مغامرة رأس البقرة واستيبانيكو الأزموري (1)
الترجمة والتقديم: عبد القادر الجموسي
توطئة:
أقدم للقارء المغربي والعربي الترجمة الكاملة لتقرير ألفار نونيز كابيزا دي فاكا (رأس البقرة) لوقائع البعثة التي قادها الحاكم بانفيلو دي نارفايز سنة 1527، بتفويض من عاهل اسبانيا شارل الخامس لغزو منطقة فلوريدا وإلحاقها بالتاج الاسباني.
يجعل أهل الاختصاص في مجال الدراسات الأمريكية ـ الاسبانية رحلة رأس البقرة ورفقائه الثلاثة، من ضمنهم مصطفى الأزموري المغربي، من العلامات البارزة في سجلات غزو واستكشاف العالم الجديد معتبرين تقريره الموسوم La Relacion وثيقة قيّمة ضمن أدبيات وحوليات القارة الشمالية. يرجع ذلك لعدة اعتبارات: فهو أول نص منشور للعموم ضمن نمط كتابة التقارير الرحلية الرسمية. وعلى عكس التقارير الأخرى التي انحصرت في ذكر معالم البلاد الهندية وجرد ثرواتها، تميزت رواية رأس البقرة بالانسجام والاتساق في رواية وقائع الرحلة، واستعمالها لعناصر الغرابة وطرائق السرد الأدبية مما منحها مسحة مميّزة. هذا فضلا عما تقدمه من مادة معرفية إثنوغرافية، غير مسبوقة، عن مناطق شاسعة من العالم الجديد وأنماط عيش قبائل عديدة لم تكن معروفة لدى الغزاة الاسبان إلى حدود كتابة ونشر التقرير لأول مرة عام 1542 بمدينة بلد الوليد الأندلسية.
المؤلف كابيزا دي فاكا (رأس البقرة):
ولد ألفار نونيز المعروف باسم كابيزا دي فاكا (رأس البقرة)، بمدينة خيريث دي لافرونتيرا الأندلسية سنة 1488. كان أبوه فرانسيسكو دي فيرا ابن الغازي بيدرو دي فيرا مندوزا مستعمر الجزر الخالدات (الكناري) سنة 1483. اكتسب لقب رأس البقرة عن جده من جهة الأم، مارتين آل هاخا Martin Alhaja الذي تحكي الرواية أنه كان راعيا بسيطا قدم خدماته لملوك قشتالة وأراغون وساعدهم بواسطة جمجمة رأس بقرة كان قد وضعها علامة هادية لجيوش الإسبان مما مكنهم من اختراق إحدى حصون العرب المسلمين في الأندلس والانتصار عليهم في معركة نوفاس دي طولوزا Novas de Tolosa سنة 1212. من ثمة اكتسبت العائلة سمة الشرف والنبالة.
انخرط رأس البقرة في الخدمة العسكرية تحت دوقات مدينة صيدونية من 1503 الى 1527. وشارك في حروب ايطاليا. وفي عام 1527، تم تعيينه من طرف الملك كخازن ونائب قائد حملة بامفيلو دي نارفايز، الذي كانت مهمته استكشاف واستعمار البلاد الممتدة بين شرقي مكسيكو وفلوريدا بحثا عن مزيد من الثروة لفائدة تاج قشتالة. تمثلت مهمة رأس البقرة في تحصيل الثروات وإحصائها وأداء أجور المسؤولين، وإرسال التقارير عن السير العادي للحملة، لكي تعرض على أنظار الإمبراطور شارل الخامس.
انطلقت بعثة الحاكم بانفيلو دي نارفايز، بتفويض من المك شارل الخامس، من ميناء سان لوكار دي باراميدا، يوم 17 يونيو 1527 بأسطول يتألف من خمسة مراكب وزهاء ستمائة جندي وغاز، من بينهم رأس البقرة، لغزو واستيطان منطقة فلوريدا الأمريكية المجهولة.
وصولا إلى سواحل هيسبانيولا Hispaniola ، أواسط شهر سبتمبر، سيغادر حوالي 140 من الرجال الأسطول خوفا من عنت البحر وهول عواصفه العاتية لتستأنف الحملة وجهتها نحو فلوريدا بمراكب ورجال أقل. ورغم معارضة نائبه رأس البقرة، قرر نارفايز (1528) التوغل داخل فلوريدا بحثا عن الذهب. وعند عودته إلى الساحل وجد أن كل المراكب قد ضاعت مما اضطر الجنود إلى صنع قوارب بأنفسهم بوسائل بدائية، رغم عدم خبرتهم، مستنفدين في ذلك كل تبقى لهم من متاع وأحصنة اضطروا إلى أكلها تحت غائلة الجوع واستعمال جلودها قربا لحمل الماء. لكن هذه المراكب التي صنعها جنود عديمو الخبرة لم تصمد أمام رياح البحر وأهواله.
انفصل رأس البقرة وبعض من رجاله عن قائد الحملة نرفايز لترسو مراكبهم بجزيرة غالفستون (تكساس). هناك يسقط هو ورفقاؤه الثلاثة، دورانتيس، كاستيو ومصطفى الأزموري المغربي (استيفانيكو)، تحت رحمة قبائل الهنود. وبعد سنوات من التيه والعبودية على يد قبائل الهنود، يصل رأس البقرة ورفقاؤه سنة 1536 إلى مستوطنة إسبانية قرب مدينة كولياكان Culiacan حيث يلتقون بأبناء جلدتهم من الغزاة وتجار العبيد. هناك يستقبلون من طرف أنطونيو دي مندوزا، نائب الملك في المنطقة.
وفي شهر أبريل من سنة 1537 يركب رأس البقرة سفينة العودة إلى إسبانيا. ووفاء بمهمته الرسمية، أعد تقريره الرسمي Relacion، الذي ألقاه في حضور موثق الحكومة آنذاك بيدرو هيرنانديز Pedro Hernandez. بع التقرير ونشر للعموم أول مرة سنة 1542 في مدينة زامورا. ومع تعديلات طفيفة أعيد نشره كملحق لكتاب "التعليقات" Comentarios عام 1555 الذي يحكي فيه رأس البقرة تجربته كقائد حملة جديدة إلى العالم الجديد.
طبيعة تقرير رأس البقرة:
كتب كابيزا دي فاكا تقريرا رسميا عن بعثة كولونيالية منيت بفشل ذريع لم يبق من عناصر نجاحها إلا التقرير نفسه كوثيقة تقدم شهادة واصفة للتجربة والمكان والإنسان في تلك البقاع من أرض فلوريدا المجهولة والعصية على الاختراق.
نحن إذن أمام "تقرير" ألفه رأس البقرة بموجب المهمة التي أنيطت به كخازن البعثة ونائب الحاكم بانفيلو دي نارفاييز. فهو ليس رواية أدبية صرفة، ولا نصا رحليا بمعنى الكلمة، مع أنه لا يعدم عناصر أدبية في الوصف والتخييل واختيار الغريب والمدهش، في حدود خبرته في الكتابة، للتأثير على عاهل اسبانيا طلبا للحظوة لديه والتماسا لتفويضه لقيادة بعثة أخرى. وهو ما سيتأتّى له بتعيين حاكمت على ....
إن طبيعة المؤلف والنص والسياق والمتلقي المستهدف من التقرير، كلها محددات كان لها أثر واضح على لغة المحكي وطرائق التعبير وانتقاء مادة السرد. هذا علما بأن ماجريات ووقائع بعثة بانفيلو دي نارفاييز الكارثية قد تم سكبها من قبلُ في تقرير موجز، يعرف بالتقرير المشترك، شارك في إعداده المسيحيون الثلاثة الذين نجوا من الكارثة التي تعرضت لها البعثة وهم: كابيزا دي فاكا نفسه، وألونصو ديل كاستيو وأندريس دورانتيس، باستثناء المغربي "استيفانيكو الأزموري" الذي، بحكم وضعه كخادم أو عبد لدورانتيس، لم يكن له حق الإفضاء بروايته للأحداث التي كان له دور فيها. علما بأنه كان هو لسان حالهم والأكثر تواصلا وتفاوضا مع قبائل الهنود في كل المحطات العصيبة التي مرت بها رحلة المسيحيين في مجاهل أمريكا العصية.
هكذا فإن كابيزا دي فاكا ألف تقريره استنادا على نص مشترك وجيز أعد لإطلاع الملك على ما جرى زهاء تسع سنوات من التيه والمعاناة. لا شك أن الكاتب كان له سهم وافر في تطور الأحداث وصياغة النص معا. ولا شك أيضا أنه قدم تجربته بوعي كبير بتفاصيل الرحلة وتفقّد أخبارها وجمع وجهات النظر من مختلف الرواة وتسقّط الأنباء عن تجارب ومصائر الآخرين، مما جعله يمتلك مادة وافرة تؤهله، أكثر من غيره، لتقديم توليفة متعددة الأبعاد، هي ما سيسفر عنه نص "الرحلة" المعروف باسم "التقرير" Relacion.
الفصل التاسع
كيف غادرنا خليج الخيول
أطلقنا على الخليج الذي تركناه خليج الخيول(1). أبحرنا سبعة أيّام بين خلجان صغيرة فوق مياه لا تجاوز الخصر، دون علامة هادية على وجود شاطئ قريب. ثم وصلنا إلى جزيرة قريبة من الساحل. لاحت لنا من على متن قاربي، الذي كان في الطليعة، خمسة زوارق هندية تتقدّم باتجاهنا. ما أن رآنا ركّابها حتى فرّوا تاركين زوارقهم. أمّا المراكب الأخرى فواصلت طريقها إلى أن بلغت بعض مساكن نفس الجزيرة.
وجدنا هناك كفايتنا من سمك البوري وبيض مجفّف. تزوّدنا منه ثم توغّلنا أكثر. وعلى بعد فرسخين اعترَضَنا مضيق أطلقنا عليه اسم سانت ميغيل لمصادفة يوم وصولنا ذكرى هذا القديس(2). جزنا المضيق وأرسينا عند أحد السواحل. فاستخلصت ألواحا من خشب الزوارق التي أخذناها عن الهنود وقمنا باستعمالها في ترميم حوافّ قواربنا على نحو يجعلها ترتفع فوق الماء بنحو شبرين.
أقلعنا من جديد بمحاذاة الشاطئ تجاه نهر ريو دي لاس بالماس. ويوما بعد يوم زادت سطوة الجوع والعطش بسبب نفاد الزّاد وفساد الماء جرّاء تعفّن القرب التي صنعناها من جلود أقدام الخيول. وفي كل مرّة كنّا نلج فيها مدخلا أو مضيقا صغيرا موغلا في الداخل، كانت المياه ضحلة وخطرة، فأبحرنا عبرها مدّة ثلاثين يوما. وبين مسافة وأخرى كنّا نصادف هنودا يصطادون السمك. كانوا فقراء بائسين.
ذات ليلة، سمعنا صوت زورق يتقدّم نحونا. ولمّا قابَلَنا توقّف ثمّ مضى غير عابئ بهتافنا. وإذ كان الوقت ليلا، لم نقم بأيّ محاولة للّحاق به. فواصلنا طريقنا.
عند طلوع الفجر، قصدنا إحدى الجزر بحثا عن الماء دون جدوى. وخلال فترة رسوّنا، داهمتنا عاصفة واحتجزتنا ستّة أيّام لم نجرؤ خلالها على المغادرة. خمسة أيّام حسوما لم نذق فيها طعم الماء. ومن شدّة العطش اضطررنا إلى شرب الماء المالح الذي أودى بحياة خمسة من رجالنا.
أروي كل هذا باختصار شديد لأنّني لا أرى جدوى من الإفاضة في الحديث عن عذاباتنا. فبالنظر إلى ضراوة المكان وتلاشي الأمل، يمكن لأيّ شخص أن يتخيّل مدى معاناتنا.
هكذا، لمّـا أنهكنا العطش وصار الماء نفسه سبب هلاكنا، قرّرنا التوكّل على الرب والمجازفة بحياتنا في عرض البحر وأهواله، بدل انتظار الموت عطشا.
أقلعنا في نفس الاتجاه الذي سار فيه زورق الهنود ليلة وصولنا. في اليوم الأوّل كدنا نستسلم للغرق مرارا. ومن شدّة اليأس صرنا موقنين بهلاكنا. وعند الغروب، وصلنا بمشيئة الربّ إلى موضع وجدنا فيه طقسا هادئا وملجأ آمنا.
هناك تردّدت علينا زوارق هنود كانوا، في كل مرّة، يخاطبوننا بلغة الإشارة ثم يختفون. كانوا فارعي القوام بأجسام قويّة، لا يحملون قوسا أو نشابا. سرنا خلفهم إلى منازل محاذية لمدخل بحري رسونا عنده. وجدنا أمام بعض المساكن حاويات ماء وكمّيات وافرة من السمك المطبوخ. ناول زعيم تلك البلاد كل شيء للحاكم (نارفاييز) واصطحبه معه إلى مسكنه.
كانت مساكنهم مؤثّثة بحُصُر مثبتة على الأرض. وعند ولوجنا مسكن زعيمهم، قدّم لنا الكثير من السمك. فبادلناهم بعضا من الذرة شرعوا في تناولها طالبين المزيد فأعطيناهم. ومن جهته، سلّم الحاكم (نارفايز) بعض الحلي لزعيم الهنود.
بعد نصف ساعة من غروب الشمس، هاجمنا الهنود في مسكن زعيمهم، فيما انقضّ آخرون على مرضانا بالساحل. أصيب الحاكم بحجر في وجهه. وألقى رجالنا القبض على الزعيم الهندي. وبمساعدة من رجاله المقربين تمكّن هذا الأخير من الهرب، تاركا في أيدينا رداءه المصنوع من جلد السمّور. لعلّه الأجمل والأجود من نوعه في العالم. تنبعث منه رائحة أشبه برائحة العنبر والمسك. يكاد يشمّها المرء من بعيد. لقد سبق لنا أن صادفنا أنواعا أخرى في أنحاء تلك البلاد، لكنّنا لم نشهد شيئا من ذلك القبيل.
حمل الجنود الحاكم الجريح إلى أحد القوارب. وأمّنوا الطريق لمن تبقّى من الرجال باتّجاه المرفأ فيما بقي حوالي خمسون رجلا على اليابسة لمواجهة الهنود الذين دبّروا، في ليلة واحدة، ثلاث غارات عنيفة اضطرّتنا إلى التراجع كلّ مرّة مسافة رمية حجر.
لم ينج أحد من سهامهم. أُصِبْتُ بدوري في وجهي. ولو كان لدى الهنود سلاحا أكثر لكبّدونا أفدح الخسائر. لكن، عند الهجوم الأخير، نصب القائد دورانتيس وبينيالوزا وتيليز وخمسة عشرة رجل، كمينا باغتوا فيه الهنود من الخلف مما أربكهم وأجبرهم على الانصراف.
صبيحة اليوم التالي، قمت بتفكيك زهاء ثلاثين زورق، استعملنا خشبها حطبا للتدفئة اتقاء ريح الشمال التي اضطرّتنا إلى المكوث في البرد القارس غير مجازفين بالإبحار تحت رحمة عاصفة هوجاء. ثمّ صعدنا إلى قواربنا وأقلعنا ثلاثة أيّام متزوّدين بالماء قدر ما توافر لدينا من قرَب جلدية. هكذا وجدنا أنفسنا في نفس الخصاص كذي قبل.
واصلنا الطريق إلى أن بلغنا لسانا بحريا صادفنا عنده زورقا يتقدّم نحونا على متنه بعض الهنود. لوّحنا لهم فيمّموا تجاهنا. طلب منهم الحاكم، من على مركبه الذي كان في المقدمة، إمدادنا ببعض الماء. فوافقوا شريطة أن نعطيهم قِرَبا. تطوّع المسيحي* اليوناني، دوروتيو تيودورو، سالف الذكر، لمرافقتهم. ورغم محاولات الحاكم وغيره لثنيه عن قراره، إلا أنه أصرّ على الذهاب مصحوبا بأحد الزنوج**.
من جهتهم ترك الهنود اثنين من رجالهم رهينتين لدينا. وفي المساء، عاد الهنود من دون المسيحيَّين الاثنين حاملين قِرَب الماء فارغة. وعندما تحدّث الهنود إلى الرهينتين، حاولا الهرب بإلقاء نفسيهما في الماء. إلا أن رجالنا تمكّنوا من الإمساك بهما، فيما تخلّى الهنود الآخرون عن زوارقهم وتركونا أسفين على فقدان رفيقَيْنا المسيحيَيْن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سيشير كابيزا دي فاكا من الآن فصاعدا إلى جميع أعضاء الحملة بالمسيحيين بما فيهم العبيد ومن ضمنهم استيفانيكو الأزموري. لأن قرارا ملكيا كان يقضي آنذاك بعدم مشاركة غير المسيحيين في البعثات المتوجهة إلى العالم الجديد. كانت الحملة تضم على الأقل برتغاليا ويونانيا ومغربيا وإفريقيا ثانيا. وكذلك بعض اليهود المتمسحين الذين غيروا أسماءهم. (انظر بول شنايدر: رحلة ضارية).
**دليل على أن مصطفى الأزموري لم يكن الزنجي الوحيد في الرحلة.
الفصل العاشر
اشتباكنا مع الهنود
في الصباح وصلت مجموعة من الهنود على متن زوارق مطالبين بإطلاق سراح الرهينتين اللذين تركوهما على قواربنا. وافق الحاكم على تسليمهما شريطة أن يعيدوا لنا المسيحيَيْن الاثنين.
كان الهنود مصحوبين بخمسة أو ستّة من زعمائهم تبدو عليهم علامات التجربة والثقة بالنفس وسلطة أكبر من أولئك الذين تحدّثنا عنهم من قبل. كانوا أقصر قامة بشعور مسدلة طويلة. يلتحفون أردية مصنوعة من جلد السّمور، من ذات النوع الذي حصلنا عليه من قبل، بعضها معقودة بطريقة غريبة، برباطات جلدية ذات ألوان زاهية.
دعانا الهنود لمرافقتهم على وعد تسليمنا المسيحيَين الاثنين والماء وأشياء أخرى. تدريجيا أخذت تتوارد على المكان زوارق إضافية سدّت فم الخليج في وجهنا. ونظرا لخطورة الموقف ووعورة البلاد، أقلعنا بصحبتهم حتّى المساء. ولمّا رفضوا تسليمنا رفيقَيْنا، رفضنا بدورنا تسليمهم الرهينتين فشرعوا يرموننا بحجارة متوعّديننا بإطلاق سهامهم علينا رغم أنه لم يكن بحوزتهم أكثر من ثلاثة أو أربعة أقواس.
ارتفعت قوّة الريح خلال الاشتباك فتراجع الهنود تدريجيّا ثم انصرفوا. جذّفنا حتى المساء فصادف قاربي، الذي كان في المقدمة، لسانا بحريا اعترضنا عند نهايته نهر واسع(3) وخليج صغير رسوت عنده في انتظار وصول القوارب الأخرى.
رفض الحاكم النزول إلى اليابسة، وقرّر مواصلة الإبحار نحو خليج مجاور لمجموعة من الجزر الصغيرة. التحقنا به هناك ونهلنا من سيل ماء نهر جارف يصبّ في الخليج.
طيلة يومين كان قُوتُنا بعضا من ذرة نيّئة. ذهبنا إلى ساحل الجزيرة عسى نعثر على خشب نشوي على ناره بعضا من الذرة التي كانت مصدر غذائنا الوحيد. ولمّا باءت محاولتنا بالفشل، توجّهنا صوب النهر مقدار فرسخ. لكنّ قوّة التيّار جعلت الرّسوّ صعب المرام. ورغم جهودنا، جرفنا التيّار بعيدا عن الساحل. ثم ثارت ريح شمالية في وجهنا ودفعتنا في عرض البحر دون أن نستطيع مقاومتها. وعلى بعد نصف فرسخ من الساحل أنزلنا حبال قياس بعمق ثلاثين ذراع، لكنّها لم تبلغ القعر ربّما بسبب التيّار.
أقلعنا يومين آخرين مجدّين في بلوغ الساحل. وقبيل فجر اليوم الثالث لاحت لنا أعمدة دخان على الشاطئ يمّمنا تجاهها إلى أن بلغنا مياهً بعمق ثلاثة أذرع. ولمّا كان الوقت ليلا، لم نجرؤ على الرّسوّ. وبالنظر لكثافة الأدخنة، أحسسنا بأن خطرا كبيرا يترصّدنا هناك. وبسبب حلكة الظلام لم نستطع اتخاد قرار مناسب، ففضّلنا الانتظار حتّى الصباح.
عند الفجر، كانت القوارب قد تباعدت عن بعضها البعض، ووجدت نفسي على عمق ثلاثين ذراعا، فواصلت طريقي. عند المساء تقدّمت نحو قاربَين آخرين. كان أوّلهما قارب الحاكم (نارفايز) الذي بادرني بالسؤال عمّا يمكن القيام به. فأشرت إليه بالانضمام إلى القارب الأول والحرص على ملازمته ومواصلة الرحلة بمشيئة الرب. فردّ بأن ذلك لن يجدي نفعا، لأن القارب ينجرف أكثر فأكثر في عرض البحر، بينما هو يرغب في بلوغ اليابسة، وأنّني إن أردت اللّحاق به، على الرجال الذين يوجدون على متن قاربي أن يحملوا المجاذيف ويشمّروا عن سواعدهم، لأن بالسواعد فقط يمكن بلوغ اليابسة.
كان مرافقه القبطان بانتوخا هو من أشار إليه بأنه إذا لم يبلغ اليابسة ذلك اليوم، فإنّه لن يبلغها قبل ستّة أيام، وأنّ الموت جوعا حينئذ سيكون محتّما. ولمّا بدا لي تشبّثه برأيه، حملت مجذافي، وكذلك فعل كلّ رجالي. فجعلنا نجذّف حتّى غروب الشمس تقريبا.
ولمّا كان قارب الحاكم يحمل أقوى الرجال، فإنّنا لم نستطع مجاراته. فطلبت منه أن يمدّني بحبل من قاربه حتى يتسنّى لي اتّباعه. فردّ عليّ بأنّه يكفيه لو تمكّن هو ورجاله من بلوغ اليابسة عند المساء. فالتمست أوامره طالما أنّه لا حظّ لنا في اللحاق به. فأجابني بأنّه لم يعد هناك وقت لإصدار أو تلقّي الأوامر، وأنه على كل واحد منّا أن يفعل ما يراه مناسبا لإنقاذ حياته. وأن ذلك ما هو عازم على فعله. هكذا لفظ آخر كلماته ونأى بعيدا بقاربه.
ولمّا تعذّر اللحاق به، توجّهت صوب قارب آخر كان بانتظاري في عرض البحر. وحين بلغته وجدته قارب القائدين بينيالوزا وتيلّيز. أبحرنا معا أربعة أيّام، لا نقتات إلا بنصف مُدّ من ذرة نيّئة. وفي اليوم الخامس ثارت في وجهنا عاصفة فقدنا من جرّائها القارب الآخر. وبلطف من الرب نجونا من الغرق.
كان الطقس شتائيا باردا. ومن أثر الجوع وهياج الموج أيّاما متتالية أخذ الرجال يفقدون وعيهم. وما أن حلّ الغروب حتى انهار جميع من كان على متن قاربي، وصاروا أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة. قليل منهم ظلّ واعيا وخمسة فقط كانوا يستطيعون الوقوف.
عند حلول الظلام، لم يبق إلا الربّان وأنا بمقدورنا قيادة القارب. وبعد ساعتين، أسلم لي الربّان الدفّة قائلا أن لديه إحساسا بأنه سيموت تلك الليلة. وبعد منتصف الليل، تفقّدته لأرى إن كان قد قضى نحبه، فأجابني، على عكس التوقّع، بأنّه يشعر بتحسّن، وأنه يودّ استلام دفّة القيادة حتّى الصباح. في تلك اللحظة تمنّيت الموت على أن أرى الرجال من حولي على تلك الحال.
بعدما استلم الربّان منّي دفّة القيادة، أخذت قسطا من الراحة دون أن يغمض لي جفن. وعند اقتراب الفجر سمعت صوت ارتطام الموج. وحيث أن الساحل كان واطئا، فإنه كان يُصدر صوتا قويّا. ومن أثر المفاجأة ناديت على الربّان فأجابني بأنه يعتقد أنّنا صرنا على مقربة من اليابسة. فقمنا بقياس عمق الماء فوجدناه في حدود سبع قامات(4).
ارتأى الربّان ألّا نبارح الماء حتّى الفجر. فحملت مجذافا ويمّمت صوب الساحل مسافة فرسخ، وجعلت مؤخّرة القارب جهة البحر. وما أن اقتربنا من اليابسة حتى تخطّفتنا موجة عالية وطوّحت بنا خارج الماء. ومن وقع تلك الرّجة استعاد الرجال، شبه الموتى، وعيهم. ولمّا أدركوا أنّنا بمحاذاة اليابسة، أخذوا ينسِلون من القارب زاحفين على أيديهم ورُكَبهم. وما أن تجمّعوا على جرف صخري، حتى أضرمنا نارا شوينا عليها ما تبقّى لنا من ذرة. ارتوينا من ماء المطر. ومن أثر دفء النار أخذ الرجال يستعيدون حيويَتهم وعافيتهم. كان اليوم الذي نزلنا فيه هناك هو السادس من نوفمبر.
هوامش
1 ـ خليج الخيول: خليج أبالاشي حاليا.
2 ـ 29 سبتمبر
3 ـ نهر واسع: يرجّح أن يكون فم نهر الميسيسيبي.
4 ـ القامة: وحدة قياس طول تستخدم في المجال البحري.
القسم الرابع
في مجاهل بلاد الهنود
الفصل الحادي عشـر
ما حدث بين لوبي دي أوفيدو وبعض الهنود
تناولت ما تيسّر من طعام، وأوعزت إلى لوبي دي أوفيدو، أقوى الرجال وأكثرهم صلابة، بصعود إحدى أشجار غابة قريبة لاستكشاف طبيعة البلاد وجمع معلومات عنها. فاكتشف أنّنا على أرض جزيرة(1) بها أثر أقدام حيوانات، معتقدا أنها أرض مسيحيّة(2).
أرسلته ثانية للبحث عن طريق سالك، على أن يتوخّى الحذر ولا يعرّض نفسه للخطر، فعثر هناك على ممشى سار فيه مدّة نصف فرسخ. فوجد أكواخ هنود خالية من سكاّنها الذين كانوا قد خرجوا إلى الحقول. فحمل قِدْرا به طعام، وكلبا صغيرا، وبعض السمك، ثم غادر المكان.
وحين أبطأ في الرجوع، أرسلت مسيحيَين اثنين لتفقّده. ومن مسافة قريبة شاهدا ثلاثة هنود يحملون أقواسا وسهاما يلاحقونه ويخاطبونه بلغة الإشارة. كان يردّ عليهم بنفس الطريقة. انضمّ إلينا فيما توقّف الهنود عند الساحل. وبعد نصف ساعة، التحق بهم مائة من الرماة. وفيما إذا كان هؤلاء الهنود ذوي قامات طويلة أم قصيرة، فإن الخوف الذي استبدّ بنا لحظتها جعلهم يبدون لنا كعمالقة.
حين توقّفوا على مقربة من رجالنا الثلاثة، لم نفكّر حتّى في مقاومتهم، لأنه لم يكن من بيننا حتى ستّة رجال لهم القدرة على الوقوف. تقدّمت نحوهم أنا والمراقب (ألونصو دي صوليص) وأشرنا إليهم بالاقتراب ففعلوا. وكي ننفذ بجلدنا جعلنا نهدّئ الموقف بكلّ ما أوتينا من قوة. فأهديناهم خرزا وأجراسا، فيما قدّم لنا كلّ واحد منهم سهما عربون صداقة. وبلغة الإشارة جعلونا نفهم بأنهم سيجلبون لنا طعاما غدا، لأنّه لم يكن لديهم ما يقدّمونه لنا آنذاك.
الفصل الثاني عشر
كيف حمل لنا الهنود الطعام
برّا بوعدهم، عاد الهنود فجراً حاملين سمكا كثيرا وبعض الجذور التي يقتاتون منها، وهي أشبه بثمر الجوز، ذات أحجام مختلفة، ينتشلونها من الماء بعسر. وعند المساء، جاءوا ثانية مصحوبين بنسائهم وأطفالهم، محمّلين بمزيد من الأسماك والجذور. ثم رجعوا إلى مساكنهم أغنياء بما وهبناهم من خرز وأجراس. هكذا دأبوا على زيارتنا أيّاما متتالية يمدّوننا بما تيسّر لهم من طعام.
ولمّا توافر لدينا ما يكفي من سمك وجذور وماء، وحصلنا على كفايتنا منها، قرّرنا استئناف المسير. انتشلنا القارب الغائص في الرمل، وهو ما تطلّب منّا نزع ملابسنا وبذل قصارى جهدنا لإرسائه في الماء، لأنّنا كنّا على حال من الوهن جعل كلّ شيء، مهما خفّ وزنه، مصدر ألم كبير لنا.
أقلعنا من جديد. توغّلنا في عرض البحر مقدار غلوتين(3) فغمرتنا موجة كبيرة. ولمّا كنّا عراة وكان البرد قارسا، انفلتت المجاذيف من أيدينا. ثم انهالت علينا موجة ثانية فقلبت القارب رأسا عن عقب. تشبّث المراقب (ألونصو دي صوليص) واثنان من رفقائه بالقارب، لكنّه انقلب على رؤوسهم فعلقوا تحته وانجرفوا معه إلى حتفهم الأخير.
كان الساحل وعرا. جرف البحر رجالنا وقذف بهم، شبه أحياء، إلى شاطئ نفس الجزيرة، اللّهم إلّا الرجال الثلاثة الذين قضوا غرقا تحت القارب. أمّا نحن فضيّعنا كلّ ما نملك وبقينا عراة كما ولدتنا أمهاتنا. ومع أن الأشياء المفقودة لم تكن ذات قيمة، فإنّها كانت تعني الكثير بالنسبة لنا.
كان شهر نوفمبر باردا. وكنّا في حال من الهزال يجعل المرء يحصي عظامنا. صرنا أشبه بالموت نفسه. أما عنّي، فيمكن القول بأنّني منذ شهر ماي لم أتناول من الطعام إلا بعض الذرة المشوية التي كنت أضطرّ أحيانا إلى ابتلاعها نَيِّئة. حتّى الخيول التي عقرت أثناء بناء القوارب لم أستسغ أكلها. وطوال تلك الفترة لم أتناول السمك إلا أقل من عشر مرّات. أقول هذا ليعلم الجميع الوضع الذي أصبحنا عليه.
فوق كلّ ذلك، ثارت في وجهنا ريح شمالية جعلتنا أقرب إلى الموت منّا إلى الحياة. وبمشيئة الربّ عثرنا على خشب كنّا قد أوقدناه من قبل، فأضرمنا فيه نارا هائلة سائلين الرب، بعيون باكية، أن يرحمتنا ويغفر خطايانا. وبالنظر إلى بؤس الحال، كان كل واحد منّا يشفق على نفسه وعلى من حوله من الرجال على حدّ سواء.
عند الغروب، وظنّاً منهم بأنّنا لم نغادر المكان، جاءنا الهنود بطعام. ولمّا رأونا على تلك الهيئة المزرية، أصيبوا بالذهول وأقفلوا عائدين. نهضت مناديا عليهم فاقتربوا واجفين. وبكل ما أوتيت من لغة الإشارة جعلتهم يفهمون أننا أضعنا قاربا، وأن ثلاثة من رجالنا ماتوا غرقا. وكان أمام أنظارهم جثتان لاثنين من رجالنا، وآخرون ينتظرون نفس المصير.
وإذ شاهدوا ما حلّ بنا من كارثة وما لقيناه من عَنَتٍ، جلس الهنود قربنا وشرعوا في البكاء إشفاقا على سوء طالعنا. لنصف ساعة أخذوا يبكوننا بصوت عال وصادق يُسْمَع من مكان بعيد. والحقيقة أن مرأى رجال طائشين سذَّج جفاة الطباع يرقّون لحالنا، قد حرّك مشاعرنا وجعلنا نتأسّى أكثر على وضعنا المزري.
بعد توقّف النحيب، سألت المسيحيّين إن كانوا يمانعون أن أطلب من الهنود اصطحابنا إلى منازلهم. فأشار عليّ بعضهم ممّن عاشوا لفترة في إسبانيا الجديدة أن لا أفعل، لأنّه حالما سنصل إلى منازل الهنود سيقدّموننا قرابين لأوثانهم.
ولمّا لم يكن لدينا بديل، وكان الموت محتمّا ووشيكا، تجاهلت نصيحتهم، والتمست من الهنود أخذنا إلى قريتهم. فردّوا بترحاب كبير ملتمسين منا التريّث حتى يستجيبوا لطلبنا. هكذا احتطب ثلاثون رجلا منهم خشبا للتدفئة واتجهوا نحو منازلهم البعيدة، بينما لبثنا مع من تبقّى منهم حتى أوشك الظلام. ثم اقتادونا سراعا باتجاه منازلهم.
لحمايتنا من برودة الطقس، أضرم الهنود أربعة أو خمسة مشاعل على مسافات متقاربة طوال الطريق، وأخذوا يدفئوننا حتّى لا ينهار أحد من رجالنا أو يموت. وكلّما آنسوا منّا الدفء والمقدرة، سارعوا إلى حملنا صوب موضع النار الموالي بخفّة جعلت أرجلنا تكاد لا تلامس الأرض.
عندما وصلنا إلى منازلهم، أعدّوا لنا مساكن وضعوا فيها مشاعل. وبعد ساعة من وصولنا، شرعوا يرقصون طوال الليل احتفاء بنا. أمّا نحن، فلم ننعم بفرح أو احتفال أو نوم، لأننا كنّا ننتظر لحظة تقديمنا كقرابين. لكن عند الصباح، قدّموا لنا سمكا وجذورا. وعاملونا معاملة حسنة بعثت الطمأنينة في قلوبنا فتخلّصنا من هاجس أن نصير قربانا لهم.
الفصل الثالث عشر
كيف علمنا بوجود مسيحيّين آخرين
في ذات اليوم، رأيت حِلْية صغيرة على أحد الهنود لم تكن من الهدايا التي قدّمناها لهم. ولمّا سألته عن مصدرها، أعلمونا بلغة الإشارة، بأن رجالا يشبهوننا، تركوهم خلفهم، هم من أهداهم تلك الحِلْية. بمجرد سماع ذلك، أرسلت مسيحيَين اثنين مع مرشدَين هنديَين، تجاه موضع أولئك الرجال الذين التقوا بهم على مقربة. كانوا بدورهم يبحثون عنّا، لأنّ هنودا آخرين أخبروهم بوجودنا في تلك الأنحاء. كان من بينهم أندريس دورانتيس وألونصو ديل كاستيّو وما بقي معهما من الرجال.
لما اقتربوا منّا أصيبوا بالذهول لهيئتنا المزرية وكانوا أسفين لعدم قدرتهم على مدّنا بأيّ شيء لأنّهم لم يكونوا يملكون بدورهم سوى الثياب على أجسادهم. أقاموا معنا وأخبرونا كيف علق قاربهم، في الخامس من ذلك الشهر، على بعد فرسخ ونصف من ذلك المكان. ثم كيف استطاعوا الفرار دون أن يفقدوا شيئا.
اتفقنا على إصلاح قاربهم، على أن يواصل الأقوياء منهم المسير، بينما ينتظر الآخرون هناك حتّى يستعيدوا عافيتهم فيسلكوا طريق الساحل عسى أن يهدينا الربّ جميعا إلى أرض المسيحيّين. هكذا شرعنا في العمل. وقبل أن نضع القارب في الماء مات أحد الفرسان يدعى طافيرا. تأكّد لنا أن القارب غير صالح للإبحار. وإن هي إلّا فترة قصيرة حتى غرق في البحر.
وحيث أنّ معظم رجالنا كانوا عراة، وبسبب سوء الطقس الذي يعيق المشي والسباحة عبر الأنهار والخلجان، ولأنّنا كنّا نفتقر لكل زاد أو طعام، استسلمنا للأمر الواقع وقرّرنا قضاء فصل الشتاء هناك.
ثم اتفقنا على أن يذهب أربعة من أقدر رجالنا إلى بانوكو التي كنّا نعتقد أنّها قريبة، آملين أن يصلوا هناك بمشيئة الرب ويخبرون عن تواجدنا على الجزيرة، وعن عوزنا ومعاناتنا. كان ضمن هؤلاء الرجال، وهم سبّاحون مهرة، كل من البرتغالي ألفارو فرنانديز. ومينديز، وهو نجّار وبحار، وفيغويروا الطليطلي، وأستوديّو سليل مدينة زَفْرا. اصطحبوا معهم هنديا من أهالي الجزيرة.
الفصل الرابع عشر
كيف غادر المسيحيّون الأربعة
بعد بضعة أيام من مغادرة المسيحيّين الأربعة، صار الطقس باردا وعاصفا تعذّر معه على الهنود انتشال الجذور من الماء. كما لم تعد القنوات التي ينصبونها للصيد تجود عليهم بشيء. ولمّا كانت المساكن لا تقدّم لهم الحماية اللازمة، فقد لقي بعض الرجال حتفهم. بلغت الحال بخمسة من المسيحيّين، الذين كانوا يقطنون كوخا بالساحل، حدًّا صاروا معه يأكلون بعضهم البعض حتى لم يتبقّ منهم سوى واحدًا لم يجد من يأكله. وهُمْ سييرا، دييغو لوبيز، كورال، بالاسيوس، و غونزاليس رويز.
ارتاع الهنود لأمرهم وسرت بينهم موجة من الاشمئزاز حتّى صرت موقنا بأنّه لو تسنّى لهم مشاهدتهم في ذلك الوضع من قبل لكانوا قد أجهزوا عليهم منذ البداية، ولصرنا جميعًا في خطر كبير. بعد فترة وجيزة، لم يبق على قيد الحياة من بين الرجال الثمانين الذين نزلوا هذا المكان، من كلا الطرفين، سوى خمسين نفرا.
إثر ذلك، أصيب الهنود بمرض في البطن أودى بحياة نصفهم. اعتقدوا أنّنا سبب موتهم فقرّروا قتلنا جميعا. لكن عند ساعة التنفيذ، ظهر من بينهم هندي عشت في كنفه من قبل، فنفى أن نكون سبب موت رجالهم، لأنّه لو كانت لنا تلك المقدرة لما تركنا رجالنا المسيحيّين يموتون تباعا دون أن نستطيع علاجهم. وأضاف بأنّ القليل ممّن بقي منّا على قيد الحياة لم يصب أحدا بأذى. ثمّ أشار عليهم بإخلاء سبيلنا وتركنا لمصيرنا. وشاء الرب أن يلقى هذا الرأي قبولًا حسنا لديهم ويجعلهم يعدلون عن فكرة قتلنا.
سمّينا تلك الجزيرة جزيرة النحس(4). أجسام رجالها عريضة وقوية. لا يملكون من السلاح إلا أقواسا وسهاما يسعملونها بمهارة كبيرة. كان من عادة بعض رجالهم أن يثقبوا إحدى حلمتي الثديين. فيما يثقب بعضهم الحلمتين معًا. يسلكون عبر الثقب قصبة بطول شبرين وسُمْكِ أصبعين. كما كانوا يخترمون شفتهم السفلى ويضعون مكان الخرم قصبة بحجم نصف أصبع. أما نساؤهم فكنّ يُنْجِزْنَ أشقّ الأعباء.
يقيم الهنود عادة بهذه الجزيرة ابتداء من شهر أكتوبر إلى نهاية فبراير. يقتاتون على الجذور التي وصفتها من قبل، التي ينتشلونها من الماء خلال شهري نوفمبر وديسمبر. ينصبون للسمك قنوات، ويحصلون منه على صيد وفير خلال تلك الفترة من السنة. بعد انقضاء المدة يتغذّون على الجذور. وعند متمّ شهر فبراير يرحلون إلى مناطق أخرى بحثًا عن الطعام، لأنّ الجذور تكون قد بدأت تورق ولا تعود صالحة للأكل.
من بين شعوب العالم، يحبّ أولائك الهنود أبناءهم حبّا جمّا ويتعهّدونهم بأفضل عناية. وإذا صادف أن مات أحد الأبناء، فإنّ الآباء والأقارب وكلّ أهالي القرية يبكونه ويقيمون عليه الحِداد سنة كاملة. يشرع أهل الطفل الميت في البكاء كلّ صباح قبيل طلوع الشمس، ثم ينضمّ إليهم جميع أهالي القرية. ويستأنفون نفس النحيب في واسطة النهار وعند المساء. وبعد عام من الحِداد، يقدّمون فروض الاحترام للميت، ويغتسلون من الأصباغ التي طلوا بها أجسادهم.
بيكي هؤلاء الهنود جميع موتاهم باستثناء الشيوخ الذين أخذوا حصّتهم من الحياة ولم يعد لهم نفع اللّهم إلا مزاحمة الأطفال في قوتهم وسكنهم. من عادتهم أيضا دفن موتاهم، باستثناء كاهن القبيلة. فإنّهم يحرقون جثمانه ويقيمون عليه احتفالا كبيرا راقصا. ثم يجعلون من عظامه مسحوقا. وبعد عام، يحيون ذكراه مجدّدين له فروض الاحترام. ثمّ يسلّمون أقاربه مسحوق عظامه يشربونه مع جرعات ماء.
لكلّ هندي زوجة واحدة تعترف له بها كل القرية. أما الكهّان فيجوز لهم الحصول على زوجتين أو ثلاثة تجمع بينهنّ صداقة وانسجام. وما أن يتزوّج أحدهم حتّى تأخذ الزوجة كل ما يوفّره زوجها من سمك أو طرائد إلى بيت أبيها دون أن تجرؤ على لمسه أو أكله. فيما يتلقّى الزوج طعامه من بيت أهل زوجته.
في معهودهم أيضا أن لا يُسْمَحَ لأب الزّوجة وأمّها دخول منزله، كما لا يجوز له زيارة بيتهما أو بيت أبنائهما. وإذا صادف أن التقى الزوج بأهل زوجته، فإنه يحتفظ بمسافة بعيدة عنهم، ويمرّون منكّسي رؤوسهم، معتقدين أنّ في رؤية بعضهم البعض أو الكلام فيما بينهم شرّ كبير. فيما يجوز للنساء الاتصال والكلام مع أهلهنّ وأهل أزواجهنّ وأقاربهنّ. تنتشر هذه العادة من تلك الجزيرة على مدار خمسين فرسخ وسط البلاد.
هناك عادة أخرى جديرة بالذكر. حين يموت طفل أو قريب، يتوقّف أفراد أسرته عن السعي لتحصيل الطعام بأنفسهم لمدة ثلاثة أشهر، مفضّلين الموت جوعًا. لكنّ أقاربهم وجيرانهم يمدّونهم بما يسدّ الرمق. فطيلة المدّة التي أقمنا بينهم لقي كثير منهم حتفهم لهذا السبب. كان الجوع منتشرا بين معظم أفراد الأسر لتشبّثهم بعاداتهم ومراسيمهم. علاوة على أن قساوة الطقس كانت لا تساعدهم على تحصيل الطعام الكافي رغم أنهم يبذلون لأجل ذلك جهدًا كبيرًا.
هكذا غادر الهنود، الذين كنت في كنفهم، الجزيرةَ على متن زوارق باتجاه وسط البلاد حيث توجد خلجان غنية بالمحار. طيلة ثلاثة أشهر من السنة كان المحار يشكّل طعامهم الوحيد، أما شرابهم فَمَاءٌ فاسد. يفتقر المكان إلى حطب التدفئة ويعجّ بالبعوض. مساكنهم مصنوعة من ألياف نباتية توضع على صدفات محار يفترشون عليها جلود حيوان التماسا للنّوم. وهو ما لا يتأتّى لهم إلّا لِماماً.
دامت فترة مقامنا بينهم حتى نهاية شهر أبريل كنّا نصاحبهم خلالها إلى ساحل البحر. فنظلّ نقتات على ثمر العلّيق شهرا كاملا. كانوا يقضون تلك الفترة في رقص واحتفال متواصل.
الفصل الخامس عشر
ما حدث لنا على جزيرة النحس
أراد أهالي الجزيرة المذكورة أن يجعلوا منّا أطبّاء نعالج مرضاهم دون أن يطلبوا منّا شهادة خبرة، لأنّهم كانوا يعالجون عادة بواسطة النفخ على المرضى معتقدين أنّه عن طريق النَّفَس واللمس باليد يمكنهم طرد المرض. فرضوا علينا أن نقوم بنفس الشيء حتى يكون لبقائنا بينهم مبرّر ونفع. بداية، قابلنا هذا الطلب باستخفاف. وأخبرناهم بأنّنا لا نعرف كيف نعالج الناس.
لإرغامنا على ذلك منعوا عنّا الطعام. وأمام إصرارنا، توجّه إليّ أحد الهنود يحذّرني من جسامة ما أقول حين أدّعي أنّ علمه غير مجدي، لأنّ للحجر ولكلّ ما ينبت في الحقول فضائل خاصة. وأنه، بواسطة حجر حامي يضعه على بطن المريض يخلّصه من كلّ ألم. وأننّا، نحن المسيحيّين، نمتلك حكمة وافرة وفضيلة أكبر. في الأخير، وجدنا أنفسنا مضطرّين لتنفيذ ما طلبوا منّا تلافيا للعقاب.
أمّا طريقة علاجهم فهي كالتالي: عندما يشعر أحدهم بالمرض، فإن الأهالي يلجؤون إلى كاهن القبيلة. وعندما يتمّ العلاج يمنحونه كلّ ما بحوزتهم ويجلبون له ما استطاعوا من ممتلكات أقاربهم. يقوم الكاهن بفصد موضع الألم ومصّ الدم من حوله وكيّ مكان الجرح بالنار مسلّما بنجاعة العلاج وهو ما تأكّد لي فعلا من خلال التجربة. ثم ينفخ في موضع الألم معتقدا أنّه بهذا الصنيع يزيل المرض.
أما طريقة علاجنا نحن، فكانت تتمّ برسم علامة الصليب على المرضى والنفخ عليهم وتلاوة صلوات من الكتاب المقدّس*، ثم التوسّل إلى الربّ أن يمنحهم العافية ويلهمهم حسن معاملتنا. وبمشيئته ورحمته الواسعة، كنّا كلّما رسمنا إشارة الصليب نهض المرضى معلنين شفاءهم وتخلّصهم من الألم. مقابل ذلك، كانوا يعاملوننا معاملة حسنة ويقدّمون لنا طعامهم اليومي موثرين على أنفسهم الجوع. كما كانوا يمنحوننا بعض الأشياء المصنوعة من جلود الحيوان وهدايا أخرى صغيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يتعلق الأمر بصلاة الربّية وسلام مريم. وهي صلوات كاثوليكية عريقة: Pater Noster and Ave Maria
كان الطعام نادرا بحيث كنّا نتمشّى أحيانا ثلاثة أيّام دون أن نجد ما نسدّ به الرمق. بدا لي من المستحيل استمرار الحياة على تلك الشاكلة، رغم أنّني عانيت، فيما بعد، جوعا أكثر وحرمانا أكبر، كما سنأتي على ذكره لاحقا.
أما الهنود الذين كانوا يحتجزون ألونصو ديل كاستيّو، وأندريس دورانتيس، ومن بقي منهم على قيد الحياة، فكانوا من قبيلة لغوية مختلفة. يقتاتون على المحار في أنحاء أخرى من البلاد. يمكثون هناك إلى فاتح أبريل، ثم يعودون إلى الجزيرة التي تبعد عن مكان تواجدنا بحوالي فرسخين حيث عرض المياه أوسع. كان عرض الجزيرة نصف فرسخ عرضا وطولها خمس فراسخ.
كان أهالي الجزيرة يمشون عراة. وحدهنّ النساء كنّ يضعن على أجسادهنّ سِترا من صوف ينمو على شَجَر، فيما تغطّي الفتيات أعضاءهنّ الأنثوية بجلود الغزال. هؤلاء الهنود متساهلون في أمور المِلكية، وليس لهم حاكم. يعيش الأقارب مجتمعين. تنطق على أرض الجزيرة لغتان متمايزتان: لغة شعب كافوكويس، ولغة شعب الهان.
من عادتهم عندما يتعارفون أو يلتقون فيما بينهم (عند اللقاء) أن يشرعوا في البكاء مدّة نصف ساعة قبل أن يتبادلوا الكلام. وبعد طقس البكاء يهدي المضيف كلّ ما يملك لضيفه. فيحمل هذا الأخير الهديّة ويغادر. أحيانا يفترق المضيف والضيف بعد استلام الأعطية دون أن يتبادلا كلمة واحدة.
لدى هؤلاء الهنود عادات غريبة كثيرة. وإذ ذكرت الأساسيَّ منها والأكثر مدعاة للدهشة، سأواصل الآن سرد ما حدث لنا هناك.
الفصل السادس عشر:
كيف غادر المسيحيّون جزيرة النحس
عندما عاد دورانتيس وكاستيّو إلى الجزيرة، قاموا بتجميع المسيحيّين الأربعة عشر. من جهتي، كنت صحبة هنود، في موضع آخر داخل البلاد، أعاني من مرض شديد. ففي ظروف مغايرة، كنت سأمنّي النفس بالعيش، لكنّ المرض كان كافيا ليجرّدني من كل أمل في الحياة. ولمّا علم المسيحيّون بوجودي، أهدوا أحد الهنود معطف جلد السمّور الذي أخذناه سلفا من زعيم القبيلة، ليدلّهم على مكاني.
وصل اثنا عشر رجلا من المسيحيّين فقط، بينما تعذّر حمل اثنين منهم كانا في حالة من الوهن. أما الذين تمكّنوا من الوصول فهم: ألونصو ديل كاستيّو، أندريس دورانتيس، دييغو دورانتيس، فالديفييزو، إسترادا، كوسكادو، شافيس، غوتيريز، راهب من أستورياس، دييغو دي هويلفا، استيبانيكو الزنجي*، وبينيتيز. لّما توغّلوا داخل البلاد عثروا على أحد رجالنا يدعى فرانسيسكو دي ليون. سلك الرجال الثلاثة عشرة طريق الساحل. وعندما مرّوا بجوارنا، أخبرني الهنود الذين كنت أعيش في كنفهم بوجودهم وببقاء هيرونيمو دي ألانيز ولوبي دي أوفيدو في الجزيرة.
منعني المرض من اقتفاء أثرهم أو رؤيتهم، فاضطررت للبقاء مع نفس القبيلة زهاء سنة. وبسبب الأشغال الشاقّة التي أُرْغِمْتُ على أدائها، وسوء المعاملة التي كنت أتلقّاها منهم، قرّرت الهروب والانضمام إلى هنود شعب شاروكو الذين يقطنون الغابات وسط البلاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يرد اسم الأزموري لأول مرة في التقرير تحت مسمى "استيفانيكو الزنجي" Estebanico el Negro". يعتبر غودوين تقرير كابيزا دي فاكا "أول سجل إسباني رسمي يذكر فيه اسم استيفانيكو والمرة الأولى أيضا في تاريخ أمريكا يذكر فيها إفريقي بالاسم". (غودوين: ص222).
لم أطق نمط العيش الذي فرض عليّ. فمن بين العديد من الأعباء، كنت ملزما بانتشال الجذور الصالحة للأكل من القصب الغائص في الماء، حتّى صارت أصابعي، من فرط طراوتها، تُدْمى من ملمس أدنى شيء. كاد القصب المكسور يقطع أجزاء من جسدي. فكنت مضطرّا للمناورة بينه مرتديا ملابسي التي وصفتها من قبل. لذلك عملت كلّ ما في وسعي للفرار والالتحاق بالهنود الآخرين الذين تحسّن وضعي بينهم إذ تحوّلت إلى مُتاجِر.
كنت أعمل كلّ ما بوسعي لإرضائهم، وكانوا بالمقابل يطعمونني ويحسنون معاملتي. كانوا يحثّونني على التنقّل من مكان إلى آخر لجلب احتياجاتهم. لا سيّما أن حروبهم المتواصلة لم تكن تترك لهم متّسعا من الوقت للسفر والتجارة. كنت أحمل بضاعتي متجوّلا داخل البلاد على سجيّتي قاطعا ما بين أربعين وخمسين فرسخا على طول الساحل. كانت السلع التي أداولها بين العشائر تتكوّن من قطع المحار وصدف البحر الصالح للأكل، ونوع خاص من الأصداف يستخدمونه أداةً لقطع فاكهة شبيهة بالفاصولياء يستعملونها كعلاج وشراب طقوسي في رقصاتهم واحتفالاتهم، وهي ذات قيمة عالية لديهم إلى جانب خرز البحر وأشياء أخرى.
كنت أجوب البلاد بهذه الأشياء، وأجلب مقابلها ما تيسّر لي من جلود الحيوان، ومُغْرة حمراء يدلكون ويصبغون بها وجوههم وشعورهم، وحجر صوان لرؤوس سهامهم، وصمغ وقصب صلب لصنع السهام، وشرابات مصنوعة من شعر الغزال يدبغونها باللون الأحمر.
أحببت هذه المهنة لأنّها مكّنتني من التنقّل بحرّية والتخلّص من كل الأعباء الأخرى. والأهمّ من كلّ ذلك أنها حرّرتني من العبودية. حيثما حللت كان الهنود يعاملونني معاملة طيّبة، ويكرمون وفادتي طمعا في بضاعتي. وكان منتهى أملي أن أواصل على هذا المنوال حتّى أجد لنفسي مخرجا من ذلك الوضع.
ذاع صيتي بين الناس وصاروا يبتهجون لمَقْدَمي، لأنّني كنت أحمل إليهم ما يحتاجونه من بضاعة. وما أن ينتشر خبر وصولي، حتّى يهبّون للقائي. أما أولئك الذين لا يعرفونني فيعملون ما بوسعهم لرؤيتي.
أحتاج وقتا طويلا لأروي ما عانيته من تلك المهنة، وما تجرّعته من حرمان ومخاطر، وواجهته من عواصف وصقيع خلال تجوالي وحيدا في تلك البراري الشاسعة. التي لم أنج منها إلّا بلطف من الربّ.
كنت أتوقّف عن مزاولة التجارة خلال فصل الشتاء، الذي يلزم فيه الأهالي مساكنهم عاجزين عن تقديم العون لبعضهم البعض. لقد قضيت ستّة أعوام طوال في تلك البلاد، وحيدا وسط الهنود، عاريا مثلهم. تحدوني في ذلك الرغبة في اصطحاب لوبي دي أوفيدو، المسيحيّ الوحيد الذي ظلّ على الجزيرة. بينما لقي رفيقه ألبانيز، الذي لبث صحبة ألونصو ديل كاستيّو وأندريس دورانتيس، مصرعه بعد مغادرتهما بوقت قصير. ولإنقاذ دي أوفيدو، كنت أذهب إلى تلك الجزيرة كلّ سنة، أستحثّه على الرحيل بحثا عن المسيحيّين. وكان في كلّ مرّة يتردّد مُرْجِئا ميقات الرحيل إلى السّنة الموالية.
وأخيرا تمكّنت من إقناعه. عبرت به خلجانا صغيرة والأنهر الأربعة على الساحل، لأنه لم يكن يستطيع العوم. هكذا مضينا مصحوبين ببعض الهنود قاصدين خليجا عرضه فرسخ واحد لكنّه عميق من كلّ ناحية. فبدا لنا، من خلال ما شاهدناه، أن يكون هو ذاك المعروف باسم خليج روح القدس(5).
اعترضنا على الساحل المقابل هنود أتوا للقاء رجالنا وأخبرونا بأنه غير بعيد من مقامنا يوجد ثلاثة رجال يشبهوننا وذكروا لنا أسماءهم. وعندما سألناهم عن الباقين منهم، أجابوا بأن الجميع لقي مصرعه بسبب البرد والجوع. ثم أضافوا بأنّ هنودا من نفس قبيلتهم، قتلوا دييغو دورانتيس، وفالديفيزو، ودييغو دي هويلفا، من باب تزجية الوقت، لا لشيء إلّا لأنّهم استبدلوا منزلا بآخر. وأفادوا كذلك بأنّ جيرانهم، حيث يقيم القائد دورانتيس قاموا بقتل إسكيفيل ومنديز بسبب حلم في المنام. سألناهم عن الأحياء منهم، فأشاروا إلينا بأنّهم يعيشون في أسوأ حال، لأنّ الأطفال وبعض الهنود المتقاعسين الأجلاف، كانوا ينهالون عليهم صفعا وضربا ليل نهار.
استطلعنا عن وضع البلاد وما يمكن أن توفّره من قوت. فذكروا أنّ المكان قليل السكّان ولا يوفّر ما يكفي من الغذاء، وأنّ الأهالي هناك يموتون من البرد لافتقارهم لجلود الحيوان وكلّ ما يقيهم شدّة القرّ. وأفادوا أيضا بأنا إذا أردنا لقاء المسيحيّين االثلاثة، فإنّ الهنود الذين يعيشون في كنفهم سيحلّون بعد يومين لجني جوز البِقان(6) في مكان على ضفّة النهر يبعد بحوالي فرسخ واحد.
ولكي يؤكّدوا لنا صحّة قولهم بشأن سوء معاملة رفقائنا، انهالوا علينا ضربا ورفسا. راحوا يقذفوننا بالطمي، ويضعون رؤوس سهامهم على صدورنا كلّ يوم متوعّديننا بالقتل بنفس الطريقة التي أجهزوا بها على رفقائنا. ومن جزع، أسرّ لنا لوبي دي أوفيدو بأنه يودّ المغادرة مع بعض نساء الهنود اللواتي عبرن معنا الخليج وظللن وراءنا. أصررت عليه ألّا يفعل، وبذلت قصارى جهدي لإقناعه بالبقاء دون جدوى. هكذا التحق هو بقبيلة ديغوانيس، فيما بقيت وحدي وسط أهالي قبيلة كيفينيس.
الفصل السابع عشر
كيف جاء الهنود مصحوبين
بأندريس دورانتيس وكاستيّو واستيفانيكو
بعد يومين من مغادرة لوبي دي أوفيدو، توافد مُحْتَجِزو ألونصو ديل كاستيّو وأندريس دوانتيس* على حقل جَوْز يقتاتون منه حصريا لمدة شهرين في السنة، مع بعض البذور التي يجرشونها بعد تحصيلها مرّة كلّ عامين. أشجار الجوز هناك وافرة وكبيرة، حبّاتها بحجم حبّات جوز غاليسيا(7).
أشعرني أحد الهنود بأنّ المسيحيّين وصلوا إلى المكان المذكور، وللقائهم ينبغي عليّ الانتظار في غابة صغيرة مجاورة. وأضاف بأنه سيزور أولئك الهنود صحبة بعض أقاربه، ويأخذني معهم إلى المسيحيّين. وثِقْت فيهم لأنهم كانوا يتحدّثون لغة مختلفة عن تلك التي يتكلّم بها الهنود الذين كنت أقيم معهم. عملت بما أشاروا عليّ. وفي اليوم التالي، وجدوني في الموضع المحدّد، فاصطحبوني معهم.
ولما اقتربت من مساكنهم، ظهر لنا أندريس دورانتيس* مستطلعا، لأن الهنود كانوا قد أخبروه بقدوم مسيحيّين. وعندما لمحني أصيب بالجزع، لأنّه قبل بضعة أيام كان يحسبني في عداد الموتى، حسبما أخبره الهنود. فشكرنا الرب الذي قيّض لنا أن نلتقي من جديد. فكان ذلك من أسعد أيّامنا. يمّمنا نحو مكان كاستيّو. فسألونا عن وجهتنا. فأخبرتهم بأننا نرغب في الوصول إلى أرض المسيحيّين، وأنّني ما سلكت هذه الطريق إلّا لبلوغ تلك الغاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يذكر كابيزا دي فاكا اسم الأزموري في عنوان هذا الفصل جنبا إلى جنب مع أسماء نبلاء إسبان دليلا عن جدارته بحريته التي استعادها بفضل الأدوار التي قدمها لرفقائه المسيحيين. يؤكد غودوين هذا بقوله "خلال شتاء 1528 ـ 1529، لأول مرة في تاريخ الأرض الأمريكية الحديثة كسر عبد إفريقي قيده، وأصبح إنسانا في عيون سادته السابقين. خلال ذلك الشتاء ولد أول إفريقي ـ أمريكي" (غودوين: ص222).
أخبرني أندريس دورانتيس أنه منذ أيام وهو يستحثّ كاستيّو وإستيفانيكو للمغادرة. لكنّهما امتنعا عن المجازفة، لأنّهما كانا غير قادرين على السباحة خوفا من مخاطر عبور الأنهار والخلجان الكثيرة في تلك البلاد.
ولمّا شاءت الإرادة الإلهية نجاتي من كلّ الآلام والأوجاع وجعلتني أنعم بصحبتهم، قرّروا الهروب معي ما دمت أستطيع أن أعبر بهم بأمان جميع الأنهار والخلجان التي قد تعترض سبيلنا. هذا وقد ألحّوا عليّ بالتكتّم على ما استقرّ عليه رأينا، وحذّروني من مغبّة إفشاء سرّ خطّتنا للهنود، وإلّا سيكون مصيرنا القتل. وتلافيا لذلك المآل لبثت بين الهنود ستّة أشهر، بحيث سيكون عليهم الانتقال بعدها إلى منطقة أخرى لجني ثمار التين الشوكي. وهي فاكهة بحجم البيض، طيّبة الطعم، سوداء وحمراء اللون يقتاتون منها ثلاثة أشهر في السنة. وفي موسم الجني يلحق بهم هنود آخرون من مناطق بعيدة. يحملون معهم سهاما للمقايضة. وقد خمنّا بأنه حين يغادرون، يمكن لنا مصاحبتهم والهروب برفقتهم.
بهذه النيّة، لبثت هناك. وقد قدّموني عبدا لرجل هنديّ من قبيلة تدعى مريامي، كان دورانتيس يعيش في كنفه. كان أحْوَلًا هو وزوجته وابنه ومرافقه. فيما التحق كاستيّو بقبيلة تدعى إغواسيس.
خلال الفترة التي قضيتها معهم أخبروني بما حدث لهم بعد مغادرة جزيرة النحس. عثروا في الساحل على قارب المحاسب (الونصو إنريكيز) والرهبان الذين جرفهم التيّار. وبعبورهم أربعة أنهار واسعة وجارفة غرق أربعة منهم في عرض البحر. واصلوا الإبحار إلى أن اجتازوا خليجا بشقّ الأنفس. وبعد خمسة عشر فرسخا اعترضهم خليج آخر مات عنده اثنان منهم بعد ستّين فرسخ من الترحال. أما الذين قيّضت لهم النجاة، فكانوا على حافة الموت. لأنّهم لم يتناولوا طوال رحلتهم إلّا نزرا قليلا من سلطعون البحر وبعض الأعشاب البحرية(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كون سيده دورانتيس يستحثه للمغادرة لأيام هو مؤشر على أن نوعية العلاقة بين السيد والعبد تغيرت ولم يعد استيفانيكو يذعن إذعان الخادم. بل شرع يتخذ قراراته الشخصية من أجل البقاء.
عندما بلغوا خليجا صغيرا، وجدوا عنده هنودا يقتاتون من توت العلّيق الأسود. ما أن لمحهم الهنود حتّى انتقلوا إلى الجهة الأخرى من الخليج. ولمّا عزم المسيحيّون على العبور، وفد إليهم أحد الهنود سباحة مصحوبا بأحد المسيحيّين. فكان هو فيغويروا، أحد الأربعة الذين كنت قد أرسلت من جزيرة النحس.
حدثّهم فيغويروا عن كيفية وصوله مع رفقائه إلى ذلك الموضع، وكيف مات اثنان من المسيحيّين وأحد الهنود من شدّة البرد والجوع. لأنّه منذ وصولهم إلى المكان وطيلة الفترة التي قضاها هناك، كان الطقس في أسوأ أحواله. ذكر أيضا بأنّ الهنود أخذوه هو ومنديز. إلّا أنّ هذا الأخير هرب باتجاه بانوكو. لكنّ الهنود لحقوا به وفتكوا به. من جهته، علم فيغويروا إبّان فترة مقامه بينهم، بأن مسيحيّا يقيم مع شعب ميريامي جاء من الجهة الأخرى وقد عثر عليه مع شعب كيفينيس. كان هذا المسيحيّ هو هرناندو دي إسكيفيل، من بلدة باداخوز، الذي التحق بالأسطول رفقة المندوب (سواريز). علم فيغويروا من إسكيفيل ما انتهى إليه مصير الحاكم (نارفايز)، والمحاسب (انريكيز)، ومن كان معهما من الرجال.
أخبره بأن قارب المحاسب والرهبان علق بين الأنهار. ولمّا كانوا يمرّون بجانب الساحل، رسى قارب الحاكم ورجاله على اليابسة. ثم قاد الحاكم قاربه حتّى بلغ خليجا واسعا. وعاد لنقل رجاله إلى الجهة الأخرى. وللمرّة الثانية عاد لحمل المحاسب والرهبان ومن بقي معهم. وحالما نزلوا اليابسة، سحب الحاكم نارفايز صفة نائب الحاكم عن المحاسب ومنحها للمدعو بانتوخا الذي كان قد جلبه معه.
لم ينزل الحاكم إلى البرّ ذلك المساء. بل ظلّ في مركبه صحبة ربّان وخادم مريض. لم يكن يتوفّر على ماء أو طعام. وعند منتصف الليل، هبّت ريح عاتية. ولمّا لم تكن لقارب الحاكم مرساة سوى صخرة، فإنّ الريح جرفته إلى عرض البحر في غفلة من الجميع ومن حينها لم يُسْمَعْ له ذكر.
أما الذين ظلّوا على اليابسة فقد يمّموا جهة الساحل. وبسبب قوّة التيّار لم يستطيعوا صنع طوّافات إلّا بشقّ الأنفس، تمكّنوا بوساطتها من العبور إلى الضفّة الأخرى.
واصل الرجال المسير فبلغوا غابة وجدوا عندها هنودا ما أن لمحوهم حتى حملوا خيامهم على متن زوارقهم وغادروا إلى الضفّة الأخرى من الساحل. أما المسيحيّون، وبسبب من قسوة الموسم وبرودة طقس شهر نوفمبر، فقد قرّروا البقاء في الغابة حيث وجدوا ماء وحطبا وسلطعونا وبعض فواكه البحر. لكنهم سرعان ما استسلموا للموت من شدّة القرّ والجوع.
أخذ بانتوخا، نائب الحاكم، يعامل الرجال بقسوة. لكن سوطومايور، أخ فاسكو بوركالي من جزيرة كوبا، الذي كان قد التحق بالأسطول كقائد ميداني، لم يتحمّل فظاظة بانتوخا، فتشاجر معه، وبضربة عصا أودى بحياته.
هكذا هلكوا تباعا. وصار اللاحقون يقتطعون شرائح من لحم الموتى. وكان آخر الباقين منهم هو سوطومايور نفسه الذي اقتات إسكيفيل من جثّته حتى شهر مارس حين جاء أحد الهنود الذين فرّوا من قبل لمعرفة إن كانوا ما يزالون على قيد الحياة. فاصطحب معه إسكيفيل. ولمّا كان فيغويروا محتجزا هو الآخر لدى نفس الرجل الهندي، فقد تحدّث إلى إسكيفيل وتلقّى منه كلّ الأنباء التي قمت بروايتها الآن. وقد حاول إقناعه بالذهاب معاً باتجاه بانوكو. فرفض إسكيفيل قائلا إنّه علم من الرهبان بأن بانوكو توجد خلفهم، بالاتجاه المعاكس. لذلك قرّر البقاء، فيما عاد فيغويروا إلى الساحل الذي كان فيه من قبل.
الفصل الثامن عشر
ما رواه إسكيفيل
قدّم فيغويروا هذه روايته تلك حسب شهادة إسكيفيل التي وصلتني تفاصيلها عبر سلسلة من الرواة. من خلالها تمكّنت من معرفة مآل الأسطول وما عرض لكلّ فرد من طاقمه.
أفاد فيغويروا أيضا أنّه لو تقدّم المسيحيّون في أنحاء تلك البلاد قليلا لتمكّنوا من لقاء إسكيفيل، لأن فيغويروا كان مدركا بأنّه فرّ من الهنود الذين كان يقيم بينهم والتحق بجيرانهم من قبيلة مرياميس. وكما سلف الذكر، لقد حاول فيغويروا رفقة الراهب الأستوري الذهاب إلى هنود آخرين في مكان أبعد. لكن، عندما اكتشف الهنود خطّتهما، انهالوا عليهما بالضرب المبرح، ونزعوا لباس رفيقه الأستوري واخترموا ذراعه بسهم.
في الأخير، فرّ المسيحيّون وأقاموا مع هنود قبيلة مرياميس الذين اتخذوهم عبيدا. ورغم ما أبدوه من تفان في خدمتهم، فإنّهم تجرّعوا من التنكيل وسوء المعاملة ما لم يتجرّعه عبد من قبل، حيث دأب الهنود على ضربهم وجلدهم وجذب لحاهم تزجية للوقت، كما قاموا بقتل الرجال الثلاثة: دييغو دورانتيس وفالديفييزو ودييغو دي هويلفا، لا لشيء إلّا لأنّهم بدّلوا مسكنا بآخر، كما ذكرت من قبل. فيما ظلّ الثلاثة الآخرون ينتظرون نفس مصير رفقائهم.
ضاق أندريس دورانتيس* ذرعا بتلك المعيشة الضنكى فلاذ بأهالي قبيلة مرياميس، مُقام إسكيفيل، الذين أخبروه عن محاولة هذا الأخير الهرب بسبب امرأة رأت في المنام أنّه يقتل ابنها. لكنّ الهنود قاموا بملاحقته وفتكوا به. وكدليل على ذلك، عرضوا أمام أندريس دورانتيس سيفه ومسبحته وكتاب صلاته وأشياء أخرى من ممتلكاته. لقد كان من عادة أولائك الهنود قتْل أبنائهم بسبب الأحلام، والتخلّي عن بناتهم فريسة للكلاب بدعوى أنّ جميع جيرانهم يناصبونهم العداء. وأنهم يعيشون في حرب دائمة مع أعدائهم. ولو قيّض لهم أن يسلّموا بناتهم للزواج، فإنّ عدوّهم سيصير أكثر نفرا وأقدر على التغلّب عليهم واسترقاقهم. لذا كانوا يفضّلون قتل بناتهم على تركهنّ ينجبن من أرحامهنّ أطفالا منذورين ليكونوا أعداء لهم.
سألناهم لماذا لا يزوّجون بناتهم من أبناء القبيلة. فقالوا إنّه من المشين، في عرفهم، تزويجهنّ لأقاربهنّ. وأنهم يفضّلون قتلهنّ على تسليمهنّ لأقاربهنّ أو أعدائهنّ على حدّ سواء. وهم يشتركون في هذه العادة فقط مع جيرانهم من قبيلة إغواسيس دون القبائل الأخرى. وحين يرغبون في الزواج فإنّهم يشترون زوجاتهم من أعدائهم. ويكون مهر المرأة سهما أو سهمين في أحسن الأحوال. ومن لم يتوفّر على سهم، يقدّم بدلا عنه شبكة صيد بطول قامة. هكذا فهم يقتلون أبناءهم ويشترون أبناء الغير. أمّا رباط الزواج عندهم فلا يدوم إلّا عن تراض، وقد يتمّ فضّه لأتفه الأسباب.
قضى دورانتيس* أيّاما معدودة بين أولئك الهنود. ثم سرعان ما ضجّ منهم ولاذ بالفرار. أما كاستيّو وإستيفانيكو* فتوغّلا بالداخل لدى قبيلة إغواسيس التي يعتبر رجالها من أمهر رماة السهام. أجسامهم قويّة البنية رغم أن قاماتهم أقصر من الهنود سابقي الذكر الذين يجعلون خرما في حلماتهم وشفاههم.
يتألّف غذاؤهم من ثلاثة أنواع من جذور النباتات يجوبون لأجلها أرجاء البلاد. وهي جذور مُؤْذية تملأ بالغاز بطن من يتناولها. تحتاج يومين لشيّـها. أغلبها مرّ. لكن، بسبب الجوع لا يستطيعون البقاء بدونها. يقطعون لجمعها فرسخين مشيا على الأقدام. تارة يقتلون الغزلان، وآونة يصطادون السمك. ومن فرط الجوع يقتاتون من العناكب وبيض النمل والدود والسحالي، والسمندر(9)، والثعابين، والأفاعي الفتّاكة. كما يأكلون التراب والخشب، وكلّ ما تطاله أيديهم، بما في ذلك روث الغزلان وأشياء لا داعي لذكرها. وإنّني لموقن، من خلال ما شاهدته عَياناً، بأنّهم لو وجدوا صخرا هناك لأكلوه. فضلا عن أنّهم يحتفظون بعظام السمك والثعابين وغيرها من الحيوانات لطحنها لاحقا وتناولها مسحوقا.
لا يحمل رجال تلك القبيلة أثقالا ولا يقومون بالأعباء الشاقة. فتلك، في عرفهم، من وظائف النساء والعجزة الذين لا يولونهم اهتماما. كما أنّهم لا يعطفون على أبنائهم مثل عطف أولئك الهنود الذين تحدّثت عنهم من قبل. ناهيك عن أنّ لبعضهم ميولات مخالفة للطّبيعة. أمّا نساؤهم فيكدحن كثيرا. لا يسترحن إلّا ستّ ساعات في اليوم. يسهرن الليل أمام أفران يجفّفن فيها جذور البناتات التي يتّخذنها طعاما. ومع طلوع الفجر يبدأن في الحفر وجمع الحطب وجلب الماء، وإنجاز شتّى الأشغال الضرورية.
بالجملة، أولئك الهنود متسامحون. لكن بعضهم لصوص، ما أن يدير أحدهم ظهره حتّى يسطو ابنه أو أبوه على ممتلكاته. فهم كذّابون مدمنون على السكر. يستعملون لذلك شرابا يستخلصونه من بعض النبات. لا يكلّون من العدْو. تراهم يركضون طوال يومهم وراء الغزلان ممعنين في قتلها. يصرّون على مطاردتها حتّى تخور قواها وأحيانا يقبضون عليها حيّة.
أما مساكنهم فمصنوعة من خيش غليظ يضعونه على أربعة أقواس، يحملونه على ظهورهم عند ترحالهم كلّ يومين أو ثلاثة أيام بحثا عن الطعام. وهم لا يزرعون شيئا ذا نفع.
مع ذلك، فهم شعب مرح، لا يتوقّفون عن الاحتفال حتى في فترات الجوع. تكون أفضل فترات حياتهم حين تنضج ثمار التين الشوكي، فيقضون أيّاما وليالي في الرقص والأكل. ولمّا يتوافر لديهم التين الشوكي، يقومون بعصره وفتحه وتجفيفه. ثم يضعونه في سلال مثل التين، ليكون قوتهم في ترحالهم. أما القشور فيطحنونها ويجعلون منها مسحوقا.
كنّا نقضي بصحبتهم ثلاثة أو أربعة أيّام دون قوت. ولطمأنتنا كانوا يحثّوننا على الصبر على أمل أن نحظى بحصّة من التين الشوكي نأكل منه ونشرب من عصيره حدّ الشّبع. لكن بدءً من اليوم الذي يعِدوننا بذلك حتّى موسم نضوج التين الشوكي كانت أمامنا خمسة أو ستة أشهر من الانتظار والجوع.
ولمّا حان أوان قطاف التين الشوكي، وجدنا أمامنا جحافل من الناموس تعجّ تلك البلاد بثلاثة أنواع منها. وهي شرسة ومزعجة نغّصت علينا فصل الصيف. لكي نقي أنفسنا من لسعاتها المؤذية، أضرمنا حول مخيّمنا نارا كبيرة من خشب فاسد مبتلّ يبثّ دخانا كثيفا دون أن يحترق. وقد كانت هذه الطريقة الدفاعية مصدر ألم جديد لنا، بحيث صرنا نقضّي الليل كلّه بعيون دامعة من فرط الدخان، ناهيك عن الحرارة المفرطة المنبعثة من النيران التي كانت تضطرّنا إلى مغادرة المكان والتماس بعض الراحة على ساحل البحر. وكنّا كلّما نعمنا بقسط من النوم، قام الهنود بِلَكْزِنا كي ننهض لإضرام النار من جديد.
يستعمل هنود الداخل طريقة أسوأ للتخلّص من الناموس. تتمثّل في حمل مشاعل وإضرام النار في السهول والغابات المجاورة لطرد الحشرات وإخراج السحالي وغيرها من تحت الأرض للاقتيات منها. نفس الطريقة يستعملونها لقتل الغزلان إذ يطوّقونها بالنار التي يستعملونها لحرمان الحيوانات من العشب وإكراهها على الذهاب بحثا عن المراعي حسب مشيئتهم. لذلك تجدهم لا يشيّدون مساكنهم إلا حيث يتوافر الخشب والماء. وأحيانا يحملون ما يلزمهم من تلك الأشياء ويجدّون بحثا عن الغزلان التي ترتع في مواضع تخلو من الخشب والماء.
حال وصولهم إلى المكان المقصود، كانوا يشرعون في قتل الغزلان وكلّ ما تطاله أيديهم. ولطهي الطعام يستعملون ما بحوزتم من ماء وخشب. كما يستخدمون النار لحماية أنفسهم من لسعات الناموس. وقد ينتظرون يوما كاملا لصيد طرائد أكثر يحملونها معهم في طريق العودة. وحين يغادرون يكون الناموس قد فتك بأجسامهم التي تبدو كمن أصيب بمرض اليعازر(10). هكذا كانوا لا يشبعون إلّا مرّتين أو ثلاث مرّات في السنة، مؤدّين على ذلك ثمنا باهظا. فمن خلال معايشتي لهم، يمكنني القول بأنّه لا توجد معاناة أو ألم في العالم يضاهيان معاناة هؤلاء الهنود.
تنتشر في هذه البلاد أنواع كثيرة من الغزلان والطيور وغيرها من صنوف الحيوان التي تحدّثت عنها سابقا. كما ترد على المكان قطعان من البقر(11) شاهدتها في ثلاث مناسبات وطعمت من لحمها. وهي بحجم أبقار إسبانيا. ذات قرون صغيرة كقرون الأبقار الموريسكية (المغربية)*، وشعورها طويلة مثل الخروف المريني(12)، بعضها بنّية اللون وأخرى سوداء. لحمها وافر وأطيب من لحم أبقار إسبانيا. من صغارها يصنع الهنود أردية، ومن الكبيرة يجعلون أحذية ودروعا. تنزح من جهة الشمال وتقطع مسافات طويلة داخل البلاد حتّى سواحل فلوريدا. تنتشر على مدار أربعمائة فرسخ ينزلها الأهالي فيترصّدونها في الوديان التي تمرّ بها. فتشكّل بذلك مصدر قوتهم، كما توفّر لتلك البلاد كمّية كبيرة من الجلود.
الفصل التاسع عشر
كيف قام الهنود بتفريقنا
خلال الشهور الستّة التي قضيتها صحبة المسيحيّين، وضعنا خطّة للهرب متحيّنين الفرصة السانحة لتنفيذها. أثناء تلك الفترة، خرج الهنود لجمع التين الشوكي على بعد مسافة ثلاثين فرسخ. وفي اللحظة التي كنّا فيها على وشك الفرار، نشب شجار عنيف بين الهنود من أجل امرأة. أخذوا ينهالون على بعضهم البعض ضربا وجرحا. وفي حمأة الغضب حمل كلّ واحد منهم خيمته وذهب إلى حال سبيله. هكذا قيّض لنا نحن المسيحيّين أن نفترق، ولم يكن أمامنا من حظّ للاجتماع مجدّدا إلّا في السنة الموالية.
قضيت فترة عصيبة من فرط الجوع وسوء معاملة الهنود إذ بلغ عسفهم بي حدّا لا يطاق حتّى أنّني حاولت الفرار ثلاث مرّات. وكانوا في كلّ مرّة يطاردونني مصمّمين على قتلي. لكنّ الربّ كان أرحم بي إذ نجّاني من بطشهم وأنقذ حياتي.
بحلول موسم جني التين الشوكي، تجدّد لقاؤنا في نفس المكان. اتّفقنا على الهرب وحدّدنا لذلك يوما معلوما. لكن في الميقات الموعود، قام الهنود بتفريقنا وأرسلوا كلّ واحد منّا إلى مكان مختلف. أخبرت رفقائي بأنني سأنتظرهم يوم اكتمال القمر الذي صادف الفاتح من شهر سبتمبر وأوّل الأيّام القمرية. وتوعّدتهم إن لم يأتوا في الموعد المحدّد، سأكون مضطرّا إلى المغادرة من دونهم. وعلى هذا الوعد، ذهب كلّ واحد منّا مع قبيلته.
لبثت مع الهنود حتى الثالث عشر من الشهر، وقرّرت الهروب إلى قبيلة أخرى عند اكتمال القمر. يومها وصل أندريس دورانتيس ثم استيفانيكو* وأخبراني بأنّهما تركا كاستيّو مع قبيلة مجاورة تدعى أناغادوس، وكيف عانوا من عسف الهنود حتى أصابهم اليأس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*اجتماع استيفانيكو ودورانتيس مرة اخرى
* استيفانيكو، (دورانتيس، قبيلة أناغادوس). حسب أوفيدو، فرّ دورانتيس أولا. ثم التحق به كاستيو ثم استيفانيكو. رأوا أعمدة دخان من مسافة فاعتقدوا بتواجد كابيزا دي فاكا هناك. فذهب دورانتيس واستيفانيكو للاستطلاع تاركين كاستيو وراءهم لطمأنة الهنود بأنهم سيعودون. (دافيد كارسون، ص 119).
في اليوم التالي توجّه الهنود الذين كنّا بصحبتهم نحو محتجزي كاستيّو، بهدف عقد حلف صداقة، لأنّهم كانوا حتّى ذلك الحين في حالة حرب معهم. بهذه الطريقة استطعنا أن نستعيد كاستيّو.
خلال الفترة التي كنّا نقتات فيها على التين الشوكي، كنّا نعاني من العطش. ولنشفي غليلنا، كنّا نشرب عصير التين الشوكي نكتنزه في حفرة حتّى تمتلئ، فنعبّه حدّ الارتواء. نظرا لعدم وجود آنية، كان الهنود يستعملون هذه الطريقة لاستخلاص وشرب عصير مخمّر حلو المذاق.
هناك أنواع كثيرة من التين الشوكي متشابهة المذاق. بعضها طيّب الطعم، مع أن الجوع لم يكن يترك لي مجالا لاختيار الأفضل منها. يشرب الأهالي من ماء المطر الذي يستجمعونه من مواضع متفرّقة. ورغم توافر الأنهار في بلادهم، فهم، من فرط ترحالهم، لا يملكون معرفة بالينابيع أو بمواطن تجمّع المياه.
تتوفّر تلك الأرض على مروج جميلة ذات عشب غزير يصلح مرعى للقطيع. ويخال إليّ أنّها ستكون أرضا خصبة لو عمّرها وتعهّدها بالعناية شعب حصيف. لم نشاهد فيها جبالا طوال فترة إقامتنا بها.
لقد أخبرنا أولئك الهنود بأنّه على مقربة من الساحل تعيش قبيلة كامونيس، التي قتلت جميع من كان في قارب بينيالوزا وتيليز. كان الرجال من الضعف والوهن بحيث لم تصدر عنهم أية مقاومة تُذْكَرُ عندما أقدم الهنود على قتلهم وتصفيتهم بالساحل دون عناء. كدليل على ذلك، عرضوا علينا بعض ثيابهم وأسلحتهم، وأخبرونا بأنّ قاربهم لا زال مرابطا هناك. كان القارب الخامس المضاع. وقد ذكرت من قبل بأنّ قارب الحاكم (نارفايز) جرفه التيّار في عرض البحر. بينما قاربا المحاسب والرهبان علقا بالشاطئ كما سبق أن أخبرنا إسكيفيل بمصيرهم. أما بخصوص قاربي وقارب كاستيّو ودورانتيس، فقد ذكرت سلفا كيف غرقا بجزيرة النحس.
الفصل العشرون
كيف تمكّنا من الهروب
بعد يومين من انتقالنا، أسلمنا أمرنا للعناية الإلهية ولذنا بالفرار على أمل أن نقتات مما تبقّى من التين الشوكي في الحقول، رغم انتهاء الموسم، لسدّ الرمق مسافة كافية من البلاد. ثم انطلقنا متسلّلين مخافة أن يلحق بنا الهنود. رأينا أعمدة دخان فتوجّهنا نحوها. وصلنا هناك بعد الغروب. لمحنا أحد الهنود نتّجه صوبه فقام وأطلق رجله للريح. فأرسلنا الزنجي* وراءه ركضا. ولمّا رآه الهندي يتقدّم نحوه بمفرده توقّف وانتظره. أخبره الزنجي* بأنّنا نبحث عن أهالي القرية التي ينبعث منها الدخان. فأعلمه بأنّ على مقربة من مصدر الدخان توجد منازل سيقودنا إليها فتبعناه. تقدَّمَنا ركْضا ليُشعر قومه بقدومنا. عند الغروب لاحت لنا بعض المنازل. وبعد قطع مسافة طويلة وجدنا في انتظارنا أربعة هنود مرحّبين. أخبرناهم بلغة قبيلة مرياميس أنّنا كنّا نبحث عنهم. فرحّبوا بنا واصطحبونا إلى مساكنهم. أنزلوا دورانتيس والزنجي* في مسكن أحد كهنتهم، وأنزلوني رفقة كاستيّو في منزل آخر.
يتحدّث هؤلاء الهنود ، المعروفون باسم أفافاريس، لغة مختلفة. وهم نفس الهنود الذين كانوا يجلبون الأقواس لمقايضتها مع القبيلة التي كنّا نقيم فيها. ورغم أنّهم من قوم يتحدّث لغة مغايرة، فإنّهم كانوا يفهمون بعضهم البعض. كانوا قد وصلوا بخيامهم في نفس ذلك اليوم.
قدّموا لنا الكثير من ثمار التين الشوكي، لأنهم كانوا قد سمعوا عن سيرتنا وعلاجنا للناس وعن المعجزات التي اجترحها الرب على يدنا. ورغم أنّه لم تظهر إشارات أخرى، فإنّنا نحمده لأنّه عَبَّد لنا سبلا في تلك الأصقاع الموحشة، وقيّض لنا أقواما في مجاهل خالية. نشكره لأنّه آمنَنا من خوف، وأنقذنا من موت، وأطعمنا من جوع، وسخّر لنا من يحسن معاملتنا ويكرم وفادتنا، كما سنأتي على ذكره لاحقا.
الفصل الواحد والعشرون
كيف عالجنا بعض المرضى
ليلة وصولنا هناك، جاء بعض الهنود إلى كاستيّو يشتكون من ألم في الرأس يطلبون علاجهم. وما أن رسم أمامهم علامة الصليب ملتمسا لهم الشفاء من الربّ حتّى أعلن الهنود أنّ الألم قد زال عنهم. فرجعوا إلى مساكنهم ثم جاءوا بكمّيات من التين الشوكي وبشرائح من لحم الغزال لم نتعرّف عليه بداية. انتشر الخبر في نفس الليلة، فتردّد على كاستيّو مزيد من المرضى طلبا للعلاج، حاملين قطعا كثيرة من لحم غزال لم نجد مكانا يتّسع لتخزينها. شكرنا للربّ غامر لطفه. وما أن تعافى الجميع حتّى شرعوا في الاحتفال والرقص حتّى الفجر.
احتفل الهنود بمقدمنا ثلاثة أيّام متتالية. وعندما أتمّوا احتفالهم، سألناهم عن البلاد المجاورة والشعوب التي تقطنها ونوع الغذاء الذي يتوافر فيها. فأجابوا بأنّ تلك البلاد غنيّة بالتين الشوكي، وأنّها خالية في تلك الفترة، لأنّ جميع سكّانها رحلوا بعد انتهاء موسم القطاف. فضلا عن أنّها باردة ولا توفّر جلودا تقي من شدّة البرد. لدى سماع ذلك، قرّرنا قضاء فصل الشتاء بصحبتهم.
بعد مرور خمسة أيام من وصولنا، غادروا منازلهم لجلب مزيد من التين الشوكي من قوم آخرين يتحدّثون لغة مغايرة. رافقتهم لخمسة أيّام أخرى عانينا فيها الجوع بحيث لم نلق في طريقنا ثمارا أو تينا شوكيا. بلغنا نهرا نصبنا خيامنا جواره، ثمّ شرعنا في البحث عن ثمار شجرة أشبه بالبازلاء. ولمّا كانت الدروب شائكة، فقد تطلّب مني الحصول على بعض من تلك الثمرة وقتا طويلا. ونظرًا لتخلّفي عن الركْب، فقد غادر أصحابي بدوني. وعندما حلّ الليل، حاولت الالتحاق بهم فضللت الطريق. وبفضل العناية الإلهية عثرت على شجرة أضرمت من أغصانها نارا وقضيت الليلة قربها اتّقاء البرد. وفي الصباح، احتطبت خشبا وعودين سريعي الاشتعال، ثم واصلت رحلتي بحثا عن الهنود.
أمضيت خمسة أيّام حاملًا كومة حطب ونارا مخافة أن تنطفئ الشعلة حيث لا يوجد حطب. كثيرة هي مناطق تلك البلاد التي لا يوجد بها خشب. هكذا صرت متأهّبا في كلّ حين لإضرام النار كوسيلة وحيدة لمقاومة البرد لأنّني كنت عاريًا كيوم ولادتي.
في الليل كنت أتدبّر حالي بهذه الطريقة. أتوجّه قبيل غروب الشمس نحو غابة قرب الأنهار. أحفر حفرة أضع فيها حطب أشجار مختلفة. أجمع خشبًا جافًّـا أجعل منه أربع كومات متشابكة أوزّعها حول الحفرة وأحرص على تحريكها بين الفينة والأخرى. ثمّ أشكّل حزما من العشب الطويل المتوافر هناك وأتغطّى بها داخل الحفرة اتّقاء برد الليل.
لكن، ذات ليلة سقطت نار على القشّة التي أتغطّى بها خلال منامي داخل الحفرة. فاندلعت بسرعة. ورغم أنّني هرعت من مرقدي بأقصى سرعة، فإنّني لازلت أحتفظ بعلامة في شَعَري من أثر تلك الحادثة الخطيرة. طيلة تلك المدّة لم أتناول طعاما، ولم أجد ما أسدّ به رمقي. فيما كانت قدماي الحافيتان تنزفان دما. لكن، بفضل من الربّ لم تهبّ ريح الشّمال الباردة طوال تلك الفترة، وإلّا لكنت من الهالكين.
مساء اليوم الخامس. بلغت ضفّة النهر، وهناك التقيت بالهنود الذين كنت أبحث عنهم. فقد ذهب بهم الظنّ، شأن المسيحيّين، أنّني مُتُّ من عضّة أفعى. ابتهج الجميع لرؤيتي، وخصوصا رفقائي المسيحيّون الذين أخبروني بأن معاناتهم من الجوع دفعتهم إلى الرحيل دون انتظار عودتي. في تلك الليلة تقاسموا معي ما تيسّر لديهم من التين الشوكي. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى مكان تتوافر فيه ثمار الشجرة المذكورة. فأكلنا منها حدّ الشّبع. وحمدنا الربّ على دوام نعمته.
اقرأ أيضا: