مفهوم التقنية.. تساؤلات حول التقنية بين الأمس واليوم
وقد عكست الأساطير الأولى للبشرية مند العصور الأولى عصور الحديد والبرونز والأدوات الأولية، رغبة الإنسان في التحكم في هذه الظواهر الطبيعية، كانت الأساطير الإنسانية الديناميكية الكبرى تعبيرا عن هذه الأحلام التي ستحققها التقنية بعد عشرات القرون. فقد مثلت “بابل” أسطورة آلة الترجمة، و“إيكاروس″ أسطورة الطيران، و“بروميتوس″ أسطورة الطاقة، و“الغوليم” Golem أسطورة السيبرنتيكا،… إلخ.
إذن فالإنسان منذ العصور القديمة اخترع مجموعة من الأدوات والتقنيات من أجل التحكم في الظواهر الطبيعية، ونفس الأمر نستشفه من تعريف لالاند في موسوعته الفلسفية (ص 1429) للتقنية حيث يقول التقنية “هي مجموعة طرق محددة بدقة وقابلة للتوصيل، مخصصة لإحداث بعض النتائج المعتبرة والنافعة”، ويعني هذا التعريف كل إنتاجات الأشياء المختلفة “الأدوات، الآلات…” التي لا تستطيع الطبيعة إنتاجها بذاتها، وينتجها الإنسان بغية تسخير الطبيعة له، ونفس الأمر دفع الفيلسوف الألماني هيدغر إلى التساؤل في كتابه “التقنية-الحقيقة-الوجود”، ترجمة محمد سبيلا وعبدالهادي مفتاح الصفحة 53 عن معنى كلمة التقني، التي تنحدر حسبه من كلمة يونانية أخرى هي “تينيكون” وهي الشيء الذي ينتمي إلى التقنية، ولفهم هذه التقنية حسب هيدغر علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين:
الأولى: أن التقنية لا تعني فعل الصانع وفنه فقط، بل تعني كذلك الفن والفنون الجميلة، فالتقنية حسب هيدغر جزء من فعل الإنتاج.
الثانية: فكلمة التقنية حسب هيدغر نجدها أيضا أكثر أهمية في حدود فترة أفلاطون، بحيث كانت كلمة “التقنية” مرتبطة دائما بكلمة “إبيستينون” وهي تعني العلم أو المعرفة، والاثنان حسب هيدغر اسمان للمعرفة بالمعنى الأوسع، فهما يعنيان فعل القدرة على الاهتداء في شيء ما، والتعرف إليه، تقدم المعرفة إنتاجات عن نفسها، وبما هي كذلك فهي “انكشاف”.
أما أرسطو حسب هيدغر في كتابه “الأخلاق إلى نيكوماخوس″، فيميز بين المعرفة والتقنية. وذلك من حيث ما يكشفانه والطريقة التي يكشفان بها، إن “التقنية هي شكل من أشكال الآليتيا” -التقنية-الحقيقة-الوجود-، بمعنى حسب هيدغر تكشف هذا الذي لا ينتج ذاته، وليس بعد أمامنا، وهو ما يمكن أن يأخذ مظهرا أو هيئة، ويأخذ كذلك مرة أخرى شكلا آخر.
بل إن التقنية بدأت بالتدريج تتخذ صورة تحقق فعلي لما كان السحر يحلم به ويعد به، وكلما تقدمت التقنية بدا وكأنها قد حلت محل السحر في طي الأمكنة وتقليص المسافات، وتحويل المواد والتأثير عن بعد… إلخ.
والحال أن التحول الذي حدث في تاريخ البشرية في هذا الصدد هو ظهور العصر العلمي التقني Scientifique-technique بداية من القرن السابع عشر ميلادي، وقد ارتبط ظهور هذا العصر بثلاث نقاط أساسية:
أولا: الانفصال التدريجي الذي حدث بين العصور الوسطى وبديات العصور الحديثة على مشارف القرن الخامس عشر، وهو الانفصال الذي تميز في أوروبا اقتصاديا مع بداية نشوء الاقتصاد الرأسمالي.
ثانيا: نشأة البورجوازية ونشوء المدن الكبرى، وتبلور مكانة وعي الفرد بذاته.
ثالثا: انتقال المشروعية السياسية من المشروعية الدينية إلى المشروعية المؤسسية.
رابعا: تبلور العقلنة والنزعة الإنسانية.
وفي نشأة هذا العصر لم تعد هناك معرفة خالصة بظواهر الطبيعية “لم يكن العلم المعاصر مند نشأته في مطلع العصور الحديثة مجرد معرفة خالصة بظواهر الطبيعية، فقد امتزجت المعرفة فيه دوما بالحاجات العلمية، مما جعله منذ البداية يرتبط بالقدرة والقوة والتقنية”. كل هذا ساهم في تغيير نظرة الإنسان إلى الطبيعة بحيث “لم تعد الطبيعة ذلك الديكور الجميل الذي يدخل البهجة في النفوس، بغض النظر على فائدته، بل أصبحت علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة نفعية، استخدامية وسائلية وأداتية، حولت كل جمالات الطبيعة إلى أشياء قابلة للاستخدام والانتفاع″ (محمد سبيلا، في الشرط الفلسفي المعاصر، ص 111).
والمقصود بمصطلح “العصر العلمي التقني” تلك الفترة التي حدث من خلالها تحول معرفي أساسي تمثل في الانتقال التدريجي من الفكر التأملي الكيفي إلى الفكر التقني الكمي والمنهجي، وتخلي العلم الطبيعي عن البحث في الكيفيات والماهيات والغائيات واقتصاره على معالجة الطبيعة رياضيا وتقنيا. “لقد كانت مناظر الطبيعة، وخيراتها، ومناهجها، غاية في ذاتها، لكن مع ظهور الثورات العلمية، التقنية التي ازدهرت في شمال الكرة الأرضية منذ ما يدعى بالعصر العلمي التقني (القرن الثامن عشر)، أخذت العلاقة بين الطبيعة والتقنية تتغير بالتدريج”. وفي نفس السياق نجد “فلسفة غاليلو” التي مثلث هذا التحول المعرفي الذي حدث على مشارف العصور الحديثة من خلال كتابه “الحوار حول نظامين” حيث يقول غاليلو “إن الفلسفة المكتوبة في هذا الكتاب الواسع المفتوح أمام أعيننا، أقصد الكون الذي لا يمكن قراءته إلا بعد تعلم اللغة والاستئناس بالحروف التي كتب بها، واللغة التي كتب بها الكون هي لغة الرياضيات، وحروفها هي المثلثاث والدوائر والأشكال المنسية الأخرى”. (محمد سبيلا، في الشرط الفلسفي المعاصر ص: 73).
فالإنسان في هذه الفترة من خلال إيمانه بالمعرفة العلمية القائمة على نظرة رياضية للطبيعة والكون، لم تعد تهمه معرفة الأشياء كما هي أو بلغة كانط “الأشياء في ذاتها”، بل كما تبدو له وتتماثل له مع وعيه، أي كظواهر قابلة للرصد والتجريب واستخلاص النسب والعلاقات والقوانين القابلة للحساب رياضيا، أي كظواهر يمكن التحكم فيها، وامتزاج العلم بالتقنية، وخضوعه لها جاء لاعتبارات الاختيار والإنجاز والتطبيق والمنافع والمردودية على حساب المعرفة الماهوية الخالصة.
لقد انضوت في التقنية جملة من الإرادات في العصر العلمي التقني كما يقول الأستاذ محمد سبيلا في كتابه الحداثة وما بعد الحداثة، من قبيل إرادة المعرفة وإرادة السيطرة؛ فإرادة المعرفة التي لم تبق عند حدود المعرفة الخالصة، بل لازمتها إرادة تحرر من عسف الطبيعة وحتمياتها، ومن عسف السيطرة الاجتماعية ذاتها. أما إرادة السيطرة فهي تتمثل في السيطرة المزدوجة على الطبيعة وعلى الإنسان داخليا وخارجيا بالمعنيين السيكولوجي والسياسي لهذين البعدين. فالتقنية طالت العلم وطالت مجال العلوم الإنسانية والثقافة العامة، من خلال احتذاء هذين الأخيرين للنموذج العلمي، فرسمت لنفسها مسارا استراتيجيا متميزا وذكيا تمثل في المزاوجة بين السيطرة على الطبيعة من خلال الإنسان.
وللتقنية كذلك مخاطر عديدة تتمثل في تلويث البيئة وإلحاق الخلل بالتوازن البيئي وتعديل النظام العالمي البيئي، ومخاطر اجتماعية تتمثل في تهيئة وتوفير أسباب العنف بتوفير وسائله سواء تعلق الأمر بحروب كبرى بين الدول أو بحروب داخلية بين الفئات والأفراد.
فبذكرنا لمخاطر التقنية ومساوئها لا يعني أبدا إغماض العين عن هذه المكاسب الجمة التي حققتها للإنسان. فقد حققت هذه الفلسفة “الفلسفة الجديدة” كما يسميها أتباع بيكون، عددا لا يحصى ولا يعد من الانتصارات والمكاسب “لقد أطالت العمر وخففت المرض، وزادت من تخصيب الأرض، وزادت من أمن الفلاح، وقدمت أسلحة جديدة، وأقامت عبر الأنهار والبحار قناطر لم يعرف أجدادنا مثلها، وقادت الرعد بسلام من السماء إلى الأرض، وأنارت الليل بمثل ضياء النهار، وزادت من رؤية البشرية، وضاعفت قوة العضلات، وعجلت حركاتنا، ومحت المسافات، وسهلت التخاطب والتراسل في دائرة الأعمال وبين الأصدقاء، بها نزل الإنسان إلى أعماق البحر، وارتفع في طبقات الهواء، وتغلغل في أطراف الأرض المخيفة وجاس أرجاءها في عربات لا تجرها الخيل، وضرب في البحر سفائن تسير بسرعة ضد الريح.
كما أن للتقنية أوجها مختلفة يمكن صياغتها على الشكل التالي:
• التقنية أداة ترويض الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان.
• التقنية أداة تحرر من إكراهات وحتميات الطبيعة.
• التقنية أداة سيطرة سياسية داخل كل دولة، وفي ما بين الدول، فهي الأداة الأساسية للاستعمار القديم والجديد والإمبريالية.
وانطلاقا من هذا العرض التاريخي للتقنية، وكيفية تبلورها في العصر العلمي التقني، فإن عصرنا هذا هو عصر أنشبت فيه التقنية أظفارها من خلال طغيانها على الوجود بأسره، وشهدت فيه تطورات مذهلة “تجعلها أقرب إلى السحر منها إلى العلم” (محمد سبيلا، في الشرط الفلسفي المعاصر 115)، مما جعل مجموعة من الفلاسفة المعاصرين تتساءل عن سر هذه التقنية مع كل من مارتن هيدغر وهاربرت ماركوز وهابرماس وغيرهم كثير…إلخ.