مثقفون ولكن أصوليون
لم تعرف الحداثة نسخة أشدَ حزنا ولا أكثر مسخا مما عرفته في بلاد العرب والمسلمين، فهل يمكن أن يتمدن الجسد ويبقى العقل في معزل عن التمدن والحضارة، كيف يمكن أن يعيش الإنسان في عصرين متباعدين في آن؟ ما هي النتائج المترتبة عن هذا التمزق الحاصل في الذات العربية التي تعيش ماديا في القرن الحادي والعشرين وذهنيا في القرون الخوالي؟
يكفي وصول الملاحظ إلى بلد من البلدان العربية أو الإسلامية ليقف على الفوضى المفهومية التي تعتري البشر وتغرقهم في اغتراب شديد، وهذه الفوضى الذهنية تنعكس على الواقع فترى الناس هائمين على وجوههم كأنهم لم يجدوا رأس الخيط.
ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى أزمة المثقفين إذ تعاني شعوب العالم العربي والإسلامي من مرض عضال هو “نُخبها” السياسية عموما والثقافية على وجه الخصوص. فحال “المثقفين” في العالم العربي الإسلامي يشبه حال المثقفين اليساريين في فرنسا الستينات والسبعينات من القرن الماضي أولئك الذين كانوا يبرهنون على عدم وجود الغولاك بترديد بعض مواد من الدستور السوفييتي.
كذلك تفعل غالب النخب المتأسلمة اليوم: تنتخب بعض آيات من القرآن ومن الأحاديث النبوية “لِتؤمثِل” عهد الخلفاء ولِتُمهّد بوعي وأحيانا دون وعي الطريق للدولة الإسلامية القادمة أو لذلك الشيء الذي يسمّى كذلك.
تستغل الميليشيات الثقافية الوضع الديني لتزرع اليوتوبيا عن طريق الشارع والمدرسة ووسائل الإعلام وهكذا تؤبد، في غفلة من العقل النقدي، هيمنة الإسلام السياسي أو ما يسمى اليوم بالأصولية وبتسمية أخرى أكثر دقة هو أوهام الإخوان المسلمين، وهكذا تقطع هذه الميليشيات الطريق أمام كل الأصوات الداعية إلى التخلص من قبضة الفهم الديني للوجود. سقط الذين يشتغلون في دنيا الفكر والحَرْفِ في فخ الدين وثقافة التعليب فراحوا انطلاقا من حمّى البحث عن مقابلات لمنتجات الحداثة، يسقطون المفاهيم القديمة على الواقع الجديد المتجدد والمفاهيم الحديثة على الوقائع العتيقة، بل ساهموا في تحويل كثير من الأفكار المسبقة إلى بديهيات. حرّفوا وأسلموا كل شيء بغية إشباع بعض رغبات مكبوتة أو للتمويه عن إفلاس الذات البيّن.
جعلوا الأموات يحكمون الأحياء إذ في كل بقاع الأرض تمرّ الأجوبة مرّ الكرام وتبقى الأسئلة قائمة، أمّا هنا فيحدث العكس، يُحتفظ بالجواب وتُطرد الأسئلة.
لم يعد كافيا اليوم نحتُ أسئلة جديدة، لقد بات ضروريا تهديم كل الأجوبة القديمة. تعاني النخب في ديار الإسلام من عسر نظري مزمن يدفعها إلى توهّم الوصول إلى الحداثة على قارب الدين. فكأن الدين يتكلم فيها حينما تتكلم. فهي لا تملك الشجاعة الأدبية ولا تشعر بواجب إعادة النظر في الموروث الديني ذاته وهو شرط ضروري للمساهمة في تغيير الذهنيات ودفعها نحو الأفضل، نحو الفصل بين الحياة وما بعد الحياة. ومن يتابع عن كثب ما يكتب في الصحف وما ينشر من كتب في العالم العربي يقف على نكتة لم تعد تضحك أحدا هي موضة إمساك العصا من الوسط: حداثة إسلاموية وإسلام حداثوي.
لقد أوضح صاحب جائزة نوبل للآداب سنة 1980 البولوني ميلوش شيزلاو في كتابه “الفكر الأسير”، كيف تحول المثقفون إلى سحرة وعرافين وكهنة في الدول الشيوعية مبينا كيف كانوا مجندين من قبل الحزب لتبرير الخطايا.. يفعل المثقفون-العرّافون في الدول العربية الإسلامية أحسن بكثير من زملائهم الستالينيين. فهم يجهدون أنفسهم في محاولة عقلنة اللامعقول مرتكبين ممارسة مدح أعمى للتراث الديني الإسلامي. وبذلك الانبطاح الفكري يتحوّلون بوعي أو دون وعي إلى سند ثقافي وإعلامي للظلامية، فيبدو حالهم أقرب إلى حال الكاردينال روشيليو، ذلك الذي كان يكتب مرتاح البال مؤلَّفه “كتاب المسيحي الفاضل” في الوقت الذي كانت فيه مدينة باريس محاصرة وعلى وشك السقوط. يغمض كثير من “المثقفين” أعينهم حتى لا يروا الانحطاط الحاصل، فيتخذ بعضهم من الأدب الثرثار ملجأ له. ويغرق من تبقى في شبه بحوث جامعية تدخل في إطار المعرفة الزائدة. ينتقد كثير منهم الحداثة -وهي فعل نقدي أساسا- لكنهم يغضّون الطرف عن الخرافات والأساطير التي تعشش في مجتمعاتهم وتراثهم الديني على وجه الخصوص.
ما أطرف أن تجد من يكتب ويحاضر في “ما بعد الحداثة الأدبية- الفلسفية” وهو يتخبط في بنى اجتماعية وإبيستمولوجية ما قبل حداثية! كيف يمكن نقد الحداثة وتعقُّلها قبل أن نتمكن من صنع مسمار؟ لا يعدو أن يكون الحديث عن “ما بعد الحداثة” في الوقت الراهن سوى محاولة لتهيئة الرأي العام لقبول ما قبل الحداثة الحالية.. يشير هادم الأصنام، الفيلسوف نيتشة، إلى هذه العوائق البسيكو-ثقافية التي تكبل عقل الإنسان قائلا “ما مقدار الحقيقة التي يمكن لعقل أن يتحملها بل يجرؤ على تحملها؟ ذلك كان المعيار الحقيقي بالنسبة إليّ في تحديد القيم. ليس الضلال هو الخطأ وإنما الخطأ هو الجبن [...] كانت الشجاعة مصدر كل نصر وكل خطوة نحو المعرفة”.
لا مهمة مستعجلة للنهوض بالفكر العربي غير فلسفة المطرقة، لأن القلم لم يكن في معظم الفترات وإلى حد الساعة سوى امتداد للسبحة، وذلك لأسباب ذكرها نيتشة وأخرى ثانوية كثيرة، تجنب “المثقفون” كل احتكاك مباشر مع الدوغما التي تخنق مجتمعاتهم. فمنذ مدة طويلة، لم تضرب المطرقة ضربات جدية في العقل المُكوَّن وهو الأمر الذي عطّل حركة الفكر في الوطن العربي وجعله لا يجرؤ على تعقل الواقع، وهو ما مدد نزهة العرب في التاريخ.
إنني أتساءل عن جدوى بعض المثقفين أو من يزعمون أنهم كذلك مثلما تساءل ديوجان محقا بخصوص سقراط: ما نفع امرئ أمضى حياته كلها يتفلسف دون أن يزعج أحدا؟ ما زال المثقف العربي المسلم يتخبط في أزمة أخلاقية خانقة، وينبغي على هذا المخلوق إن رغب أن يتحول من حالة الهيولى الفكرية إلى مثقف بالفعل مواجهة غولين اثنين: استبداد السلطة وجهل الجماهير. ويتم هذا بالكف عن بلورة جشع الأولى وانتهازيتها وتحويل أحكام الثانية المسبقة إلى رأي عام أو ثقافة، فكثيرا ما تراجعت قوى الحرية واللائكية أمام قوى التخلف عندما تخرج هذه الأخيرة قميص عثمانها المتمثل في المقدسات وغيرها من المُرهبات. وهو ما جعل المجتمعات العربية تدور حول نفسها وتبقى عاجزة عن تكوين نخب حقيقية قادرة على إحداث قطيعة معرفية كفيلة بدفع الإنسان العربي إلى التصالح مع عصره. “أتبتغي حياة سهلة؟ ابق قريبا من القطيع وادفن نفسك فيه”، هكذا تكلم نيتشة على لسان زرادتشت، وهذا هو في الأغلب الأعم حال المثقفين العرب اليوم.