من القاهرة إلى شنغهاي
مدينة فوق البحر
يعني اسم شنغهاي “فوق البحر” أو “مدينة فوق البحر”.
يبدو عنوانًا لقصة غرائبية أكثر منه اسمًا لمدينة تُعد الآن من أهم المراكز الاقتصادية في العالم. التفكير في معنى الاسم يجلب إلى الذهن صورة مدينة طافية أعلى الماء، تشبه المدن الطائرة في لوحات التشكيلي البولندي جاسيك يركا، أو على الأقل صورة مدينة ساحلية يصطخب الموج على سواحلها، غير أن بحر شنغهاي أقرب إلى المجاز منه إلى الواقع. لم أرَ البحر في شنغهاي وقيل لي إنه يبعد مسافة ساعتين عنها.
كان إضمار المدينة للبحر في اسمها، مراوغة أولى تليق بها وتضفي مزيدًا من الفنية عليها. في شنغهاي للمجاز موقع مركزي وللفن كذلك، فتلك الحاضرة لا تكتفي بمركزيتها التجارية والاقتصادية، بل تنافس بقوة على الصعيد الثقافي أيضًا. المتاحف عديدة ومتنوعة بحيث تشمل كل شيء تقريبًا، حتى تأريخ الحالة الاجتماعية ونمط الحياة في الصين خلال القرن العشرين، والمهرجانات الثقافية والمعارض الفنية ذات طابع كوزموبوليتاني عالمي في الغالب، دون أن يعني هذا عدم الاهتمام بالثقافة الصينية المحلية.
قضيت شهري سبتمبر وأكتوبر 2018 في شنغهاي في إقامة أدبية ينظمها اتحاد كتاب شنغهاي ويشارك فيها أدباء من مختلف أنحاء العالم. كنا 13 كاتبًا من تسع دول: أستراليا، الهند، نيوزيلندا، المجر، اليونان، السويد، ألمانيا، مصر وأوكرانيا. شاركنا في عدد من الفعاليات مع كتاب صينيين، وحاول كل منا التعرف على المدينة بطريقته وإنجاز مشروع كتابي في أثناء وجوده هناك.
عدتُ من شنغهاي، لكنها لم تغادرني. على عادة المدن الثرية، ظلت معي متحديةً إياي أن أصل إلى سرها ومعناها. هناك، سجلت الكثير من الملاحظات وبعض اليوميات والتقطتُ مئات الصور، هذا بخلاف رواية أنهيت كتابتها قبل العودة، رواية ستذكرني بشنغهاي ما حييتُ أو على الأقل ما بقيتْ ذاكرتي حيَّة.
أدوِّن هذا، فأتدبر في غرابة الصلة التي تخلقها الكتابة بيننا وبين الأماكن.
نبتتْ بذرة روايتي “وراء الفردوس” في ذهني، وكتبتُ مشاهدها الأولى، خريف 2004، في فندق صغير اسمه “جورين” على مقربة من ساحة ألكسندر في برلين، ومن وقتها أشعر أن ثمة مكانًا لي في تلك المدينة، أو ربما أشعر بأن امرأة كنت إياها في الثامنة والعشرين من عمري امتلكت برلين وروَّضتها على طريقتها الخاصة بمجرد الكتابة فيها، والغريب أن أدق تفاصيل الفندق لا تزال محفورة في ذاكرتي حتى هذه اللحظة، مثلما انحفرت ثاكاتيكاس وفيينا وساوث شيلدز في ذهني بكتابة روايتي “جبل الزمرد”، وكما سكنتني براغ لأنها ألهمتني “أخيلة الظل” وكانت مسرحًا لبعض فصولها.
وها هي شنغهاي تجد لنفسها موقعًا في مخيلتي وذاكرتي، بصورة مضاعفة، عبر الكتابة فيها وعنها. أبتسم كلما انتبهتُ إلى أنني، من خلال الرواية التي أنهيتها هناك، ابتكرت صلةً ما بين هذه الميتروبوليس ما بعد الحداثية وبين القاهرة والبصرة والمنيا، وفي الأثناء صالحت – على نحو ما – بين القرن الثاني الهجري وبين القرن الحادي والعشرين الميلادي. للدقة، لستُ من فعل هذا، بل الكتابة. فالكتابة وحدها قادرة على كشف وأحيانًا اختراع صلات بين أكثر الأماكن نأيًا عن بعضها بعضًا، وحدها يسعها المصالحة بين زمن موغل في القدم وآخر لم ينبلج فجره بعد.
الآن، فيما أجلس إلى طاولة الكتابة، ذات ضحى ربيعي، لوضع اللمسات الأخيرة على كتابي عن شنغهاي، وأشرد –من وقت إلى آخر – في قطعة من سماء حليبية وطرف من حديقة يتراءى لي عبر النافذة المفتوحة، أجدني أستعيد مشاهد من أيامي في الصين وأتوق إلى ما اختبرته فيها من تجارب ومشاعر، بل أشتاق حتى إلى كل ما لم أرَ أو أختبر؛ كأزهار الماغنوليا وهي تتوج أشجارها خلال الربيع أو تأثير البرد الشديد على أشجار الدلب في الشتاء، أو التغيرات الرهيفة، على شوارع وأمكنة تآلفتُ معها هناك، بتغير فصول السنة.
أخيرًا وليس آخرًا، هذا الكتاب ليس فقط عن شنغهاي أو “لؤلؤة الشرق” كما يحلو لأهلها أن يطلقوا عليها، ولا عن بكين أو جوهاي أو الصين في المجمل، لكنه أيضًا وبالأساس عن علاقتي بمفهوم المسافة، عن الأماكن بشكل عام، عن مدن عديدة رأيتها أو تخيلت رؤيتها، مدن تقع شنغهاي في القلب منها، أو هي منها بمثابة مرآة سحرية تنعكس عليها صور كل ما سواها، وتنعكس صورتها هي على ما عداها من مدن وفضاءات.
القاهرة – شنغهاي
السفر، بشكل ما، قطيعة مع ما سبق، وتعاقد مع المستقبل. في كل رحيل بذرة تخلٍ – ولو مؤقتًا – عن مكانك القديم وأحبابك وموقعك في عالم تألفه. في كل رحيل تسليم نفسك للأمل، والأمل مخادع بطبعه، ولن يرضيه إلّا استسلامك التام لسطوته.
فيمَ كنت آمل وأنا ألقي بمرساتي في مياه شنغهاي؟ ربما كنت أبحث عن سكينة مفقودة، فرصة لاكتساب خبرات جديدة والاقتراب من ثقافة لطالما أحببتها من بعيد، عبر القراءة عنها، دون معايشتها فعلًا.
تمنيتُ طبعًا أن تتاح لي إمكانية الكتابة بذهنٍ صافٍ بعيدًا عن متطلبات الحياة اليومية والعائلة والعمل الصحفي في مدينتي الأم، غير أنني كنت سأرضى، من هذه المدينة الثرية، بفتات الكتابة، شرط أن تسمح لي باقترابٍ فعلي منها، وأن تفتح لي قلبها وتعرّفني على بعضٍ من أسرارها.
أعرف أن هناك مدنًا تقهر المخيلة، تستنزفها وتحوِّلها إلى خرقة، ومدنًا أخرى تثريها وتشحذها لدرجة تحيلها إلى سيفٍ مسنون. وبطبيعة الحال، ثمة مدن عالقة في المسافة بين النوعين السابقين. في حالة شنغهاي، كنتُ مجهزة لتقبل أيّ احتمال ممكن.
ذهبت إلى هناك مثقلة برواسب مدن أخرى، تركت آثارها بداخلي، ووشم بعضها ذاكرتي. مدن عديدة تتوزع شرقًا وغربًا رافقتني، غير أنني كنتُ مسكونة بالقاهرة وميونيخ على وجه التحديد.
القاهرة لأنها مدينتي ومستقري المختار منذ ربع قرن، وميونخ لأنها أول مدينة أجنبية زرتها، ولأن المدينتين معًا كانتا محور نص كتبته للمشاركة به في منحة “برنامج شنغهاي للكتابة”، التي يتيح عبرها “اتحاد كتاب شنغهاي” الفرصة لكتّابٍ من مختلف أنحاء العالم الإقامة في المدينة لمدة شهرين والمشاركة في فعاليات وأنشطة ينظمها الاتحاد خلال هذه الفترة.
كانت “التيمة” المختارة لمنحة هذا العام هي “أصوات المدينة وصخبها”، وكان مطلوبًا من الكُتَّاب المُختارين للمشاركة في البرنامج كتابة نص بالإنجليزية انطلاقًا من هذه “التيمة”. في نصي كتبتُ عن كيف تعرفت بدقة على أصوات القاهرة في مرآة صمت ميونيخ. كتبتُ عن ميونيخ مُغلفة بهلاوس وخيالات؛ مدينة لصمتها لون الزمرد ومذاق الخوخ الأخضر ورائحة القرفة، وعن قاهرة تبتلع الأصوات وتعيد إنتاجها بإيقاعات ونبرات جديدة، قاهرة تستحيل في أحلامي إلى فضاءٍ حجري بلا بشر أو نباتات أو طيور.
دون دراية مني، كنت أحدد – عبر هذا النص – زاوية رؤيتي للمدينة الصينية، ومنهج تعاملي المستقبلي معها. بالتوازي مع كتابة نصي عن القاهرة في مرآة ميونيخ، كنت أفكر في شنغهاي وأحلم بها. لطالما مثُلت في خيالي كفضاء ينتمي إلى الفن والأدب والمخيلة أكثر من انتمائه إلى الواقع. في ذهني رحتُ أستعيد أفلامًا وروايات دارت في المدينة أو أشارت إليها. هل كنت أرغب في التعرف على المدينة الواقعية بناسها وأشجارها وأحجارها وشوارعها بالفعل، أم تمنيتُ – في اللاوعي – شنغهاي مُخترَعة، تدين للمخيلة أكثر مما تدين للواقع؟
ربما أكون وددت الجمع بين الأمرين لاستخلاص نسختي الخاصة من المدينة في النهاية؛ نسخة مطعمة بهواجس وهلاوس وخيالات ومشاعر تخصني وحدي، في حوارها مع صور أخرى للمدينة كما تبدت في أعمال فنية وخيالية لآخرين.
عين الطائر
الجمعة 31 أغسطس 2018
أحب المطارات، تذكرني بالمؤقت والعابر. تخبرني أن الانتقال من حال إلى حال ومن بقعة إلى أخرى جوهر كل شيء، وأن التحول دستور الحياة. فيها أكون في أقصى درجات تركيزي وحساسيتي تجاه الزمن والتفاصيل الصغيرة: التأخر لدقائق قليلة قد يترتب عليه فوات الطائرة مثلًا، وثيقة منسية أو تائهة في غياهب حقيبة يدي قد يسبب عدم عثوري عليها في الوقت المناسب مشاكل أنا في غنى عنها.
بشكل مّا يُختزَل المسافر في جواز سفره وتذكرة الرحلة (على الأقل خلال وجوده في المطار) والتأشيرة. تصبح هذه الوثائق أهم من الشخص ذاته، دونها يختفي ويصبح غير مرئي. في المطارات، أقبض على هذه الوثائق كمن يقبض على جوهر وجوده، وفي المدن الأجنبية، أتماهى مع جواز سفري ولا أطمئن إلّا بتفحصه باستمرار.
في الطائرة، يختلف الأمر إذ يخفت ما يربطني بالأرض وأنظر إلى العالم وحياتي نفسها بمنظور عين الطائر. ليس فقط لأنني، حرفيًا، أرقب العالم من علٍ عبر شباك الطائرة، وأبصر المدن وهي تصغر وتغيب ملامحها رويدًا، وتلال السُحب الشبيهة بزهور قطنية عملاقة، والبحار والمحيطات وقد تشابهت مع نسخها المُحنَّطة في الخرائط، إنما أيضًا لأنني أشعر كما لو كنت في برزخ زمكاني من نوع ما.
خلال رحلات الطيران الطويلة تداهمني أسئلة وجودية مقلقة، وأجدني أعيد النظر في حياتي كلها، كأنما انفصلت عنها ووقفتُ أرقبها مثل طائر يطل، من فوق، على عشه المحترق. في أوقات مماثلة يتكاثر الندم بداخلي كفطرٍ سام، أتخذ قرارات، لا تصمد طويلًا، بإصلاح نفسي والتخلص من عيوبي.
أشغل نفسي بالقراءة أو مشاهدة أفلام سينمائية، وأحيانًا بالكتابة. لم تختلف رحلة طيراني إلى شنغهاي كثيرًا عن سواها. أقلعت طائرتي من مطار القاهرة في الواحدة والنصف ظهرًا، ووصلتْ إلى أبوظبي في السابعة مساءً بتوقيت الإمارات، وغادرتها في العاشرة إلّا ثلث ليلًا لأصل إلى شنغهاي في العاشرة والنصف من صباح اليوم التالي (بتوقيت شنغهاي).
ولأنني مِمَّن لا يحبون رحلات الطيران، كان قلقي وتوتري في أقصى درجاتهما، وكالعادة كانت القراءة ومشاهدة الأفلام ملجئي الآمن للهرب من هواجسي ومخاوفي.
كان زوجي وطفلاي قد أوصلوني إلى مطار القاهرة، قبل موعد إقلاع طائرتي بساعتين ونصف. لم أنتبه إلى زحام المكان ولم أتفرس، كعادتي، في تفاصيل المَشَاهِد من حولي. كان اهتمامي منصبًا على نادين وكريم. كريم تحديدًا بدا مأخوذًا. هيأناه قدر ما نستطيع لتفهم فكرة غيابي لشهرين. أخبرته بالأمر تدريجيًا. كانت هذه أطول مدة أقضيها بعيدًا عنه (وعن نادين أيضًا، لكنها أكبر منه بعشر سنوات)، منذ ميلاده حرصت على تفادي السفر ما أمكنني. قلت له إنني سوف أتواصل معه في محادثات فيديو يومية، عبر تطبيق “ويتشات”، وقاومت غصة لازمتني خلال الأسابيع الأخيرة كلما فكرت في ابتعادي عنه.
التوغل في الغد
السبت1 سبتمبر 2018
حين أطير صوب الغرب أخطو في أرض الماضي بانتقالي من نطاق زمني إلى آخر، وعندما أطير صوب الشرق أتوغل في أراضي الغد، أقترض ساعات من المستقبل، أعيدها بعودتي إلى القاهرة. في الطائرة من أبوظبي إلى مطار بودونغ الدولي، رحت أفكر في أن المسافة التي تفصلني عن عائلتي ليست مكانية فقط، بل زمانية أيضًا. من وقتٍ إلى آخر كنت أقطع مشاهدتي لفيلم ما، لمعرفة فوق أيّ بقعة نطير عبر الخارطة المعروضة على الشاشة، وما إن بدأنا الطيران فوق أرض الصين؛ شينخوا، حتى عرفت أن المسافة الزمانية بيني وبين أحبتي صارت ست ساعات كاملة. تكفي الرحلة لأربعة أفلام على الأقل. تنقلت من فيلم إلى آخر، ولإحساسي بالذنب لأنني توقفت عن القراءة وانغمست في المشاهدة، اخترت فيلمين لهما علاقة بالكتابة؛ الأول عن الكاتب الأميركي ترومان كابوتي والثاني عن أستاذ للكتابة الإبداعية، هذا بخلاف فيلمين آخرين لم يكن لأيهما من هدف سوى جذبي بعيدًا عن التفكير في أيّ شيء آخر.
في العاشرة والنصف هبطت طائرتي في مطار بودونغ. كانت هَيَان، من اتحاد كتاب شنغهاي، في انتظاري ومعها طفلتها ذات السنوات الثماني. اعتذرتْ بأن الصغيرة في عطلة من المدرسة ولم ترغب في تركها بالمنزل بمفردها. لم يكن ثمة داعٍ للاعتذار، كل أمّ يمكنها تفهّم هذا بسهولة. لم ترفع الصغيرة رأسها عن هاتفها الذكي، ولو بدافع الفضول. في طريقنا إلى العربة المنتظرة، عرفتُ من هيان أننا سنكون بصحبة الكاتب السويدي بِنغِت أولسون والكاتبين المجريين غِرغاي بترفاي وزوجته إيفا نوفاك بترفاي. قدمتنا هَيَان لبعضنا بعضًا، وانطلقت السيارة فيما نتبادل أسئلة حذرة، تمحور معظمها حول إن كانت تلك زيارتنا الأولى للصين. كنت الوحيدة بينهم التي تزور الصين لأول مرة. قضى غرغاي وإيفا شهرًا العام الماضي في برنامج أدبي مشابه لكن في بكين، وزار بنغت هونغ كونغ وماكاو من قبل.
في الطريق إلى مقر سكننا الواقع في وسط المدينة، اصطحبتنا هَيَان إلى مطعم بأحد فنادق الضواحي كي نتناول غداءنا. كانت الساعة قد وصلت إلى الثانية والنصف ظهرًا. سألتنا هَيَان إن كنا نريد أن يطلب كل منا طبقًا معينًا لنفسه أم أن نجرب التشارك في عدة أطباق على الطريقة الصينية، فاخترنا الطريقة الأخيرة. تولت هي طلب الطعام لنا ومعه الماء الساخن والشاي الضروري مع كل وجبة هنا. بمغادرة المطعم، كنت متشوقة للوصول إلى غرفتي للراحة، لكنني حين فعلتُ، حرصت على عدم النوم سوى في مواعيد النوم هنا، كي أضبط ساعتي البيولوجية على التوقيت الصيني.
كانت بيهوا، الكاتبة والمترجمة والمسؤولة عن الإجراءات التنظيمية للبرنامج، قد أنشأت مجموعة على تطبيق “ويتشات” تضم الكتاب المشاركين في برنامج شنغهاي الدولي للكتابة في دورته هذه، وخلال الغداء أضفت بنغت وإيفا وغرغاي إلى قائمة اتصالي. في الخامسة مساءً سألت الروائية والأكاديمية الأسترالية جوزفين ويلسون، على مجموعة الاتصال التي أنشأتها بيهوا، إن كان هناك من يرغب في الخروج معها للعشاء بعد ساعتين، فردد بالإيجاب.
هكذا وجدتني في السابعة من مساء ليلتي الأولى في شنغهاي، أسير بصحبة جوزفين في طريقنا لتناول العشاء في مطعم بمحطة مترو معبد جينغ آن القريبة، فمحطات مترو شنغهاي أقرب إلى “مُولات” ضخمة تضم محال سوبر ماركت وملابس ومطاعم متنوعة.
في ظل توفر مطاعم تقدم الطعام الهندي والتايلاندي والياباني والكوري في المحطة، استغرقنا وقتًا في الاختيار قبل الاستقرار على مطعم صيني، طلبنا فيه شرائح من البط مع أرز مطهو بالبخار وشاي مثلج. جوزفين ماهرة في كسر الحواجز بينها وبين الآخرين، تحدثت كثيرًا عن بلدها، وعن رغبتها في إنجاز الكثير خلال فترة وجودها هنا. لكنها في سياق كلامها ذكرت عابرًا أننا من سيدفع تكاليف الإقامة هنا، فقلت لها: ليس في حدود علمي. كل التكاليف المادية يتحملها اتحاد كُتَّاب شنغهاي، لكنها بدت واثقة من كلامها.
حكت جوزفين خلال العشاء عن إحساس النساء الدائم بالذنب وعن الأمومة الخطرة ووعدت بإرسال بعض كتاباتها عن الأمومة إليّ. بدأنا التعارف الشخصي بأسئلة حذرة، لكن كان اللسان ينطلق حين يتعلق الأمر بالأدب أو مخططاتنا لما نريد إنجازه هنا. انطباعي الأول عن جوزفين أنها قادرة على مد الجسور بينها وبين الآخرين بسهولة، وتتصرف بعملية شديدة في الوقت نفسه. لم أكن لأتسوق ليلًا في يومي الأول بمدينة غريبة لولاها. قالت إنني سأندم لو لم أفعل حين أستيقظ صباحًا وأضطر للخروج بحثًا عن مكان أتناول إفطاري فيه.
اشتريت زبادي وفواكه من سوبر ماركت محطة المترو، وسرنا عائدتين. حين وصلنا أمام الفندق لمحنا باقي المشاركين معنا في البرنامج يتناولون طعام العشاء في المطعم الإيغوري المقابل بصحبة بيهوا. اقترحت جوزفين أن ننضم إليهم، لكنني كنت متعبة جدًا، فقلت لها سأتعرف عليهم لاحقًا، كل ما أحتاجه الآن النوم العميق.
ترويض الغربة
الأحد 2 سبتمبر 2018
أحب الاستيقاظ في المدن الغريبة والإنصات إلى أصواتها وصمتها في الصباح الباكر، ثم محاولة رسم خريطة ذهنية لها انطلاقًا من ثنائية الصوت والصمت. كم يبدو هذا مناسبًا لشنغهاي ووجودي فيها؛ فمحور البرنامج الذي أشارك فيه عن أصوات المدينة وصخبها، أي عن صمتها أيضًا، فالصوت يضمر الصمت، والصمت مشحون بفكرة الصوت.
صحوت في وقت مبكر، وجلست لمراقبة منظر المدينة من نافذة غرفتي في الدور العشرين. حمدت الله على أنّي أحضرت زبادي وفواكه معي أمس. لن أضطر للخروج بحثًا عن مكان لتناول الإفطار فيه. المكان حيث نقيم، ليس فندقًا بالمعنى المعروف، فقط “أستوديو”؛ عبارة عن غرفة بمطبخ صغير في ركن منها وملحق بها حمام. علينا نحن تجهيز طعامنا أو الاعتماد على المطاعم العديدة في وسط المدينة الحيوي هذا.
حان وقت الكتابة، بدأت بتدوين تفاصيل اليوم السابق، ثم انتقلت إلى مخطوط الرواية أو الروايتين بالأحرى. إحداهما شبه منتهية قبل عام وتحتاج فقط بعض التحرير والتنقيح، والأخرى لا تزال في بدايات الكتابة. ولأنني أحب مرحلة البدء في كتابة رواية مّا، حيث كل الاحتمالات متاحة والأبواب مشرعة، وحيث التعرف التدريجي على الشخصيات في أثناء تشكيل ملامحها الأولى، فقد قرّرت تأجيل العمل في الرواية المكتملة، والتركيز على الجديدة. عليّ فقط إعادة قراءة ما سبق وكتابته، كي أضع نفسي من جديد في قلب العمل.
سار الأمر بسلاسة أدهشتني. نسيتُ أنني في غرفة لم أتآلف معها بعد. كعادتها صالحتني الكتابة على الأماكن الغريبة عني. المفارقة أنني في بداية علاقتي بها، كنت لا أستطيع الكتابة سوى في مكان أليف، ففي سنواتي الأولى في القاهرة، كنت أنتظر العودة إلى بيت أبي كي أكتب، لكن مع الوقت صارت الكتابة هي مكاني الأليف القادر على ترويض غربتي وتخفيفها.
اتصلت بي جوزفين عبر تطبيق “ويتشات”، راغبةً في الاطمئنان عليّ، وإبلاغي بسوء الفهم الذي وقعت فيه أمس، فهي وميراندي ري وه وفرانسيس إدموند فقط من سيدفعن تكاليف إقامتهن هنا لأنهن مشاركات في البرنامج بمنحة مالية مدفوعة من جهتين في بلديهن (أستراليا ونيوزيلندا). توقعت هذا بالفعل، لأن كل التفاصيل الخاصة بي، وصلتني مع الدعوة الأولى للمشاركة في البرنامج قبل شهور، ولم يكن هناك مجال لأيّ لبس.
أكدت جوزفين على ضرورة حضوري لقاء السادسة مساءً في مطعم البيتزا المقابل للفندق. وأضافت أن العشاء الجماعي، الذي نظمه اتحاد كتاب شنغهاي في المطعم الإيغوري أمس، فاتنا لأننا كنا قد خرجنا قبل وصول الدعوة على مجموعة المحادثة الجماعية الخاصة بالكتاب المشاركين على “ويتشات”.
في السادسة إلّا دقائق تقابلنا في البهو، واتجهنا إلى مطعم البيتزا، لم يتطلب الأمر سوى عبور الشارع. المكان صاخب، وبالكاد يسمع أحدنا الآخر. وضع لنا النادل عدة طاولات متجاورة طوليًا، وجلسنا. كلهم تقريبًا التقوا أمس على العشاء فيما عداي. بجواري جلست الكاتبة الأوكرانية تيتيانا تروسكايا؛ أصغر الكتاب المشاركين في البرنامج، وفي مواجهتي فرانسيس إدموند من نيوزيلندا وميراندي ري وه من أستراليا وبجوارها إيفا وغرغاي وإلى جوار تيتيانا ديمتريس سوتاكيس من اليونان وبنغت أولسون وجوزفين وأنكوش سايكيا من الهند وكاترينا موريكي وإرسي سوتيروبولوس من اليونان، لم يحضر الكاتب الألماني ماتاييس بولوتايكي. خلال الجلسة، أخرج غرغاي خمسة جنيهات مصرية من محفظته ليريها لي، وسألني إن كنت أعرف يارا المصري؛ المترجمة المصرية عن اللغة الصينية. قال إنه قابلها العام الماضي في بكين وحصل منها على هذه العملة، لأنه مولع بجمع عملات نقدية أجنبية، أعطيته ورقة بعشرة جنيهات كي يضيفها إلى مجموعته.
استئناس المكان
الاثنين 3 سبتمبر 2018
كيف لي أن أروِّض مكانًا جديدًا عليّ؟ أنى لي استئناسه؟
لطالما عشت بألفة عاداتي وطقوسي. لا جذور لي حتى في مكان ولادتي. يروقني النظر إلى نفسي كعابرة سبيل، كغريبة على كل الأماكن. بيتي هو عاداتي التي أكوِّنها في أي مكان جديد أنتقل إليه، هو طقوسي التي أحمل بعضها معي من مكان إلى آخر، وأشكِّل بعضها الآخر على هواي بالتناغم مع مقري الجديد.
غربتي لا علاقة لها بالمكان أليفًا كان أو غير ذلك.
حين وصلتُ هنا، بدت غرفتي باردة مثل صفحة بيضاء تحدق فيّ متحديةً إيّاي أن أجرؤ على صياغتها كما يحلو لي، أو أن أحاول إدماجها في لعبة طقوس من أي نوع. خُيِّل إليّ أنها تقدِّم نفسها كغرفة فندق؛ عابرة في حياة عابرين. راقني هذا. لطالما أحببت العبور والعابرين. لا مساحات ودّ بيني وبين الاستقرار والركون إلى الثبات.
كنت قد قمت أمس بالخطوة الأولى لاستئناس غرفتي وترويضها عبر الكتابة فيها، وفي الصباح كتبت لثلاث ساعات أيضًا. صار لي روتين من نوع ما، لكن لا يزال هناك شيء ما ناقص، شيء لم أعرف بعد كيفية الوصول إليه. لا مشكلة، فما مِن وحشة هنا، كيف لها أن توجد مع كل هذا التشوق للاكتشاف، ومع كل هذه الفضاءات والخبرات الجديدة التي تنتظر أن تُكتشف؟
في الظهيرة، توجهت مع تيتيانا لتشتري كل منّا احتياجاتها من “كارفور” كما نصحتنا جوزفين، التي سبقتنا إليه أمس. محطة مترو معبد جينج آن بدت لنا كمتاهة، لم ندوِّن اسم المحطة خلف جوزفين، حفظنا فقط أنها على مسافة محطتين، وقلنا سوف نسأل.
بصعوبة وجدنا من يتكلم معنا بالإنجليزية في محطة المترو، ليخبرنا أن الخط الذي علينا أخذه هو خط 2 وليس خط 7. هناك وقفنا حائرتين، في غياب اسم المحطة، لم نعرف في أيّ اتجاه علينا أن نذهب! أرينا الخريطة التي معنا لشابة بجوارنا، وشرحنا لها وجهتنا المطلوبة مع سؤالها عن الاتجاه الصحيح، فأخبرتنا باتجاه، ثم عادت وأشارت إلى آخر. اتبعنا إشارتها الأخيرة، لكن بعد وصولنا إلى محطة ميدان الشعب، اكتشفنا أنه الاتجاه الخطأ، وعدنا بالمترو مجددًا إلى كارفور الموجود في محطة “تشونغ شان بارك”، كنا مستمتعتين بحالة التيه تلك رغم كل شيء.
بعد ثلاث ساعات، عدتُ إلى غرفتي، ومعي كل ما أحتاجه. قلت سأكتفي اليوم بأكل فاكهة وبعض شرائح البط المطهي على طريقة بكين، لكنني قررت فجأة إضافة طبق مكرونة إلى وجبتي. اكتشفت بينما أقف أمام الموقد الصغير، أنني تآلفت مع المكان بينما أطهو فيه. كنت قد كتبت من قبل مازحةً أن الإنسان حيوان طاهٍ، وأعرف الآن أن المسألة ليست مزاحًا كلها. الطهو في مكان ما يمدنا لا شعوريًا بالاستقرار، بدرجة ما من إحساس البيت. وهو أيضًا علامة حضارة، ففي أدبيات الطاوية مثلًا، ثمة بلد يدعى “فولو”، يجهل أهله طهو الطعام على النار، ويرتبط هذا بغلظة الطباع وسماءات بدائية كثيرة على مستوى الأخلاق والسلوك.
بينما آكل المكرونة مع شرائح البط، تساءلت كيف كان إحساس البشر حين اكتشفوا الطبخ ولم تعد علاقتهم بالأكل تقتصر على التهام ما يلتقطونه من فواكه وخضروات نيئة؟ مؤكد أن علاقتهم بالمكان تغيرت وتعمقت وطباعهم لانت.
شنغهاي: نظرة ميكروسكوبية
الأربعاء 5 سبتمبر 2018
معجزة عمرانية واقتصادية. لا مبالغة في وصف النهضة التي شهدتها شنغهاي، وربما الصين بكاملها على هذا النحو. هذا بالضبط ما خرجت به، مع انتهاء المحاضرة التي ألقاها الكاتب ما شانغ لونغ تحت عنوان “نظرة ميكروسكوبية لشنغهاي”، في مقر اتحاد الكتاب. كانت ندوة شائقة خفيفة الظل، ركز المحاضر فيها على التفاصيل الصغيرة لتاريخ مدينته خلال القرن العشرين.
المسافة شاسعة، بل مهولة، بين شنغهاي القرن العشرين، التي استعرض الكاتب صورها أمامنا، وبين الميتروبوليس الكوزموبوليتانية بالغة التقدم والتنظيم التي نراها اليوم. في سنوات قليلة ارتقى الصينيون بعمران مدينتهم وتخطيطها وحدَّثوها بحيث باتت تتفوق من حيث العمران والتطور على كثير من المدن والعواصم الأهم في العالم.
لم يذكر المحاضر شيئًا عن هذا. ركز فقط على التفاصيل الخاصة لأهل شنغهاي وحكاياتهم البسيطة في الماضي، وكيف كانت أكثر من عائلة تتشارك حمامًا واحدًا، لدرجة أن عجوزًا في إحدى البنايات اقترح جدولًا بمواعيد استخدام كل عائلة للحمام في اليوم، وجعلهم يوقعون على عقد يلزمهم باتباع هذا الجدول مع إضافة بند خاص باستثناء الحالات الطارئة.
استعرض أمامنا أيضًا صورًا لـ”الباند”، على ضفة نهر هوانغبو، حيث اعتاد العشاق أن يلتقوا، ولكبائن التليفونات العامة. المسافة هائلة بين تقشف “الباند”، كما تظهره الصور القديمة، وبين أبهته الحالية في الصور الحديثة. كانت شنغهاي الثمانينات مدينة فقيرة محرومة هي وأهلها من مظاهر الرفاهية، وها هي الآن مدينة حديثة بما لا يُقارن. وأكثر ما يلفت النظر أن الناس هنا لا يتبرأون من معاناة الماضي هذه، بل يفخرون بها على نحو واضح لأنها الدليل على ضخامة القفزة التي حققوها نحو المستقبل.
في طريق العودة سيرًا إلى مقر سكننا مع ميراندي وجوزفين وفرانسيس، سبقتنا ميراندي وجوزفين، فيما تجاذبت أطراف الحديث مع فرانسيس حول كيف بدأت كل منا الكتابة ودور العائلة في هذا. أمّ فرانسيس كانت نسوية مهمة من نسويات الموجة الأولى، كما كانت من أهم شاعرات نيوزيلندا في القرن العشرين، وأخوها شاعر معروف أيضًا. أما هي فكانت ممثلة مسرح ولم تفكر في الكتابة قط، وفعلت هذا فقط حين طلبت منها صديقة أن تكتب لها قصة فيلم قصير، وتحت إلحاحها وافقت فرانسيس واختير الفيلم للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي فرع الأفلام القصيرة، ونجح نجاحًا كبيرًا.
عماء الغريب
الجمعة 7 سبتمبر 2018
أرسل أنكوش أمس رسالة على مجموعتنا على “ويتشات”، يبلغنا فيها بأنه سوف يذهب غدًا إلى سوق المسلمين، ويسأل إن كان هناك من يرغب في الذهاب معه. لم يتحمس للأمر سواي أنا وتيتيانا وغرغاي وإيفا. أنكوش أكثرنا دراية بمترو شنغهاي، إذ كان يتحرك في محطات المترو بسهولة، لكن حين خرجنا منها، لم يكن على القدر نفسه من الألفة مع المكان، كان يعرف الاتجاه التقريبي الذي علينا السير فيه، لا أكثر من هذا. كان المطر ينهمر بغزارة، وبما أنني آخذ احتياطاتي قدر الإمكان، كانت مظلتي معي، وكذلك أحضرت تيتيانا مظلتها، أما الآخرون فقد اشتروا مظلات من محل قريب. وبدأنا رحلة البحث عن سوق المسلمين القريب من مسجد خوشي، وعلى قصر رحلتنا تلك، فقد فتحت عينَي على حقيقة أن الغربة تجعلنا نعتمد على الحواس، نعود بدائيين بشكل ما، أو ربما أطفالًا نتبع الغريزة والفطرة، خاصة في ظل جهلنا بلغة المكان وجهل أهله باللغة التي نحادثهم بها.
بعد لف ودوران في المكان، وسؤال المارة، قادتنا الرائحة إلى مبتغانا. على مقربة من المكان الذي كنا فيه في بداية بحثنا، لفتت انتباهنا رائحة شواء شهية، كان المطر لا يزال يهطل غزيرًا لبرهة، ثم ينهمر باعتدال لأخرى، قبل أن يخف حتى كأنما يختفي فلا تبقى في الأجواء سوى رائحته.
لا يشبه مطر شنغهاي مطر ذاكرتي المناخية في شيء سوى المظهر، أي في كونه نقاط ماءٍ تتساقط من السماء، ففي جو سبتمبر الذي ما زال حارًا ومثقلًا بالرطوبة، يبدو المطر غريبًا، ولا يحمل البرودة المنعشة التي يحملها في شتاءاتنا.
غير أن ما همني منه، في لحظتنا تلك، أنه كان يمنعنا من رؤية الدخان المتصاعد من عربات الشواء، إذ كان يشتته ويلاشيه فيمنع محاولاتنا لتتبعه. في نوبة من نوبات توقف المطر، تكثفت رائحة الشواء، ونظرنا إلى يميننا نحو شارع كنا قريبين من ناصيته، لنفاجأ بسحب الدخان الخفيف المتصاعدة للأعلى.
منذ البداية كان السوق قريبًا منا؛ على بعد خطوات عند نهاية الشارع الذي وقفنا على ناصيته، أكثر من مرة، وتركناها لنبحث في كل الاتجاهات الأبعد.
رددتُ في سري المثل الذي لطالما سمعته من عجائز قريتي: “الغريب أعمى ولو كان بصيرًا”.
لكن حتى وإن كان المثل حكيمًا ويعبر عن عماء الغريب، فإنه نوع من العماء المفيد أحيانًا، فالتيه ليس سيئًا في المطلق، في التيه نخلق طرقنا ومساراتنا البديلة، ونكتشف ما لم يكن بالإمكان اكتشافه لو سرنا فقط في الدروب الصحيحة والمحددة سلفًا. في حالتنا هذه، كنا سنذهب إلى وجهتنا ونعود منها، في الغالب دون استكشاف المنطقة المجاورة بحدائقها وباعة الفاكهة والخضر فيها، وتخطيط شوارعها المختلف نسبيًا عن تخطيط حي معبد جينغ آن؛ حيث نقيم، والحي الفرنسي وارف الظلال؛ حيث مقر اتحاد كُتَّاب شنغهاي.
عاد المطر مجددًا، على خفيف، لكننا سرنا نضحك ونثرثر غير عابئين به، حتى وصلنا إلى بائعي السوق المحتمين بمظلات كبيرة. ثمة الكثير من اللحوم النيئة؛ لحم الضأن له الغلبة هنا. وثمة من يبيعون أسياخ اللحم المشوي أو البولو (أرز باللحم وشرائح الجزر) الذي يعد من أهم الأطباق الإيغورية، هذا بخلاف عربات بيع “الدامبلينغ” المحشو باللحم أو الخضار، والخبز الإيغوري المخبوز لتوه، والزبادي المنزلي، والفواكه المجففة التي يشتهر بها إقليم شينجيانغ، والفاكهة الطازجة والمشروبات الباردة والساخنة. تتراص عربات و”ستاندات” بيع الطعام بنظام على جانبي الشارع، وتقف أمامها طوابير الزبائن، ثمة طاولات وكراسٍ قليلة على الرصيف، لكن معظم الزبائن يفضلون الأكل واقفين والتنقل من بائع إلى آخر. الأسعار هنا أقل منها في مطاعم وسط المدينة، لكن شعبية المكان لا ترجع إلى هذا فقط، إنما بالأساس إلى جودة الطعام ونظافته، وإلى طقس الأكل في الشارع وسط غرباء يكوِّنون لبعض الوقت تجمعًا قائمًا بذاته داخل مدينة صاخبة. ثمة حس مؤقت بالرفقة والألفة بين زبائن السوق، الذي يقام من العاشرة صباحًا حتى الثالثة ظهرًا كل يوم جمعة، بجوار مسجد خوشي في حي بوتو.
أكلنا واقفين دامبلينغ ولحمًا مشويًا، وألقينا نظرة على باعة الأحجار الكريمة والإكسسوارات، وغادرنا سريعًا كي لا نتأخر على الندوة الأولى التي ستقام مساءً وتشارك فيها كل من فرانسيس وميراندي وجوزفين بصحبة كاتبة الأطفال والشاعرة الصينية ين جيان لينغ.
في طريق العودة بالمترو، اتفقت مع تيتيانا على العودة إلى سوق المسلمين كل جمعة، وشكرنا أنكوش على تعريفنا به.
مسافر لا يميز شرقه عن غربه
السبت 8 سبتمبر 2018
في عصور سابقة، كان التحدي في الرحلة نفسها، في طول المسافة المقطوعة من نقطة البدء إلى نقطة المنتهى. أن ينتقل رحالة قديم من المغرب إلى الصين أو من إيطاليا إلى أعماق آسيا، كان إنجازًا في حد ذاته، ليس فقط لأن السفر كان شاقًا ومحفوفًا بمخاطر جمّة، بل أيضًا لأن الوصول إلى نقطة ما يعني المرور بكل ما سبقها في حالة السفر البري، أو التوقف بكل النقاط المهمة قبلها في حالة السفر البحري.
في تلك الحالات القديمة، كان الرحالة مدركًا لأهمية ما قام به كلما توغل بعيدًا، وحتى إن سجل رحلاته في هيئة تقارير جافة ومقتضبة، سيجد من يهلل لها ويفرح بها شرط أن تتضمن كمًا معقولًا من المدن الموغلة في البعد، وإذا حدث ولفَّق رحالة ما حكايات عجائبية عن هذه المدينة أو تلك، لن يجد من يرده أو يكشف تلفيقه (أقصد من بين معاصريه)، فلم يكن هناك سبيل إلى البرهنة على العكس، هذا بخلاف أن الآخر كان وما زال مثيرًا للفضول وفي أعماقنا نزوع غريزي لتغليفه بالغرابة ووسمه بالاختلاف إلى أن يثبت العكس.
في المقابل، كان الرحالة القديم ملمًا بالاتجاهات قادرًا على قراءة خارطة النجوم وربما معرفة الوقت بمتابعة حركة الشمس. ركوبه البحر جعله خبيرًا به وبتقلباته، وتجواله في البر أتاح له دراية لا تُبارَى بالجغرافيا والطبيعة.
في حين أننا يمكننا أن نجد بين معتادي السفر المعاصرين، لن أقول الرحالة، من سافر إلى عشرات البلدان دون أن يكون قادرًا على تمييز الشرق عن الغرب أو الشمال عن الجنوب دون مساعدة البوصلة الإلكترونية على هاتفه المحمول.
ثم ما الذي قد يضيفه إذا كتب بأسلوب تقريري عن هذه المدينة أو تلك؟ لا شيء تقريبًا. كل المعلومات متاحة على الإنترنت، الذي يمكّن مستخدمه حتى من الخطو الافتراضي في مدن لم يزرها قبلًا.
كنت أفكر في الخرائط والاتجاهات الجغرافية، فيما أسير في الحي الفرنسي بشنغهاي، برفقة فرانسيس إدموند. لم أكن أعرف إن كانت قد سافرت كثيرًا أم لا، غير أن شيئًا ما في خبرتها بالشوارع وقدرتها على الانتقال بسلاسة في المدينة ذكرني بالرحالة القدامى.
نكون سائرتين في شارع ما، ثم تتوقف فرانسيس، وتشير بيديها: الغرب في هذا الاتجاه، والشرق في ذاك، وهنا الشمال وهناك الجنوب. تتبع هذا بتفحص البوصلة الإلكترونية على هاتفها الذكي، وتبتسم حين تتأكد من صحة ما ذهبت إليه. تقول إنها لا يمكنها الاطمئنان في غياب المعرفة بالاتجاهات الجغرافية، ترتاح فقط حين تعرف موقعها في العالم. الإحساس بالاتجاهات مهم جدًا لديها. على العكس منها، أسلم نفسي للأماكن وأغوص فيها دونما اهتمام بمعرفة الاتجاهات أو موقعي من العالم. مجرد التفكير في الأمر يرهقني. إذ ينتهي بي بتخيل شكل كوكب الأرض كمجرد كرة هائمة في الفضاء؛ نقطة ضئيلة في بحر العدم.
تكفيني معرفة الشرق من الغرب وفقًا لحركة الشمس، وتأمل تشكيلات السحب في السماء. في المقابل أشعر بانعدام الاتزان إذا لم أعرف الوقت بدقة. لا أتكيف بسهولة مع غياب الساعات، أنظر إلى ساعتي كل خمس دقائق. لا يعني هذا أن علاقتي بالزمان أقوى من علاقتي بالمكان، على العكس من هذا، عندي مشكلة في الإحساس بالزمن. في حالات كثيرة هو غير موجود بالنسبة إليّ، لا يمكنني لمسه ولو عبر آثاره على الأماكن والوجوه. لهذا أحتاج إلى الإيمان به عبر متابعة سريانه الوهمي في صورة ثوانٍ ودقائق وساعات تشير إليها عقارب ساعتي.
يشعرني ضعف إحساسي بالزمن أني أعاني من إعاقة ما، إعاقة يقلل من آثارها أن إحساسي بالأماكن حاد ومسنون، حتى لو لم أهتم بالاتجاهات الجغرافية. في شنغهاي، تضاعف إحساسي بالأماكن، وكاد الزمن يستحيل مكانًا سائلًا وفقًا لمقولة ابن عربي: “الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد”.
خلال إقامتي هنا، بات هذه المدينة هي العالم بالنسبة إليّ وتوقيتها هو زمني الخاص، وزاد من شعوري هذا أن استخدامي للإنترنت صار في أضيق نطاق ممكن، وبالتالي لا أتابع ما يجري في العالم الخارجي على نحو جيد. ليس في حياتي شيء هنا سوى الكتابة والتجول في المدينة، والمشاركة في فعاليات “برنامج شنغهاي للكتابة”، والنقاش مع الزملاء المشاركين معي فيه.