مستقبل البشرية في الفضاء كما يراها كتاب الخيال العلمي
احتفل العالم يومَ 21 يوليو/تموز الماضي بمرور نصف قرن على نزول الإنسان على سطح القمر، واستعادت وسائل الإعلام انطلاق أبولو 11 في رحلته الاستكشافية وعلى متنه رواد الفضاء الأميركان بوز ألدرين ومايكل كولينز ونيل أرمسترونغ أول إنسان وطئت قدماه القمر، وخطا على أديمه بضع خطى قصيرة في مداها، بعيدة في رمزيّتها، لأنها شكلت نقطة مفصلية في ارتياد الفضاء واكتشاف الكواكب الأخرى، وحققت ما راود خيال أناس كثر، من مفكرين وعلماء وفلكيين، ومن لفيف من الكتاب أيضا.
أول أولئك الكتاب الحالمين السوري لوقيانوس السميساطي الذي ألف في أواسط القرن الثاني الميلادي قصة بعنوان “حكاية حقيقية” روى فيها رحلة أوليس إلى القمر في بطن حوت، حيث شهد معركة بين سكان القمر وسكان الشمس. تلاه بعد عدة قرون عالم الفلك الألماني يوهان كبلر بقصة “رحلة إلى القمر” التي نشرت بعد وفاته عام 1630، ثم الأسقف الإنكليزي فرنسيس غودوين بكتاب “رحلة وهمية إلى القمر” عام 1648. وكانت كلها من نوع الطوباويات الفلسفية، قبل أن تجنح إلى التقنيات كما في كتاب “دول القمر والشمس وإمبراطورياتها” الصادر عام 1649 للفرنسي سافينيان دو سيرانو دو بيرجوراك.
وكان قد وصف فيه ثمانيَ تقنيات ممكنة لبلوغ القمر وأربعًا لبلوغ الشمس، ثم بشكل أكثر علمية خلال القرن التاسع عشر مع الفرنسي جول فيرن في رواية “من الأرض إلى القمر” التي استفاد فيها من النهضة الصناعية والعلمية في أوروبا، وكانت قد حازت رواجا كبيرا عبر العالم منذ نشرها عام 1865، في نفس العام الذي ظهرت فيه روايتان أخريان في فرنسا هما “أحد سكان المريخ” لهنري دوبارفيل و”رحلة إلى الزُّهرة” لأشيل إيرو، ثم مع الإنكليزي هربرت جورج ويلز عام 1901 في “أوائل الرجال على القمر”.
وبتطور العلوم والتقنيات في القرن العشرين ازدهر هذا الأدب وشكل جنسا خاصا هو “أدب الخيال العلمي”، ينطلق ممّا توصّل إليه العلم من اكتشافات واختراعات، وممّا استقرّ عليه نظر العلماء من حقائق ونظريّات عن الفضاء وطبيعته، ثمّ يضفي عليها بأسلوب سردي مشوّق عناصر متخيّلة تنهل من العلم وتعود إليه، وتقدّم كمبادئ قابلة للتحقّق، لم يقاربها العلم بعد، ولكنه يعرف أنها ممكنة. ومن الطبيعي أن تتّجه الأنظار إلى هؤلاء الكتاب لمعرفة ما سوف يكون عليه العالم في المستقبل.
فكيف يتصور كتاب الخيال العلمي مستقبل البشرية في الفضاء بعد نصف قرن، أي عام 2069؟
ذلك ما طرحته إحدى الصحف على خمسة عشر كاتبا من الأسماء المعروفة في أدب الخيال العلمي، ممن يتخيلون المستقبل لفهم الحاضر، ويستبقون يوتوبيا أو ديستوبيا ممكنة لمساءلة السبل التي ننتهجها اليوم، ضمن ملف حمل عنوان “الفضاء بعد خمسين عاما”. ورتبت أجوبتهم وفق أربع ثيمات هي: غزو القمر والمريخ، الاستغلال الصناعي للموارد الفضائية، الاستكشاف العلمي، الفضاء من دون البشر.
في الثيمة الأولى، أي غزو القمر والمريخ، تحدثت سيلان إدرغار عن أول محطة فضائية يعيش فيها عيشة كفاية ذاتية بضعةُ آلاف من البشر دفعوا أموالا طائلة للإقامة على سطح القمر، خلافا لـ 99 بالمئة من سكان الأرض، وظلوا ينظرون بغير اكتراث إلى كوكبهم السابق وقد صار رماديا بسبب التلوث والاحتباس الحراري والتصحّر، لأنهم لن يعودوا إليه، وأطفالهم الذين سينشؤون على انعدام الجاذبية سيكونون مختلفين عن بقية البشر.
أما فيليب كورفال فقد تخيل مجمَّعا مؤمَّنا تتضافر فيه جهود الدول التي طورت مكاكيك لتأمين رحلات بين الأرض والقمر، يكون مشفوعًا بمحطات شمسية حوّله لتزويده بالطاقة. من تلك الموارد القمرية سوف تُصنع المراكب الشمسية المستقبلية، التي سوف تستفيد في إطلاقها من انعدام الجاذبية. وبصرف النظر عن الاستغلال والاستكشاف العلمي للمريخ وعطارد وسائر كواكب النظام الشمسي، فإن تلك المراكب الفضائية، القادرة على السفر بسرعة لا يمكن تخيلها، قد تسمح ببلوغ المجرات الأكثر قربا من الأرض.
قد لا يحقق البشر ذلك بأنفسهم، وإنما باستعمال روبوتات متطورة مزودة بذكاء اصطناعي بالغ الدقة. والثابت في رأيه أن السياحة الفضائية سوف تتطور، وربما نشهد سباق مركبات فضائية حول الأرض. وهو تقريبا ما ذهب إليه لوران جينفور حين أكّد أن مركبات فضائية سوف تستفيد بعد نصف قرن من حزام المجرات لاستغلال ثرواته المعدنية والمحافظة على الأنظمة البيئية في الأرض، مثلما تسعى لاكتشاف كواكب أخرى يمكن العيش فيها، وقد بدأ الإنسان هذه العملية منذ مطلع الألفية بإرسال مسابير باتجاه عدة كواكب.
أنكي بلال، من جهته، تخيل أن القمر سوف يصبح قاعدة لإطلاق رحلات نحو المريخ، تلك الرحلات التي طالما راودت الكتاب والعلماء ثم توقف التفكير فيها مباشرة بعد خطوة أرمسترونغ على سطح القمر، وكأنها كانت ناتجة عن عملية ليّ ذراع سياسي وأيديولوجي، مضيفا “أمنيتي أن يكون المريخ موطن لقاء بين البشر والكائنات الأخرى، لأني على يقين من وجود ذكاء خارج الأرض، وإذا كنا عاجزين عن الاتصال بتلك الكائنات، فربما هي التي سوف تتولى ذلك. ولعلها تنصحنا بالتوقف عن التصرف كأغبياء، وتنبيهنا بالمآل الوخيم الذي ينتظر كوكبنا إذا لم نتوقف عن تدميره”.
أما في الثيمة الثانية، أي الاستغلال الصناعي للموارد الفضائية، فيعتقد الإنكليزي بيتر هاملتون أننا سوف نشهد تطور التجارة الفضائية، بفضل صواريخ زهيدة التكلفة، وقابلة للاستعمال أكثر من مرة، وأن ارتياد الفضاء سوف يكون أكثر سهولة بفضل تمويلات الأثرياء، ما يسمح للوكالات الفضائية بالحد من ميزانياتها، لأن المحطات الفضائية سوف تساعدها على رسم خرائط أكثر دقة عن نظامنا البيئي والظروف المناخية لكي نواجه تحديات تغير المناخ.
بينما نظر جان كلود دونياك إلى المسألة نظرة أكثر واقعية، إذ صرح أننا سنجد أنفسنا أمام أمرين: إما أن تتحد البشرية لتنتشر في المنظومة الشمسية وتضمن ديمومة الجنس البشري، وإما أن تتنافس فيما بينها لاستغلال الموارد.
إن صحت الفرضية الأولى واتفقت البشرية على إقامة مشروع استيطاني ضخم في كوكب آخر، وجب عليها عندئذ أن تجد وسيلة لتخفيض تكلفة الرحلات وأثرها الإيكولوجي، وابتكار صواريخ نووية تجعل العملية أشبه بمصعد يتولى تأمين الذهاب والإياب، ما يجعل عملية توطين مليون شخص ممكنة على سطح القمر أو المريخ. أما إذا اتخذ غزوُ الفضاء سمةَ التنافس، فسوف تتسابق المراكب الفضائية للبحث عن الثروات، وإقامة القواعد العسكرية وزيادة استنزاف موارد الأرض لتحقيق تلك الغايات. وفي رأيه أن مطلع القرن الثاني من الألفية الثالثة سيشهد جاليات قليلة منتشرة هنا وهناك في النظام الشمسي تنظر إلى الأرض وهي تلفظ أنفاسها.
أما كاترين ديفور فهي ترى أن الأكثر ثراء سوف يقضون الصيف في المستشفيات الفضائية العالمية بعيدا عن أتون الأرض، وأن العلماء سيجرون تجاربهم في المختبرات القمرية، وأن الجالية المريخية سوف تعيش العزلة تحت قشرة الكوكب الحمراء، وتتبادل مكالمات حزينة مع سكان الأرض.
وفي تصورها أن الرحلات سوف تنتظم انطلاقا من القمر لبلوغ المجرات القريبة، تلك التي تحتوي على كمية كبيرة من الماء، ومن الـ”كنوبس” CHNOPS (الأحرف الأولى للكربون والهيدروجين والآزوت والأكسجين والفوسفور والكبريت)، بينما يتم نقل أكبر قدر من المعدات من الأرض لبناء قواعد جديدة، وستظل البشرية تتطلع إلى الكون المحيط بها، لا سيما الكواكب التي يمكن العيش فيها، ولكن بلوغها سيبقى حلما بعيد المنال نظرا لعدم سيطرة الإنسان على الفضاء-الزمن.
وهو ما يؤكده كريستيان ليوريي حيث يتصور أن الشركات الخاصة، التي تملك السيطرة حتى في المجال العسكري، ستحول عملية ارتياد الفضاء إلى بحث عن الربح، وأن ثلثي الطاقة التي تستهلكها الأرض سوف تأتي من الفضاء، وأن القمر سيحتضن أربع قواعد يتم تمويلها بفضل السياحة.
ويبقى أهم حدث في نظره هو اكتشاف مجرات قريبة تناسب حياة الإنسان، ولكن رغم تطور التقنيات فإن الصعوبة تكمن في المدة الزمنية التي تستغرقها الرحلة، إذ يقدرها بقرابة 120 سنة لأقرب كوكب، ومن ثم سوف يتم التفكير في صناعة سفن فضائية قادرة على حمل نحو خمسمئة مستوطن، يقع تدريبهم على الأرض.
في الثيمة الثالثة، أي الاكتشاف العلمي، يعتقد الأميركي روبرت تشارلز ويلسن أننا سوف نشهد العصر الذهبي لرحلات الفضاء، وسوف تسبقنا الروبوتات إلى استكشاف النظام الشمسي، ومد الجسور مع المريخ وبعض الأقمار التابعة للمشتري وزحل، لأننا أكثر هشاشة وفي حاجة ماسة إلى كميات كبيرة من الماء والأكسجين. ولكن المفاجأة قد تتمثل في اكتشاف حياة عضوية في المحيط الجوفي لكوكب أوروبا (أو المشتري 2) تعجل بعملية الاستكشاف، فيما قد يبطئها تدهور الأوضاع المناخية على الأرض واندلاع الحروب، أو يلغيها تماما. عندئذ سوف تبقى الروبوتات معزولة في كواكب بعيدة، شاهدة على طموحاتنا الأكثر جنونا.
أما لوران كلوتزر، فهو يرفض عبارة “غزو” لأن عصر الـ”كونكيستادور” والـ”فار ويست” قد ولّى، ويفضل عبارة “استكشاف” التي تفتح في نظره على حلم وكابوسين. الكابوس الأول: ألا يحصل شيء في نصف القرن القادم، لأن المنظومة التقنية المعقدة التي تصنع الصواريخ والعربات الفضائية تعطلت بسبب أزمة سياسية-بيئية-نووية، ولأن مشاغلنا سيقع الخوض فيها وسط الوحل والقيظ.
والكابوس الثاني: أن يفلح جيف بيزوس ورفقاؤه في خلق ملاجئ أو مصانع في الفضاء لبعض المحظوظين، فيما يبقى الآخرون في الأرض يعيشون في الوحل والقيظ وما تعودوا عليه. أما الحلم، فيتمثل في خلق مصعد فضائي، وروبوتات تستكشف الأماكن البعيدة، ومصادم هدرونات كبير Large Hadron Collider معلق بين الأرض والشمس، قاعدة قمرية أو مريخية، وطريق يبعد مركزيتنا عن الأرض ليعطينا هدفا، وحلما يوحدنا ويتجاوزنا.
بيد أن جاك بربيري يبدو متشائما وهو يقول إن الأرض قد تزول قبل هذا التاريخ، ليس بالقنبلة النووية التي لم تعد ضرورية، بل لأن الإنسان وجد كيف يدمر نفسه بغير سلاح أو أداةٍ اخترعها عالم مجنون، فنمط الحياة التي يعيشها الآن كافٍ وحده لتدمير الكرة الأرضية.
أما إذا نجت من الدمار، فسوف يكون خلاص النوع بفضل الأنواع، سواء في الأرض أو في مكان آخر، لأن المغامرة الفضائية ستكون مع الحشرات والرخويات والبكتيريا وسواها مما يمكن تهجينه وإرساله لاستكشاف المجرات القصية مع كائنات أخرى قادرة على العيش في الماء والهواء وحتى في الفراغ السرمدي، إلى أن تتأقلم. فذلك هو الكفيل في رأيه بفتح المجال أمام الإنسان للتأقلم في مناخات غريبة.
الثيمة الأخيرة، أي الفضاء من دون البشر، جمعت آراء أكثر حكمة وتعقلا، فالبريطاني ألاستير رينولدز يعتقد أن الذهاب إلى الفضاء سيكون أقل كلفة نسبيا، ولكنه سيبقى باهظ الثمن، لأن منظومة الدفع النووي، التي من شأنها أن تمكن من بلوغ المريخ في بضعة أسابيع بدل بضعة أشهر، لن تبرح مستواها النظري، وأن عمليات الاستكشاف ستتواصل على نفس النسق البطيء الذي نشهده اليوم.
عندما يصبح لدينا وسائل تسمح لنا بالذهاب حيثما نريد (شرط أن يتم ذلك خلال يوم) قد نراجع أنفسنا قبل المرور إلى المرحلة الموالية. ويختم بقوله “إن سنحت لنا إمكانية الذهاب إلى الفضاء، فذلك معناه أننا نجونا من الحرب النووية والكوارث البيئية والظلامية الدينية. وهذا في حدّ ذاته أهم من كل علميات النزول على الأقمار”.
أما ألان دامازيو فقد بدا متشائما هو أيضا لاعتقاده ألا شيء من كل ما نتخيل سيتحقق. قد يرسل الأميركان أو الروس أو الأوروبيون إنسانا على سطح المريخ، كما فعلوا من قبل بإرسال إنسان على سطح القمر، فيغرزون علما ويعودون من حيث جاؤوا. بينما اعترضت صابرينا كالفو على عبارة “غزو” قائلة “بعد نصف قرن إن كنا لا نزال نفكر بصيغة ‘الغزو’، فذلك معناه أن الإنسانية لا تستحق مكانا في الفضاء، تتناسل فيه وتتغوط.
أنا أخيّر أن أتصوره مغلقا في عالم افتراضي لا حدود له، حيث الاستكشاف والتوسع والاستغلال والإبادة تمنعه نهائيا من الإساءة إلى سكون مصادر الذكاء المحتملة في محيطات المجرات”. وقد أيدها في ذلك تييري دي رولّو الذي يرى أن لفظة “غزو” تلخص وحدها الميول التي طبعت سلوكنا منذ بدايات جنسنا، أي الهروب إلى الأمام. فالغزو معناه توسُّع ونمو متنوع ومتواصل بلا حد.
ويضيف “ولما كنا لا نتعلم من تجاربنا أيّ موعظة، فإننا نخطط، انطلاقا من قواعد تبنى على القمر وتتخذ لها المريخ وجهة لغاية استيطانه واستغلال موارده. والحال أن الحكمة تقضي أن نبدأ بوضع اقتصاد عالمي معقول ومشترك على هذه الأرض التي أعطتنا فلم نحترمها. ولكننا لا نعرف سوى النهب وتأسيس مجتمعات وقواعد نتركها تتعفن ثم نقوم بتدميرها، أي أننا لا نعرف كيف نعيش معا جنبا إلى جنب على هذا الكوكب”.