من المغامرين الخمسة إلى شفرة دافنشي
القصص والروايات البوليسية بالإضافة إلى الكوميكس، هي الخطوات الأولى للاهتمام بالأدب لدى الأطفال. هكذا كان الأمر على الأقل بالنسبة إليّ. كان هذا قبل عصر التلفزيون الذي لا يتوقف عن البث والقنوات التي تقدم سلاسل لا تنتهي من الشخصيات وبرامج المغامرات المدبلجة.
بدأ الأمر بالمغامرين الخمسة. هي سلسلة كتبها محمود سالم ولاقت رواجا كبيرا في مصر والعالم العربي. استخدمنا العدسات المكبرة والحبر السري وتعلمنا كيف تضع الصحيفة تحت الباب وتدفع المفتاح من ثقب الباب ليسقط على الصحيفة وتسحبه إليك. تختخ ومحب ونوسة وعاطف ولوزة صاروا جزءا من حياتنا. كنا نريد أن نصبح مغامرين خمسة. لكن مجتمعاتنا البسيطة كانت خالية من الجرائم تقريبا. انتهى الأمر بانتظار بداية الشهر لنقرأ العدد الجديد من السلسلة.
تطور الأمر وصرنا نقرأ روايات اللص الظريف أرسين لوبين التي كتبها موريس لوبلان. كانت الروايات نقلة نوعية في طريقة معالجة الروايات البوليسية بالنسبة إلينا. كيف ترى الأمر بعين اللص؟ اللص هنا ليس شرا مطلقا. هو مغامر على طريقته.
ثم تحركنا خطوة أبعد مع الغوص في روايات شرلوك هولمز ومسيو بوارو. باللاوعي صرنا نعرف الفرق بين الأدب الفرنسي كما شهدناه في روايات أرسين لوبين المليئة بالمغامرات، والطريقة البريطانية الباردة في عرض الأحداث. السير آرثر كونان دويل قدم شخصية شرلوك هولمز ورفيقه الدكتور جون واطسون بكل احتفاء بالبرود الإنكليزي. وأنت تقرأ الروايات، تكاد أيضا تشم رائحة الفحم المحترق والشوارع المعتمة الباردة في لندن. أغاثا كريستي استعرضت عوالم من الأسرار والأماكن في روايتها من خلال شخصية بوارو. روايات بوليسية تقوم على الاستنتاج وليس المغامرة. شيء إنكليزي بحت.
ونحن نتوسع بقراءة الروايات العالمية اكتشفنا كمية الاستعارة من تلك الروايات في سلسلة المغامرين الخمسة مثلا وعرفنا أيضا لاحقا أنها نسخ مترجمة لسلسة معروفة نشرت في الأربعينات والخمسينات في بريطانيا. المجتمعات العربية تعيش عالما مختلفا، وطبيعة الجرائم وعمل الشرطة فيها لا يوفّران ما يكفي لعناصر الخيال لكي يبحر ويقدم الشيء المختلف بالوفرة التي تجدها سابقا وحاليا في المكتبة الغربية. كيف تكتب رواية بوليسية عن حرامي غسيل يتسلق السطح أو مدن ببيوت من دون خزائن حديدية؟
لا أدري أين تقف الرواية البوليسية في الأدب العربي اليوم. لعلي أعرف بعد الانتهاء من مطالعة هذا العدد من “الجديد”. لكن من المؤكد أنها تعاني أسوة بحال الأعمال الروائية العربية.
لنأخذ روائيا عربيا يريد أن يكتب عملا روائيا بوليسيا. القارئ العربي ما عاد ذاك القارئ المعزول والبسيط. يوميا يشاهد عددا من المسلسلات الغربية المترجمة أو المدبلجة. معروف أن الجريمة-المغامرة البوليسية ركن أساس في الدراما التلفزيونية والسينمائية. تتسابق القنوات اليوم على عرض أفكار ومشاهد مذهلة لانتزاع اهتمام المشاهد. ألغاز تتفرع من ألغاز. الكتّاب في الغرب يكتبون على خلفية مجتمعات مركبة وغارقة في تفاصيل لا علاقة لشرقنا فيها. لهذا فإن الرواية البوليسية/الفيلم/المسلسل القادم من الغرب يقدم جرعة ذهنية كبيرة سيقف الكاتب العربي أمامها متسمّرا.
كاتب عربي يريد أن يقدم عملا أدبيا بوليسيا إبداعيا. الطبيعي في عالم اليوم هو أن يمرّ بمرحلة بحث وتجميع للمعلومات والأفكار قد تستمر لأشهر وربما سنوات. إذا كان القارئ العربي قد قرأ “شفرة دافنشي” أو “ملائكة وشياطين” و”الرمز المفقود” و”الجحيم” و”الأصل” لدان براون، فإنه سينتظر من أديبه المحلي أن يقدم شيئا قريبا في المستوى. هل لدى أديبنا ثلاث أو أربع سنوات يصرفها في تجميع المعطيات التي تصوغ رواية بمستوى روايات دان براون؟ براون نقل لنا عالما من الأسرار القديمة، من الفاتيكان وروما، وربطه بالمؤامرات الحديثة ليقدم رواية تستطيع أن تستقطب الملايين من القراء وأكثر منهم من المشاهدين عند تحويل الرواية إلى عمل سينمائي. أغرقنا بالمعلومات والمعارف القديمة والجمعيات السرية وحاكها لعالم الكمبيوتر والاندماج النووي. شخصية روبرت لانغدون في روايات براون هي شخصية ثرية بالتفاصيل ومعرفية، وليست ساذجة.
هذه امتحانات صعبة، ليست للكاتب العربي المهتم بأدب المغامرات البوليسية بل للكاتب الغربي الذي يريد أن يقدم أشياء تستثير اهتماما أكبر في المجتمع الغربي نفسه. في عالم الدراما تحول الأمر إلى ورشة تأليف لصناعة العمل البوليسي الذي يقدم تلفزيونيا. واحد يصنع الفكرة العامة وآخرون يكتبونها حلقة بحلقة باستشارة المنتجين المنفذين الذين لديهم كلمة مسموعة في النسق الدرامي والروائي وطريقة سرد الحكاية. الأجناس الأدبية تتخالط فيما بينها فننتهي برواية تجمع البوليسية مع الخيال العلمي أو البوليسية مع الطب. هل مسلسل “الطبيب هاوس″ سوى شرلوك هولمز طبيب يتحرى الأسباب كما كان المحقق البريطاني يجمعها ويحللها بحثا عن السبب أو الجاني؟
الرواية البوليسية تحدٍّ أدبي مختلف نوعيا عن النسق الروائي المعروف. لا بد من الاعتراف بهذا أولا قبل الحديث عن أدب بوليسي عربي.