محاكمة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الواقعة

الثلاثاء 2016/11/01

صدرت الرواية أول مرة بالألمانية عام 1995، ثم ترجمت إلى الإنكليزية عام 1997، وحققت الرواية رواجًا كبيرًا في ألمانيا وخارجها، كما أنتجت فيلمًا سينمائيّا بإنتاج ألماني- أميركي مُشترك عام 2007، قامت ببطولة الفنانة البريطانية كيت وينسليت التي حصلت بسببه على أوسكار أفضل ممثلة في العام 2009.

العشق المحرم

الرواية تدور في ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأوّل منها يحكي عن علاقة الفتى مايك برج وهو في الخامسة عشرة من عمره بهانا (وقتها كانت في مقتبل الشباب أي في سن السادسة والثلاثين) قاطعة التذاكر في شركة المترو، وكيف نشبت بينهما علاقة منذ لحظة مساعدة هانا للفتى بعد تعرُّضه لوعكة صحيِّة بعد عودته من المدرسة، يرصد الراوي الأنا في هذا الجزء مشاعره نحو هانا التي صار متعلَّقًا بها، وراح يختلق الأكاذيب ليتخلَّف عن موعد الغذاء الثابت، ليحظى بلحظة الامتلاك التي يحقّقها لهانا، ثم بعد فترة استطاع هو أن يكتشف هذه اللحظة ويمتلكها، ومنذ هذه اللحظة يتوحدان في الاكتشاف هي للحظة النشوة وهو للجسد، تتواصل العلاقة بينهما، حيث حاجة كلّ منهما للآخر؛ فقد كانت له وسيلته للتحرُّر من روتين العائلة وصرامة الأسرة، أما هو فكان بالنسبة إليها النافذة التي أطلَّت بها على عالم الأوديسا وروائع الأدب التي كان يقرأها لها، فكان البديل لها عن حرمان لذَّة القراءة والكتابة، ومن ثمَّ أخذت العلاقة بينهما شكلاً تبادليًّا يقرأ لها أولا ثم يُمارسان الحبّ، وفجأة حدث الانفصال باختفاء هانا عن حياته، ويفشل في العثور عليها أو يعرف إلى أين ذهبت.

ينصرف الراوي عن هانا التي فقدها وإن كان طيفها يلازمه، بعد آخر لقاء رآها فيه عندما جاءت إلى حمام السباحة الذي يُشارك فيه أصدقاءه لهوهم، بملابس غريبة لم يألفها عنها، حيث كانت مرتدية جيبًا قصيرًا، وقميصًا مربوطًا عند أطرافه، ظلَّت هذه الصورة التي ارتسمت في مخليته محفورة مع الصُّور الأخرى التي احتفظ بها لها منذ أن رآها وهي ترتدي الجورب، ولحظة الحمَّام، والنوم بجواره، والاستماع له عندما يقرأ لها من الأوديسة وكتب الأدب.

في لحظة غيابها قطع الفتي مايكل شوطًا في دراسته، والتقى بفتيات لكن كانت هانا وصورها الخمس هي المُسبِّب في فشل أيّ علاقة جديدة كما حدث مع صوفي الفتاة التي التقاها عندما انتقل إلى الصف الحادي عشر. في الجامعة تبدأ نقلة جديدة في الأحداث، حيث أستاذه يعمل سيمينارًا عمليًّا لأحد دروسه عن طريق تكليف طلابه بحضور جلسات محاكمات مجموعة من النساء في منتصف العمر كنّ يخدمن في حراسات قوات الأمن الخاصة في معسكر أوشفيتز (الذي كان بمثابة معسكر إبادة لليهود الألمان)، وأثناء حضوره لهذه المحاكمات، التقى هانا من جديد، ولكنها كانت إحدى الحارسات المتّهمات بقتل السجينات في المعسكر، لكن هذه المرة تختلط مشاعر الحب القديمة بمشاعر جديدة مختلطة بعقدة الذنب الألماني تجاه قضية الإبادة.

موعد مع الماضي

يستحوذ الجزء الثاني من الرواية على المحاكمات، والمناقشات حول المذنبات، كما يسرد الراوي شهادة الشاهدتيْن الناجيتيْن من المعسكر، فيقدِّم الرَّاوي بعين شاهد العيان أجواء المحاكمة وتحفُّز القاضي الذي يمثِّل جزءًا من المجتمع الألمانيّ الذي كان يدين ما حدث، فيصف مشاعره المتحفّزة، وكذلك حالة العنف التي رأى الناس عليها أثناء رحلته إلى المعتقل، وأيضًا محاولة إحدى الحارسات إلصاق التهمة بهانا، خاصة بعد سؤال القاضي لهنّ: لماذا لم تفتحنّ الأبواب؟ وجوابهن كان: بأنهنّ كنّ مشغولات بعد القصف بالمجروحين مِن أفراد القوات، لكن السجل الذي عُثر عليه في أرشيف (فافن أس أس) قال عكس ما ذكرن، فالسّجل أشار إلى أن السّجينات تخلفن لانتظار نهاية الحرائق، لمنع أيّ منها من الانتشار ولمنع أيّ محاولة للهرب تحت غطاء اللهب، لكن الشيء الغريب أنه أشار إلى موت السجينات.

في أثناء المحاكمة كانت هانا مُستسلمة ومعترفة بأنَّها نَفذَّت الأوامر، وهو السؤال الذي يعدُّ صُلب جوهر الرواية: هل تنفيذ الأوامر العُليا يُعدُّ مشاركة في الجريمة؟ حتى أن هانا على غير العادي في المحاكمات، وجّهَتْ سؤالها للقاضي الذي سألها عمّا كان يجب أن تفعله، قالت له في ثبات وغفلة منه «ماذا كنت تفعل لو كنتَ مكاني؟» وهنا سقط القاضي ـ الذي كان يحاصرها- في فخ سؤالها. على الرغم من أنّ السّؤال في حقيقة الأمر كان يكشف عجز هانا عن وجود حلّ آخر، وفي ذات الوقت أحرج القاضي الذي هَرَبَ من الإجابة، إلا أنّه في الحقيقة كَشَفَ عن حالة حيرة حقيقية في علاقة السُّلطة بمنفذي أوامرها، مَن مِنهما المُدَان؟

أجواء المحاكمة كان فيها الكثير من الترقُّب والتحفُّز لإسقاط الخصم، ونجح الراوي رغم حالة الانحياز التي أبداها لهانا شميتز، من نقل صورة واقعية لهذه المحاكمة، وهو ما يكشف عن حالة الجدل التي حظيت بها محاكمات معكسر أوشفيتز، فالسرد يزاوج بين الغنائية الممزوجة بتأملات في طبيعة العلاقة بين الراوي وهانا، والحوار الذي غلب على فترة المحاكمة. جاء اعتراف هانا بكتابة التقرير بمثابة الثغرة التي نفضت الغزل، فهي لم تعرف الكتابة والقراءة لذا دائمًا تحتاج إلى مَن يقرأ ويكتب لها. لم يكن اعترافها بجريمة لم ترتكبها هو الشيء الوحيد الذي ودَّت مِن خلاله ألّا ينكشف سرِّها، بل أبعدت مايكل عنها حتى لا ينفضح أمرها، وبالمثل رفضت الترقية في مصنع سيمنز وحصلت على وظيفة حارسة وأيضًا رفضت التدريب لتكون سائق قطار كما أخبر مديرها في العمل، لأن وجودها كمحصلة تذاكر لا يكشف أمرها.


لوحة: حسين جمعان

الحب وحده لا يشفع

الجزء الثالث والأخير جاء بعد انتهاء المحاكمة والحكم على هانا بالسجن مدى الحياة وعلى الأخريات بأحكام متفاوتة، وانتهاء الراوي من الجامعة وزواجه من زميلته في الجامعة جيرترود، ثم انفصاله عنها وابنتهما جوليا في الخامسة من عمرها، لكن الأهم هو الشروع في مساعدة هانا بإرسال الشرائط لها، والتي استفادت منها هانا بالتعلُّم، لكن الغريب أن هذا الجزء يكشف عن المشاعر المتضاربة التي كان يحملها مايكل لهانا، فلم يحاول زيارتها أو إرسال رسالة لها بعدما أخبرته أنها تعلّمت القراءة والكتابة. كان مايكل يؤدّي دور الواجب منه كمثقف في عملية محو أميتها، إلا أنه لم يستطع أن ينسى الجريمة التي اقترفتها، وهو ما كان حائلاً بينهما، وعندما شعرت بهذا هانا فضَّلت الانتحار، خاصّة بعد زيارته الوحيدة لها وهي في السجن، بعد دخولها المعتقل.

تطرّقت الرّواية إلى مفهوم العدالة وتحقيقها مهما طال الزمن، إلا أنّ الحقيقة أن الرواية أدانت مُنفّذ الأوامر دون أنْ تدين الجلاد الذي أعطى الأوامر، وقد تقاطع مع الخط السياسي والرومانسي خط اجتماعيَّ، حيث تطرّق للعلاقات الأسرية، خاصة أسرة مايكل ووالده الفيلسوف الذي ألّف عن كانط ونيتشه، والبرودة في التعامل مع أبنائه، وهو ما انعكس على الفجوة التي خلقها في شخصية مايكل الذي انسحب من البيت إلى هانا. لكن أهم ما تطرحه الرواية هو الإرادة، وهي تلك التي حوّلت هانا مِن أمية إلى متعلِّمة. وكذلك المصالحة وقد تجلّى هذا في نهاية الرواية، حيث يعترف الراوي بسبب كتابته للرواية، ويتساءل عن دوافع الكتابة، وعن دوره في حياة هانا هل كان سببًا فيما حدث لها؟ وهل أحبّها فعلاً؟ فكرة التطهّر التي عبّرت عنها الرواية وإن كانت بعيدة عن فعل التراجيديات، رسالة مهمة من رسائل الرواية التي طرحتها، وإن أظهرتها الرواية في مشاهدها الأخيرة بتوجه الراوي إلى المقبرة، أما في الفيلم فقد صحب الراوي ابنته جوليا إلى المقبرة وأباح لها بالسرّ الذي لم يكشف عنه لأحد، باستثناء الفتاة اليهودية الناجية عندما سألته عن علاقته بها، وإن كانت اتخذتها كجريمة تضيفها إلى جرائم هانا من وجهة نظرها؟

حاولت الرواية أن تتعاطف مع الحالة اليهودية، لكن جاءت مشاهد الفتاة الناجية لتكشف عن عنصرية مقيتة تكنّها الفتاة، رافضة التصالح، وأيضًا حالة من الاستعلاء في رفض منح هانا صك الغفران، والتباهي بالشخصية اليهودية وعدم وجود أميّة كما أظهرت.

حالة الهروب التي كانت عليها هانا، انتهت بها إلي نهايتين فاجعتين الأولى باعترافها أنها كتبت التقرير الذي انتهى بإدانتها في القضية بالحبس مدى الحياة دون باقي الحارسات، والثانية كانت بانتحارها بعدما تمّ قبول التماسها في المرة الثانية بخروجها من السجن. كان الهروب تجسيدًا لحالة الكبرياء، والحقيقة هذه الحالة تقاسمها البطلان هانا ومايكل، فكبرياؤها هو الذي قادها للهروب من كل فرص الترقي حتى لا تقل في نظر الآخرين عندما يعرفون أميّتها. وربما كان شعورها بالشفقة بعد لقائها بالفتي قبل موعد خروجها، عاملاً لانتحارها، فعندما جاء لم تجد فيه الصورة القديمة، صورة تحقيق الإشباع، بل قدَّم لها صورة أخرى غير التي عرفتها عنه، كان جافًا ناقلاً للأخبار لها بوجود شقة وعمل لدى خياط. أما كبرياؤه فجعله يتجاوز عن حبّه لها، ومنعه من التعاطف بسبب جريمتها، وعندما علم بمعرفتها الكتابة ظل مكتفيا بإرسال الشرائط، رغم لهفتها على تواصله بالكتابة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.