من أنا؟
رغم كل هذه الأجواء القاسية إلا أن هذا المشهد لا يزال يقطع أنفاسي.
يمتد هذا اللون أمامي لمساحات هائلة، وبالكاد أستطيع تمييز الفروقات الباهتة في النهار، أما الليل، فأمر آخر كلياً، إذ تصبح نظراتي معلقة بالسماء، بهذه النجوم المذهلة في الليالي الصافية، وهذه الألوان التي لا بد أنها قادمة من الجنة. كل شيء هادئ، حتى هذه الرياح في الأيام السيئة، يمكنني الإنصات إليها مطولاً، لأسمع أسراراً أحاول فك شيفرتها.
لم أكن لوحدي منذ زمن طويل، ولم أشعر بهذه الوحدة قبل الآن. أقف أمامهم، أتنفس بصعوبة، أنظر بإمعان، وأنا أصعد عالياً، لن يجدي أن أمد يدي، أو أنادي عليهم، بأسمائهم، بإسمي المفقود، لربما لم أعد أتذكر إسمي.
قبل الآن، منذ عشر سنوات، ربما، أو أكثر، كيف لي أن أتذكر متى! كانت رحلتي الرابعة إلى قارة الثلوج، مع دفعة جديدة من العلماء، لأساعدهم على الاستقرار في مقر البعثة، ولمدة ثلاث أسابيع، أدربهم على مهارات النجاة في هذه الظروف القاسية، رغم وجود جزء من فريق متمرس في القاعدة. أعرف المنطقة جيداً وأجيد التعامل مع الأزمات، كل هذا لا يهم، ما يهم هو ذلك المكان الذي بدأ فيه كل شيء.
دائماً ما كانت الأساطير تولد من عدم فهمنا لحدث ما، ولأن العالم غامض بشكل لا يصدق، ولأننا عاجزون عن مواكبة أبسط ظواهره، كانت دائماً الأسطورة أو الخرافة، مهرباً شرعياً لنكف عن المحاولة، أقله، لنبرر عجزنا عن الفهم.
تركت زوجتي في المطبخ ولم أقبّلها قبل ذهابي في ذلك الصباح، أظنها شعرت بالملل فكفت عن مرافقتي للمطار، لكثرة أسفاري. لكنني اعتدت على تقبيلها أسفل رقبتها كنوع من التبرك ومنحي الحظ، فأترك قبلتي على بشرتها كقلادة غير مرئية. نسيت فعل ذلك، أو أنها قررت عني، لتشعرني بحاجتها لبقائي معها. تمنيت لو أنني فعلت، أقصد بقائي لا القبلة.
أنتظر ذهابي إلى القاعدة كل عام، لأحظى بهذه المتعة الفائقة من صفاء الذهن، والانبهار الذي لا يزول، فمشهد الجليد الممتد إلى ما لا نهاية، وهذه الأضواء في السماء، “أرورا” كما يفضل البعض تسميتها، تذهل عقلي، فيصبح كل شيء سماويا حقاً، ولا أقصد سماءنا، بل أبعد من ذلك، كرؤية لنبي منفي، أحزن في كل مرة يحين فيها موعد مغادرتي المكان لأنتظر انتهاء فصل الشتاء في المدينة وزحامها. أحب زوجتي بالطبع، لكنني أفضل ذلك الفضاء على كل شيء.
كنت متعلقاً برحلات الصيد عندما كنت يافعاً، ولا أنكر أنني تعلقت بالصحراء أيضاً، بل زرت الكثير من البلدان لأنعم بهذا السلام الذي تمنحه لي تلك الأماكن المفتوحة، الممتدة، التي لم تتأثر بحضورنا وربما لن تفعل. أما علاقتي بالبحار، فلا أشعر بأنها تشبه ذلك، بل هي مزدحمة كالمدن في داخلها، لا نرى منها إلا مقدار ما نبحر فيه.
الرابعة والنصف، فجراً، في مكان لا تغيب عنه الشمس لمدة طويلة، لكنني وصلت في تلك الفترة للاعتدال الخريفي، لنحظى ببضعة أسابيع شبه طبيعية! أحصل على ما أريد. رحلتي لبضعة كيلومترات بعيداً عن مقر البعثة وتجوال لبضعة مئات من الأمتار بعيداً عن عربتي. شهيق عميق وزفير عميق، ثم السكون، والتأمل بما حولي. لا أبحث عن دهشة، أو التباس، بل عن هذا السلام الذي يهبط أو يولد، أو يضيء داخلي.
تريد زوجتي أن أكف عن الهرب، وأن تحصل على عائلة، طفل أو أكثر، ليتها تعلم أنني أريد ذلك أيضاً، بل أخشى أنني لن أحصل عليه أبداً. انتظرت كفاية، لأجمع المال، وأهيئ نفسي لحياة مشتركة، لمعركة جديدة.. عائلة، أطفال.. عالم منهك ومستقبل قلق.
لا أعلم، لكنني أخبركم القصة، وهذا يعني أنني أكسر الحاجز الوهمي بين الراوي والقارئ، أم أنني أسرده بصوتي!
يمكنكم اختيار أي صوت، وأي طبقة صوتية، بل يمكنكم اختيار الشكل ايضاً، فهذا جزء من القصة. لأحدثكم أكثر، عليكم أن تنصتوا جيداً، دعوا مخيلتكم تختار بهدوء، ودون أي ضغوط كانت.
لوحة: يوسف عبدالكي
صحوت على صداع هائل، يكاد يمزق رأسي، ثم أن الطقس يحاصرني لدرجة أن الذباب كان جزءاً من مؤامرة سياسية كبيرة، فكنت ضحية الصحراء التي أحببتها يوماً.
لا ليس هذا ما حدث، فإفريقيا ليست صحراء كلياً، بل بعض أجزائها، كنت هناك. إذاً، صداع وأنفاس متقطعة، الكثير من العرق وامرأة سمراء البشرة في فراش وجدت نفسي فوقه. لحظة رعب حقيقية.
نظرت الي المرأة بعطف، لكن بفزع أيضاً. ربما كان وجهي مخيفاً إلى هذه الدرجة، لكنني أعرفها، أعرف اسمها، مذاق شفتيها، رائحة بشرتها بعد يوم طويل من العمل في المستشفى، هي ممرضة، وأنا أيضاً ممرض!
أخذت تهدئ من روعي، تقبلني على جبهتي وهي تحتضن جسدي، كنت أرتعش، لا لم أكن كذلك، لكنني خشيت من نفسي عندما أخبرتها أن تجلب لي الماء، بصوت مختلف، ولغة أخرى، ثم بدأت ملامح وجهها بالتغير، عدت لأتحدث بلغتي، لأسألها ما الذي حدث وكيف وصلت إلى هذا المكان. كان صراعاً مرعباً بين الأسئلة والأجوبة أيضاً في رأسي، فتارة أسألها، كأنا، ثم أسألها كهو! خرجت من الغرفة، من الشقة البسيطة إلى الشارع، أنا في مكان ما من مدينة إفريقية، أين الجليد، أنا ممرض، بل رجل أمن متمرس، كيف يعقل هذا!
جلست على الأرض، وأخذت أنظر حولي، غير مهتم لنداء زوجتي، حتى وصلت إليّ وطلبت مني الدخول إلى الشقة مجدداً، نصف عار.
مر الوقت، أظنني صرفت عدة شهور، كالنقود، كنت أصرف الأيام، بانتظار شيء ما ليحدث، لكن انتظاري لم يكن يأتي بأي نتيجة، أعيش كرجل إفريقي في النهار، وتطاردني كوابيس رجل من قارة أخرى في الليل.
لم تكن لتعرف طريقة تعاملي بها، أقصد أن تعامل الرجل الغريب، صاحب الكوابيس، لكنها ولسبب أجهله، حافظت على هذه العلاقة، رغم تمنّعي عن لمسها طول هذه الشهور، فيكفيها أنني أعمل بشكل مضاعف وأصرف كل ما أجنيه عليها وعلى أطفالي الصغار. كانوا ثلاث أطفال، سبع سنوات للفتاة وتسع لأحد الفتيان والأخير بالعاشرة، حسب ما أذكر.
كدت أستسلم. أن أقبل هذه الحياة، فأكنّ العاطفة لهذه المرأة، وأتخلى عن أحساسي بالشفقة تجاهها. أتعرّف على الأطفال، ألاعبهم، أمسك وجه الطفلة وأرى الشبه الذي يجمعني بها. كدت أستسلم، عندما شعرت بدوار للحظات، ثم رأيت وجه امرأة أخرى، ملامح القلق ظاهرة والتماعة عين تكاد تذرف الدمع.. أظنني أعرفها، أعرف مذاق بشرتها، دفء قبلاتها، أصابع يدها.
كنت أغرق، أنفاس متقطعة، الماء الثقيل يشدني للأسفل، أم أنني لم أكن أغرق، بل أغوص عميقاً، لأبحث عن شيء ما!
رأيت نفسي وأنا أقفز من القارب الصغير، لكنني لم أتمالك أعصابي فبدأت بالغرق. كان قراراً واعياً بالقفز، كأي أمر اعتدت القيام به في نهاري، بل كان جزءاً من هويتي، مما أنا عليه. أدركت ذلك، عندما رأيت الآخر بقربي، يسابقني للقاع، فأخذت أطارده، رغم شعوري بالعجز والاستسلام للماء منذ برهة. كنت شاباً صغيراً، يسابق أخاه للحصول على بعض المخلوقات القشرية التي تعيش على الرمل في قاع الماء. لم أحصل على شيء، تركته يلتقط ذلك المخلوق الصغير، وآخر بدا لي من الرخويات، يشبه الديدان، لكنني أعرف ما هو، طعامي المفضل ربما. صعدت إلى السطح. عشرات المراكب التي بنيت عليها أكواخ صغيرة، تعوم فوق هذا الخليج، أعرف هذا المكان، لكنني لا أعرف أياً من هذه الأكواخ منزلي. عاد إليّ الإرباك، لكنني أكثر هدوءاً هذه المرة، لن أشعر بالفزع، بل بالحزن، على زوجتي السمراء وأطفالي!
لوحت لي امرأة كبيرة في السن، أظنها جدتي، وهي كذلك، جدة الفتى الذي يقضي معظم نهاره في الماء ليجمع الطعام من الأعماق، ولأنها جدة مرحة، كنت بدوري مرحاً، حتى أنني كنت جاداً بهذا المرح لدرجة أن تضحكني كلماتي التي أنطق بها، فيصبح الضحك جزءاً من عملي اليومي.
كنت معجباً بفتاة، ولم تبادلني ذات المشاعر، كان الأمر مؤلماً، لكنني تخطيت ذلك عندما استعدت كوابيسي، لأجدني مشغولاً بزوجتي السمراء، وتلك المرأة القلقة في حلم آخر.
لا يهم كم من الوقت كنت ذلك الفتى، لا يهم ما كان اسمي، فهذا المرة كانت أقرب مما ظننتها ستكون عليه، بضعة أسابيع، لأغادر هذا الوجه، وهذه الرائحة، الرغبات، الأفكار، بل والذاكرة، لأحمل أسئلتي لوجه آخر وذاكرة حية أخرى.
أحاول تذكر شكلي، رائحتي، لغتي.
ليس منطقياً أبداً أن أكون آخرين، أتنقّل بينهم دون إرادتي، فلا أكون أياً منهم ولا أعود إليّ.
لربما تمنيت أن أكون رجلاً سياسياً، قائداً ما، لأفعل ما يجب فعله، أم أنني أعيش هلوسات مريضة بعد إصابتي بالحمى في مكان ما، من أنا حقاً؟!
أخيراً وجدتني في مكان مألوف، في صحراء واسعة، أسمع فيها صوت الصمت، لكن هذا الصمت يركض نحوي، دون ظل أراه، يمد يده، يلتقطني كأنني فاكهة مرمية على الأرض، كان وجهاً مبتسماً، يتحدث إليّ.
أركض خلف الماشية، والرجال هناك، يحملون طيوراً فوق أذرعهم، يتحدثون بشأنها، ولا أحد يعيرني اهتمامه. لكن هذا الرجل الذي رأيته يبتسم لي سابقاً، يقترب مني ويحدثني عن الطائر الذي يحمله، ثم يدفع بي إلى حمله بعد أن يلبسني كفاً قماشياً سميكاً.
عدنا إلى المدينة، لا يمكن احتمال الطقس الحار، لولا أن كل شيء في هذا المكان مجهز بالمكيفات، لما أطاق أحد أن يطأ بقدمه هذه البلاد. أخبرني والدي أنه يفضل إرسالي إلى الكلية الملكية، لكنني أفضل البقاء هنا، مع أصدقائي، فلا حاجة لي بدخول هذا المكان، لكنه يصر على ذلك.
وصلت الكلية ودرست بها حتى تخرجت بدرجة جيد جداً، لا يهم. كنت أحصل على إجازات متقطعة فأقضي معظم الوقت في المدينة أو أغادرها كسائح لعدة أيام ثم العودة إليها دون أي رغبة بالعودة إلى صحرائنا. لم أعد أفكر بأمر الكوابيس، لكنّ أمراً عاجلاً حسم الأمر، صدمتني سيارتي الفارهة.
عشرات المرات، أتنقل من جسد إلى آخر. رأسي يحمل ذاكرة عشرات الأشخاص، مصائرهم معلقة في ذهني، ولا أعرف ما حدث لهم. كان علي العودة للبداية. عندما وجدت نفسي عجوزاً يملك مكتبة في بلاد فقيرة، بدأت البحث، عنهم، وعني.
ها أنا أقف في طابور طويل أمام سور عال من الأسلاك الشائكة، في بلاد تبدو لي وعداً لكنني أرتجف من البرد، ولا أجد ما أطعم طفلتي، بل إن هذا القدر من الاحتضان لربما يكسر أضلاعها. لا شيء بيدي لأفعله، سوى انتظار انتهاء هذا الانتظار. سقط بعض الرجال في الحرب، بل هي البلاد بأسرها وآلاف الضحايا. رأيت. رأيتهم، حتى العجوز الذي كنته منذ لحظات، ها هو خلف السور يرتدي قبعة دافئة، لكنه يخلعها ويرميها من فوق السور، دون أن يعترض الحراس. لم أتناول القبعة فقد سارع أحد اللاجئين لذلك ووضعها فوق رأس طفله.
أراهم جميعاً هنا، كل الوجوه، كل من كنت، بذاكرتهم وروائحهم، بأحلامهم، وخيباتهم، يقفون معي وينظرون إلى ما هو خلف السور، حتى أنا الثري، كنت هنا، دون سيارتي الفارهة!