منمنمات كيليطو
اشتهرت المخطوطات التراثية بالرسوم والصور المزخرفة أي المنمنمات؛ وهو فن عظيم يحتاج إلى دراسة تاريخية في آثاره القيمة وبقاياه المادية واللامادية من حياة الإنسان القديم. بعناية شديدة، اختار عبدالفتاح كيليطو منمنماته ورصّها بدربة في كتاب تقدّمت عنوانه كلمة أركيولوجيا بما تحمله من دلالات علمية، تعنى بالمجتمعات والثقافات البشرية الماضية. نتحدث هنا عن كتاب نشره كيليطو باللغة الفرنسية عام 2012 ليصدر مترجما إلى اللغة العربية للمرة الأولى عام 2015 ضمن أعماله الكاملة في جزئها الخامس “مرايا” تحت عنوان “أركيولوجيا: اثنتا عشرة منمنمة”.
يجد القارئ للمنمنمة الأولى نفسه أمام “لوحة” لها بعد رمزي ولا تأبه للمُشاهد، تفاحة على ركنها سنجاب أو شويطن أو بالأحرى طائر يتصوره كيليطو غير آبه لعذابات آدم وسيزيف، يقول إن آدم ذاق الفاكهة المحرمة وسيزيف خادع الموت.
آدم أول إنسان وفقا لقصة بدء الخلق في الأديان الإبراهيمية، إنه يمثل العصيان والسقوط والاختبار؛ لكن آخرين يدرجونه ضمن أسطورة الخلق. أما سيزيف فيعد أحد أكثر الشخصيات مكرا في الميثولوجيا الإغريقية، هو ابن أيولوس ملك ثيساليا وإيناريت. لقد خدع سيزيف ثناتوس إله الموت الذي جاء ليسوقه إلى عالم الموتى بأن قام سيزيف بتكبيله. في منمنمة كيليطو هو “الكائن الفاني الوحيد الذي أنجز هذه المأثرة الخارقة: مخادعة الموت، إيقاعه في الفخ، إلجاؤه إلى العجز”. لقد أغضب سيزيف زيوس، كبير الآلهة، فعاقبه بحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه وعندما كان يصل بها إلى القمة تتدحرج إلى الوادي ثم يعود إلى رفعها ويظل هكذا إلى الأبد، ليصبح رمزا للعذاب الأبدي.
يعتبر كيليطو سيزيف رجلا ذا حيلة بلغ من الحيلة أن الإخباريين اليونان القدماء زعموا أنه والد أوديسيوس، هنا يبادر القارئ باحثا عن قصة هذا الابن، أوديسيوس ملك إيثاكا الأسطوري، الذي ترك بلده لكي يكون من قادة حرب طروادة وهو صاحب الحصان الذي بواسطته انهزم الطرواديون، الحرب التي من أسباب نشوبها خلاف بين الربات الثلاث هيرا وأفروديت وآثينا حول الأجمل بينهن واحتكامهن إلى أول غريب يرينه والذي كان هو الراعي الشاب باريس، حينها طلبن منه أن يحكم بينهن بإعطاء تفاحة للأجمل من بينهن، وللحصول على التفاحة أغرته هيرا بالسلطة وأغرته آثينا بالحكمة والمجد وأغرته أفروديت بمنحه أجمل نساء الأرض، ففضل الأخيرة عليهن وأعطاها التفاحة ليغضب بذلك الربتين الأخريين. وقام باريس بخطف هيلين الطروادية، ملكة أسبرطة وزوجة منيلاوس الذي جمع أسطولا قوامه ألف سفينة أبحر به إلى طروادة لتأمين عودة هيلين.
بين آدم وسيزيف يتساءل كيليطو “بنفس لون التفاحة، زهرة. وبالتمعّن، هذه الزهرة وجه. أيُّ وجه؟”.
في منمنمة أخرى تحمل عنوان “الرداء الأسود”، يظهر تناتوس إله الموت عاجزا مرة أخرى، مكبلا هذه المرة نفسه بأن لم يقدر على أن يسوق المينوتور إلى مقر أرواح الموتى لأنه كان يهاب استحالة الخروج من المتاهة والبقاء فيها سجينا إلى الأبد.
ساخرا كتب كيليطو “آنئذ هبّت عن الآلهة ضحكة مجلجلة”. المينوتور في الميثولوجيا الإغريقية مخلوق نصفه رجل ونصفه الآخر ثور، أنجبته زوجة الملك مينوس عندما أقامت علاقة مع ثور، فبنى مينوس قصرا عبارة عن متاهة بممرات معقدة وسجن فيه المينوتور وكان يضحي له كل سنة بسبعة شباب وسبع عذارى. ولقد تمكن تيسيوس، ابن أحد ملوك أثينا، من قتل المينوتور والهروب من المتاهة بمساعدة من أريادني، ابنة الملك مينوس، التي أحبته وأعطته كرة من الخيوط نشرها في طريقه إلى داخل المتاهة وتعقبها ليخرج منها؛ لكن تيسيوس كان جاحدا كما وصفه كيليطو في منمنمته، إذ ترك أردياني في جزيرة مهجورة.
ووفقا لهوميروس الشاعر الملحمي الإغريقي فقد قتلت أردياني على يد الإلهة أرتميس بطلب من ديونيسوس الذي وجدها في جزيرة ناكسوس حيث تركها حبيبها الجاحد نائمة. ننتقل إلى ارتياب جنيّ من نوع آخر، فلا شويطن يجاور التفاحة في منمنمة “ظلمة”، إنما يأخذنا كيليطو إلى بلد قاصٍ، شبيه ببلدان ألف ليلة وليلة حيث يسأل الناس بعضهم بعضا عندما يتصادفون إن كانوا من الإنس أم من الجنّ. ويدخلنا إلى أرض الظلمة، عبر فقرة غامضة من رحلة ابن بطوطة، فنقرأ عنده ما رواه هذا الأخير “فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد فإذا كان من الغد عادوا لتفقّد متاعهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذوه وإن لم يرضه تركه فيزيدونه…”، فلا شيء عند كيليطو يمكن معرفته عن أهل أرض الظلمة، يتعاملون بنظام المقايضة وبالتواصل الصامت بلا كلمة تدور أو وجه يلمح، فتبقى هويتهم غير محققة. إنس أم جنّ؟ يتساءل ابن بطوطة ويتساءل معه كاتب منمنمة ظلمة قائلا “هل هم أنصاف دواب وأنصاف بشر، مثل قوم يأجوج ومأجوج، الذين حبسهم الإسكندر ذو القرنين في جبالهم، كما يروي القرآن، ببناء سدّ منيع؟”.
ربما يقود البحث في هذا الموضوع القارئ إلى منمنمة فارسية تظهر ذا القرنين وهو يبني جدارا حديديا بمساعدة الجن لعزل يأجوج ومأجوج.
تتقاطع قصص الغدر في منمنمة أخرى من منمنمات كيليطو الاثنتي عشرة؛ فالعنوان “أوزيريس” وحده في انفصاله عن جسد النص يبوح بحكاية من الأسطورة المصرية القديمة، تقول إن “ست” الشرير قتل أخاه أوزيريس غدرا ثم قطع أوصاله وألقاها في أنحاء متفرقة من نهر النيل، وسعت زوجته إيزيس إلى تجميع أشلاء جسده ثم معاشرته لتحمل منه بابن هو الملك حورس إله الشمس الذي انتصر على الموت آخذا بثأر أبيه من عمه واهبا لوالده أوزيريس الحياة الأبدية.
مآل أوزيريس كان مختلفا وإن تشابه مع ما حصل للوزير الكندري وزير السلطان السلجوقي طغرل بك، الذي انتهز فرصة إرساله لخطبة أميرة خوارزم للسلطان ليأخذها لنفسه، فكانت عقوبة الوزير في إحدى الروايات تقطيع جسده ودفنه في أماكن مختلفة، إذ أريق دمه في مرو الروذ، ودفن جسده بقرية كندر، وجمجمته ودماغه بنيسابور، وعضوه التناسلي بكرمان. ووقف المؤرخون والرواة عند مصيره دون أن يذكروا ما حل بأميرة خوارزم؛ ما دفع كيليطو إلى السؤال عن مدى إمكانية سعيها إلى جمع أشلاء الكندري المنثورة في العالم، هل كما فعلت إيزيس مع أوزيريس؟ يتساءل القارئ هذه المرة.
في المنمنمة نفسها يذكر أيضا قصة عشق شهيرة وغدر مماثل، إنها تخصّ تريستان الشاب اليتيم الذي أرسله عمه مارك ملك كورنال في ألمانيا إلى أيرلندا ليطلب يد الأميرة إيزولدا الفاتنة للزواج من هذا العم؛ لكن في طريق العودة إلى ألمانيا يقع الشابان في حب بعضهما، بفعل شراب محبة سحري كسر بينهما كل العوائق. تريستان وإيزولدا الحبيبان اللذان ألهمت أسطورة حبهما الخالد الفنان والكاتب الألماني ريتشارد فاغنر، جاعلا منها معزوفة موسيقية من أروع المعزوفات في تاريخ الأوبرا.
يورد كيليطو في منمنمته “أوزيريس” ذاتها عبارة من كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم تقول “في أمور الحب لا ينبغي التقصير في الحذر من الرّسول”.
وربما كذلك يفعل كيليطو في أمور الأدب، غير مقصر في الحذر من الإخباريين.