه في كتابة اليوميات عند الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد في مجموعته الشعرية “حالات الطريق” (2013) والشاعر التونسي عادل المعيزي في مجموعته الشعرية “أما أنا فلأي فردوس” (2011)، تجربتان تبحثان بكيفيات مختلفة، في غياهب المجهول عن تجربة شعرية مغايرة.. وسمناها باليوميات الشعرية.

“حالات الطريق” لمحمد الصغير أولاد أحمد: الواقع يفرض التجاوز

16 مارس 2011

بحياتي نلت ما تسمو به هذه الحياة

وزرعت الشك في أرض اليقين

تونسي مرّة واحدة

تونسي دفعة واحدة.. أو لا أكون.

"حالات الطريق"

تمتدّ يوميات محمد الصغير أولاد أحمد من 28 ديسمبر 2010 إلى 29 ماي 2021. من بواكير انطلاق الثورة التونسية، يوم زار الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، محمد البوعزيزي في المستشفى بعد أن أضرم النار في نفسه احتجاجا على البطالة وهي لحظة فارقة في تاريخ تونس، كانت قبيل اندلاع ثورة ستغير الوضع السياسي في بقاع عديدة من البلاد العربية.. إلى زمن آت، لم يأت بعد، 2021.

 الكتابة عند محمد الصغير أولاد أحمد تستشرف الآتي وتوثق المستقبل..

من الواضح أن زمن كتابة اليوميات عند أولاد أحمد كان متزامنا مع أحداث الثورة التونسية، فهي كتابة تحاول أن توثّق كل اللحظات التاريخية، أن تحميها من النسيان والضياع.. رغم أن اليوميات الشعرية عند أولاد أحمد لا تتسم بالسيلان، وهي قاعدة ألحّت عليها الناقدة الفرنسية بياتريس ديدييه في كتابها “اليوميات الخاصة”، فعلى كاتب اليوميات أن لا ينقطع عن توثيق الأحداث، عليه أن يكتب بشكل يومي أو شبه يومي فتتسم كتابته بالسيلان ويلتزم بمبدأ الانضباط التوثيقي والتراكم. غير أن أولاد أحمد لا يلتزم بهذا الانضباط ولا تتسم يومياته بالسيلان، فنجده يكتب في الشهر مرة أو مرتين ولعل مردّ ذلك انشغاله بأحداث الثورة التونسية ومآلاتها التي لم تترك له وقتا للكتابة أو عقلا للتصوير الشعري.

اليوميات الشعرية عند أولاد أحمد ومبدأ الواقعية

تتسم كتابة الذات بالصدق والواقعية في سرد الأحداث، الأمر الذي ينزّلها في سياق الأدب المرجعي ولذلك كان النثر وسيلة الكتابة وشكلها في الأجناس الذاتية لأن طبيعته نمطية قادرة على نقل الوقائع بشكل عفوي وبسيط يحافظ قدر الإمكان على مبدأ الصدق والواقعية كعنصرين أساسيين في أبجديات أدب الذات عموما واليوميات على وجه الخصوص. ولذلك مثلت كتابة اليوميات  شعريا عند الصغير أولاد أحمد، رهانا نقديا هاما، لأن الشعر في طبيعته يأبى النمطية والتقريرية ويجوب عوالم التخييل من أولها إلى أقصاها وهذا يجعل من كتابة يوميات شعرية تحافظ على جوهرها النقدي المعياري أمرا صعبا.. كان أولاد أحمد واعيا به.فجاءت جل يومياته الشعرية تقريرية قدر الإمكان قريبة من لغة السّرد دون أن تكون سردا، تنقل الوقائع بلغة بسيطة وبقدر كبير من الحقيقة ولكنّها مع ذلك موزونة عروضيا ومثقلة بضروب التخييل من مجاز واستعارات ومفارقات وتقنيات فنية حداثية كالمونولوج..، أي، بما يكون به الشعر شعرا. ومن ذلك “قصيدة الفراشة” التي تروي حادثة إضرام محمد البوعزيزي النار في نفسه:

28 ديسمبر 2010

وأنت تنظر في الرماد رأيتني:

سوداء مثل حذائك البرّاق..

لا أقوى على التحديق فيكْ

أنا تونس يا أخي:

محروقة:

لا شعر لي

لا عين لي

لا أذْن لي..

لا فم لي.

يجعل الشاعر من تونس ذاتا تحاور وتخاطب، فيستحيل الوطن في الخطاب إنسانا يشتكي لوعة اللهيب الذي أضرم في جسده، فإذا بتونس هي محمد البوعزيزي، ومحمد البوعزيزي هو تونس.. ينصهران في بعضهما البعض كناية عن التعلق بالوطن رغم الخيبات.. وذلك اعتمادا على أسلوبي التشخيص والحوار.. بهما صوّر الشاعر المشهد الواقعي.

فإذا باليومية تصوّر مشهدا حدث فعلا في 10 ديسمبر 2010 وبلغة بسيطة ولكن بتقنيات شعرية حتى تكون اليومية شعرية وتتقيّد مع ذلك بالنواميس النقدية لأدب اليوميات.

رهان نجح فيه أولاد أحمد في جل يومياته بشكل متفاوت.. لقد غامر محمد الصغير أولاد أحمد بأن كتب يوميات شعرية، مغامرة حتّمتها  خصوصية الوقائع التونسية آنذاك، وذاتا لا تكفّ عن التجديد، فإذا به يحاكي الثورة السياسية بالثورة الأدبية.. فيوميات محمد الصغر أولاد أحمد.. حصى تحرّك السواكن.

“أما أنا فلأي فردوس” لعادل المعيزي: يوميّات في مهبّ التجريب

17 ديسمبر 2003

صوتي وحيد هذه الأيام

أبحث عن خرافات تبدّد وحشتي.

"أما أنا فلأي فردوس"

إذا كانت يوميات محمد الصغير أولاد أحمد ثورة أدبية من حيث تجاوز المعيارية النقدية من خلال كتابة يوميات شعرية مع العمل على احترام أبجديات هذا الجنس الأدبي في مستوى اللغة ومبدأ الواقعية والتوثيق فإن يوميات عادل المعيزي أكثر جرأة وأبعد مسافة في عوالم التجريب.. وهي يوميات تمتد من خريف 2000 إلى 17 ديسمبر 2003.

فالمتصفح  لـ”أما أنا فلأي فردوس” وقد وسمها صاحبها بعنوان فرعي هو “يوميات شعرية 1” -وهو تفريع يوحي بوجود أجزاء أخرى من هذه اليوميات- لا يجد خضوع الشاعر لمبدأ التأريخ أو ما تسميه بياتريس ديدييه بالهوية الزمنية التي تنزّل كل نص في سياقه الزمني الخاص وتميزه عن النص السابق والنص اللاحق له..

فلكل نص في اليوميات استقلاليته وكونه وطبيعته المرجعية المستقلّة. وهي سمة أساسية في أدب اليوميات لا يكاد يغفل عنها كاتب لها.. فإذا استثنينا النّص الشعري الأول “حلم ليلة خريف 2000” وهو تأريخ عام، و النصين الأخيرين “9 أفريل 2003″ و”17 ديسمبر 2003” فكل النصوص الأخرى تخلو من أيّ تأريخ، عام أو محدّد، فكأن بالشاعر يسيّج نصوصه زمنيا بين سنتي 2000 و2003 ويترك القصائد هائمة زمنيا بينهما، لكن تحت مسمّى يوميات. وهذا خروج غريب عن أبجديات هذا الجنس الأدبي..

اللغة اللازمة في “أما أنا فلأي فردوس” تجاوز آخر

يعتمد عادل المعيزي في يومياته على لغة لازمة ومكثفة، تتسم بالغموض في أحيان كثيرة، وهو توجه في الكتابة عرفت به الحداثة الشعرية مع قصيدة النثر، بشّر به أدونيس وكرّسته “جماعة شعر “ممارسة وتنظيرا” حتى أضحى الغموض بفعل التجربة والتراكم سمة تميّز القصيدة العربية المعاصرة.. وقد استدعى الشاعر هذه اللغة الموغلة في اللزوم لكتابة يوميات، الأمر الذي من شأنه أن يمسّ من مبدأ الواقعية والتوثيق..

فقارئ “أما أنا فلأي فردوس” ليس قارئا باحثا عن وقائع محددة أو مطلعا على شذرات من حياة عادل المعيزي بل هو قارئ يخلق حياة الشاعر من سنة 2000 إلى سنة 2003 اعتمادا على الومضات الشعرية التي يقدمها الشاعر له.. فإذا بالقارئ مساهما في توثيق جزء من حياة عادل المعيزي حسب مرجعيته وكفاءته التحليلية فتخفت بذلك الوظيفة التوثيقية والمرجعية في اليوميات وتتعاظم الوظيفة التخييلية والإيحائية، و يردّ الشاعر بذلك  اليوميات إلى الشعر ويبعدها عن النثر وخصائصه.. أي شكلها الأصلي.

يقول الشاعر في قصيدة من يومياته بعنوان “بسلاح بر أحتذي”:

بسلاح برّ أحتذي وأمشّط الليل الذي خلّفته

وأخوض معركة مع الإفطار ثم أدخّن الأوهام في عجل

وألقي جثّتي في اليوم مكتسحا غيابي…

في المحطة أختفي في كومة كالقيح

بعد قتالي الضّاري، أزيح ذراع عاصمة وأصعد

فوق صرخة طفلة وأدوس شيخا طاعنا.

يسرد الشّاعر في هذا المقطع الشعري، أحداثه اليومية بكثير من التكثيف والغموض.. فهو، في كتابته لليوميات ينتصر للشعر، وحده، في أقصى حدود توهجه وفي أبعد مدارات اللامعنى، غير آبه لأبجديات كتابة الذات.. وهو ضرب من ضروب التجريب يعزّز مكانة عادل المعيزي في الحداثة الشعرية التي لا تستقرّ عند تجربة ولا تنتهي من البحث عن الجديد..

 لكنّ هذا التجريب في “أما أنا فلأي فردوس” يحِدّ، نقديا، من انتمائها لجنس اليوميات، وقد لا يشفع لها تجنيس صاحبها للكتاب بـ”يوميات شعرية 1″ بأن تجد لها مشروعية نقدية بالانتماء إلى اليوميات الشعرية، التي لا ينسيها الشعر، أن تحافظ، قدر الإمكان  على أهم مقومات كتابة اليوميات، كما هو الشأن مع “حالات الطريق” لمحمد الصغير أولاد أحمد. لكنّها، تفتح في الآن نفسه، آفاقا أخرى للكتابة، تحرج أي تنميط أو معياريّة.

مثّلت “حالات الطريق” لمحمد الصغير أولاد أحمد و “أما أنا فلأي فردوس” لعادل المعيزي، حالة شعرية مختلفة، فرضها واقع طارئ وعجيب أو ذات شغوفة بالتجريب.. والتجربتان تنتصران، كلاهما، للشّعر، وتبسطان ظله على جنس في الكتابة، عرف لعقود طويلة من الزّمن، بنثريته، نقدا وإبداعا.. الأمر الذي يؤكّد أن الشعر شجرة سامقة، إذا عَلَتْ، بالعناية والتدبّر، ظلّلت كل الفروع.