مجلة "الجديد": المبادأة في رفض الاحتكار والجرأة في محاربة البوار
لم يكن ظهور مجلة “الجديد” طارئاً أو عرضياً، بل كان نتيجة مخاض واقعي سياسي واجتماعي مرير أسفرت نتائجه عن ولادة هذه المجلة كلبنة مهمة في صرح الثقافة العربية العتيد وهو يحاول استنهاض تقاليد أرستها صحافتنا العربية في مرحلتها النهضوية والتي أخذ بعضها للأسف يتلاشى تدريجياً بفعل هفوات حقب وفترات انتكاس وأخلاقية فئات تحزبية وانغلاق جماعات ماسكة بزمام الصحافة الثقافية العربية.
وأول تقليد من التقاليد النهضوية التي لمسناها في مجلة “الجديد” أنها استطاعت ترسيخ الفكر المنفتح الحر المؤمن بالتعدد والاختلاف فلا شللية ولا منبرية، بل صوت عام لا يعرف احتكاراً باشتراطات وولاءات معينة كما لا يعترف بنخبوية تتعكز على أسماء معروفة وتجتر أقلاماً بعينها من دون غيرها فتستكتبها.
هذا الرفض للاحتكار هو بمثابة تقليد ثان أحيته مجلة “الجديد”، مؤسسة عليه حراكاً ثقافياً حاول خضَّ مياه حياتنا العربية وإزالة حالة الركود والتبلد والاجترار التي أصابت ثقافتنا بالشيخوخة وجعلتها تتحصن بقلاع وهمية منبرية قاصرة عن أن تكون مثالاً يمد الأجيال القادمة بدماء ثقافية جديدة من بعدها.
وليس مثل الاحتكار مرضاً يهدد واقعنا الثقافي بالبوار ويجعله عرضة للوهن والتقوقع والتراجع ثم الاندثار. وهو ما تنبهت إليه مجلة “الجديد” فأخذت على عاتقها أداء دورها الطليعي الفكري والجمالي، مستأنفة الحياة الثقافية بالجدة والانفتاح والمغامرة والابتكار، مغالبة ما في واقعنا من احتدام وتناقض وفوضوية وانغلاق.
ولأن مجلة “الجديد” تبغي تأسيس ثقافة حوارية تعددية واختلافية، غدت رسالتها إنارة عقل القارئ العربي وتنوير وعيه، مما كانت المجلات الطليعية الرائدة كالآداب والهلال والرسالة والمقتطف والأديب قد سعت إليه وأرست من خلاله تقاليد ثقافية مهمة، تخرّج فيها أهم أعلام ثقافتنا العربية المعاصرة.
وما أعطى لمجلة “الجديد” اعتباراً ثقافياً أنها ظهرت في لحظة حاسمة تمر بها مجتمعاتنا العربية مواجهة واقعاً ثقافياً بائراً ومجدباً، أولا بقلة المجلات المتخصصة في الأدب والفكر وثانيا بارتهان قسم من هذه القلة بإخوانية علاقات ومحسوبيات جعل تعاملها منحازا لفئة من الكتّاب ويجتر أقلام مثقفين معينين وثالثا بفقر منافذ النشر الثقافي ورابعا بتدهور الإبداع الأصيل، كنتائج حتمية للتردي في أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالعموم.
فكانت مجلة “الجديد” محرِّضة على التجديد ونافثة القبس في رماد ما خمد ونام من فكرنا، عاملة بجرأة وحزم على نفض الغبار عن كتاباتنا مثل خميلة فيها تتلاقى مختلف التيارات والاتجاهات فاتحة ذراعيها للجميع محاولة رأب الصدع عبر بعث الاصيل من التراث الأدبي والثقافي مع إحياء الراهن من الحياة اليومية الأدبية، بحثا عن التجديد والتجويد والتنافس والتأسيس.
وما كان للمجلات الأدبية الكبرى أن تظل خالدة ورائدة وذات فعالية في إحياء ثقافة أمتنا لولا أنها تمكنت من خلق حراك يدفع بعجلة الحياة قدماً، مستهدفة بعث ثقافة حقيقية مزدهرة تنتشل الفكر العربي من سباته وتقاوم معوقات الواقع الأدبي والنقدي.
وهذه هي مطامح كل مجلة تريد أن تضع خطواتها على طريق بناء طويل ومجهد، راسمة لنفسها غايات بعيدة ومتطلعة إلى تحقيق طموحات كبيرة تصبو إليها وبها تتجاوز العقبات والمعوقات صانعة جيلاً قرائياً نبيهاً وفاعلاً وبحس جمالي وذوق فكري وإبداعي.
إن مجلة الجديد واحدة من مجلات عربية قلائل أخذت على عاتقها ـ وفي نطاق مبادئ طرحتها وراحت تؤكد التزامها بها ـ إدامة الفعل الثقافي بجهود ذاتية وجّهتها لخدمة الصالح العام معتمدة في قوتها وتطورها وقدرتها على القارئ الذي هو وسيلتها وغايتها في تحقيق حركة ثقافية في مختلف بلداننا العربية.
لقد أكدت مجلة “الجديد” بعمرها الذي يدشن عامه الثامن أنها جديرة بأن تشق منعطفاً جديداً في خارطتنا الثقافية الراهنة منافسة كبريات المجلات التي سبقتها زمنياً بمظهرية باذخة ودعم وتمويل كبيرين. وعلى الرغم من ذلك لم تستطع تلك المجلات أن تحقق للثقافة ما حققته مجلة “الجديد” وحصدت بسببه اهتمام القراء الباحثين عما هو معرفي وغني المتطلعين إلى التنوير العقلي، فجمعت القديم بالحديث والتنويري بالمحافظ والمشرق بالمغرب وقدمت الدراسات النقدية وكشفت عما هو مستحدث من الإبداعات الأدبية والطروحات الفكرية العربية منها والمترجمة وبروح عصرية وعلمية.
فغدت مغايرة في نهجها ومختلفة في منهجها فلا هي نزيلة مؤسسات رسمية تقيدها بأوتوقراطية روتينها ولا هي رهينة دعم وأوضاع قد تزول لأيّ عارض، ولا هي صنيعة فكر يُملي عليها ويوجهها ويحجِّم مساراتها.
وها هي تُثبت خلال أعوام قليلة أنها أهل لتأدية ما قطعته على نفسها من وعد بأن تكون كيانا حراً ذا رسالة تنويرية يريد إرساء تقاليد على غرار تلك التقاليد التي أسستها مجلات القرن العشرين الرائدة. تدلل على ذلك أعداد المجلة بملفاتها وأبوابها الثابتة وطبيعة إخراجها الطباعي وانتقائية صورها ولوحاتها ذات الطابع الخاص الذي يضفي على محتواها الكتابي بعداً بصرياً يميزها عن سائر المجلات الأخرى بدءاً من أول عدد صدر في فبراير 2015 ومروراً بالأعداد اللاحقة التي ما أن نُلقي نظرة بانورامية عليها حتى يتأكد لنا إخلاص مجلة الجديد لرسالتها وما وضعته من أهداف لعملها وفي مقدمتها تغيير الواقع الظلامي والاستبدادي في حياتنا العربية عموما والثقافية خصوصا، طارحة الأسئلة الشائكة حول الربيع الدامي فقدمت مقاربات بملامح ومنظورات فكرية شتى تبحث في مكانة الإنسان في الثقافة والمجتمع وتطل على هوامش الوعي العربي ومنها المرأة، مؤكدة ما للأنوثة من خير إنساني مقموع ومستلب بالنبذ والرجم والحجب والتحجيم وربما الشطب والإلغاء.
ولا نكاد نجد عدداً إلا هو حافل بملف تنويري أو أكثر، ومن تلك الملفات إعدام التاريخ وملف انفجار الشرق العربي وملف العقلانية والشعبوية وملف التكفير والتفكير ناهيك عن دراسات ومقالات في قضايا الفكر والأدب فمن الثقافة العزلاء وتحرير العقل وانفجار الهويات إلى ثقافة القمع الأبوي وشيطنة الآخر واحتضار العولمة؛ ومن أدب الأطفال وصورة المراهق وأدب الاعتراف إلى الرواية والتاريخ وتحطيم أوثان العقل.
أما أدب المرأة والثقافة النسوية فلا يكاد يخلو منها أي عدد من أعداد المجلة، ولا فرق إن كان في شكل ملفات أو مقالات أو نصوص أو حوارات أو شهادات وبحضور طاغ لقلم المرأة أديبة وفنانة ومترجمة ومفكرة وعالمة، وبعناوين ساخنة ومضامين رصينة تنمي الوعي النسوي وتقاوم التبعية للثقافة الذكورية من قبيل: المخيال التديني، لعنة التحريم، سينما المرأة، هكذا تكلمت شهرزاد، المرأة ناقدة ومفكرة، قلم المرأة وصورة الرجل.
وبفضل إقبال القراء وإخلاص القائمين عليها ومواهب الكتّاب قطعت مجلة “الجديد” شوطاً مهماً، متشبثة بصنع حياة جديدة ذات حركية أدبية وفنية في أبهى حلة، أخذت تترسخ بين قطاعات عريضة من القراء العرب.
ويحدونا الأمل أن تستمر مجلة “الجديد” على نهجها المتحرر الفكري والإبداعي منبراً ثقافياً للتعبير عن هموم الثقافة وتصارع المناهج والرؤى بلا حدود أو قيود فتكون مقصد القراء العرب بشتى مستوياتهم كما هي مقصد أصحاب المواهب الواعدة الذين صارت المجلة تستقطبهم وتحرك طاقاتهم، وهو ما يحق لمجلة “الجديد” أن تتباهى به.
وما زال الأمل كبيراً بأن توسِّع مجلة “الجديد” أمداءها وتديم تمظهراتها المشرِّفة عبر التعريف بالمزيد من التجارب الأدبية العربية والأجنبية في القصة والرواية والشعر والنقد والفكر، فتحصد أهميةً واهتماماً يجعلانها إحدى المرايا الثقافية العربية الناصعة التي لا مكان فيها للتحيز أو التعصب أو إلغاء الآخر أو الشللية.