من يتذكر تليماخوس؟

في الشعر والأسطورة وتمرّد القصيدة على النموذج البطولي
الجمعة 2021/01/01
لوحة: مايسة محمد

كتبت غير مرة في الشعر والأسطورة، والعلاقة بينهما، في تجليات الأسطورة بعوالمها الخارقة، وأبطالها الاستثنائيين، أمكنتها وأزمنتها وما وراء تلك الأمكنة والأزمنة. ولطالما قادني ذلك إلى الإتيان بأمثلة على الكيفية التي يتنفس معها الشعر هواء الأسطورة، وكيف يتاح للمخيلة أن تمتح من ماء الأسطورة، ومن تربة العالم الميثولوجي، ممّا هو سحري وغامض وغير مدرك في ظاهر الحركة، وممّا يجول في أعماق الكينونة الإنسانية. ولطالما فكرت أن ذلك يحدث في تزاوج عجيب بين قصص وأمثولات متحدرة من زمن وثقافات، وبين مساحات من حركة الوعي الشعري لشاعر في جغرافيا متكاملة تؤسسها مغامرة الشاعر مع الكلمات، وتتصل غالباً بأحلام اليقظة، حيث تجليات لا نهاية لها لما يمكن أن ينتج عن هذا التزاوج بين ميزات مدهشة لعوالم فنية تتلاقى فيها الأزمنة والأمكنة والوجوه والأقنعة والبوارق والحكايات في صيغ إبداعية تتفوق على الحكاية الأصل عبر انزياح كاسر، غير متوقع يستدعي معه الشاعر الأسطوري إلى الشعري لا كما فعل التمّوزيّون العرب قبل نصف قرن ونيف، ولكن على نحو يولّد الشعري من عمل مع الأسطوري لا يكرر، هذه المرة، الحكايات والأمثولات في قصائد/محاكاة يسلّم شاعرها بالأسطوري قناعاً نهائياً وحكايةً تتحدر من تمثال حجري، وإنما بوصفها صورةً ترتج على صفحة الماء، صورةً قابلةً للحركة، ولإعادة التحريك، صورةً يمكن للشاعر أن يحدث فيها على مسرح مغامرته، وفي جغرافية لعبته الشعرية كسراً وانزياحاً يتيحان له في القصيدة خلق أيقونات وأمثولات، وإشارات، وعلامات جديدة كل الجدة، أحياناً ما تكون صادمةً ومدهشةً لما فيها من انتهاك للأصل على سبيل فتح قنوات تتيح دفق مياه جديدة بين جغرافيات الخيال الشعري، وجغرافية الزمن المعاصر، وبما يتيح في القصيدة، التي تنتمي إلى الزمن الحديث، استدعاء المهمّش في الأسطورة من هامشيته، في الظل، ليكون في السمت الكاشف. فلا يعود الشعر مجرد غناء راعٍ أعمى في قرية بعيدة أو جبل قصي من جبال الأساطير، بل غناء كوني، وثورة على القيم التي صاغت الأيقونات الكبرى والأقنعة المتكلمة والأساطير الساردة، حيث لا يعود البطل بطلاً، ولا النكرة نكرةً، وتكون الحكاية في القصيدة بدورها محطةً أو علامةً أو إشارةً بين إشارات وعلامات وأقنعة وأصوات أخرى.

ومن البدهي أن جماع هذا الشيء العجيب الكاسر لمركزية البطل في الأسطورة، والذي يتجلّى في صور الشعر وأصواته، إنما يتحول إلى أيقونات جديدة لها كلام جديد، وتمتلك بجاذبيتها الخاصة القدرة على تحدي واقعية الواقع وراهنيته، وعلى كسر عادية الأشياء بغرائبيتها، وفجاجته بطرافتها، وتقليديته ببلاغتها الحديثة.

مثال أول

في قصيدة تحت عنوان “الخطيب” تنتمي إلى مجموع شعري لي نُشر تحت عنوان “مجاراة الصوت” 1988، في هذه القصيدة جلجامش الذي تصوره الأسطورة على أنه الملك الذي رأى كل شيء وعرف كل شيء، ومن ثم أباح لنفسه كل شيء، بما في ذلك حيازة كل ما هو إنساني في ملكيته، وافتضاض كل عذراء في ليلة زواجها، يصل إلى “بيت العرائس” لأن عروساً تنتظر أن يدخل عليها جلجامش، ليمكن لخطيبها أن يدخل عليها من بعده. السطر الأمضى في القصيدة، حتى أنه أوقع من الواقعة نفسها، هو الصرخة الكتيمة للعريس وهو يتخيّل عروسه بين ذراعي جلجامش، وقد أفلتت منه تلك الصرخة “الآن ينقضّ الصقر على عينيّ ويأكلهما!”. إنه الاحتجاج العنيف الصامت. لكن هل كان يمكن لعريس قبل 5 آلاف سنة أن يستنكر عرفاً مقدساً طالما مارسه جلجامش الملك في احتفال طقسي يحضره جمهور المملكة، ويرى فيه، بالعكس من ذلك، فعلةً نكراء وانتهاكاً للكرامة الشخصية؟

هنا مقطع من القصيدة:

“انتظرهم حتى فرشوا لها في الأرضِ

ودخلوا بسنابلِ القمحِ والأزهار

خرجوا، ودخل

ولم تكن قد وصلت بعد

لأن أنكيدو سدَّ بذراعِهِ البابَ

لأجل أن يدخل الملك، ولا يدخل أحد سواه.

(…)

انتظرهم حتى فرشوا ملاءَتها على بساط القصبِ

وجاؤوها بالمرآةِ..

قال الخطيبُ:

الآنَ ينقضُّ الصقرُ على عينيَّ ويأكلهما!”.

(من قصيدة “الخطيب”، لندن 1987)

مثال ثانٍ

هل نحتاج إلى دليل استثنائي للبرهنة على أن لا فضل للشاعر الحديث في استلهام الأسطورة في الشعر على نحو يكرر سرد الحكاية ليس إلاّ، أو يستعملها كإسقاط فجّ على واقع راهن، أو يجعل منها أمثولةً بسيطةً، لا تخرج من تربة النص الأسطوري زهرة جديدة، ومن البدهي أن ابتكار الجديد سوف يكون مستحيلاً ما لم يكن ذلك وفق منطق جديد، ورؤيا جديدةً وإلا فإن الشعر سيُمسي مسرحاً لاستعادة الصوت الكلاسيكي، وفضاءً لتكريس التقليد. والسؤال الآن: كيف يكون الجديد جديداً، وكيف لا يعود القديم قديماً؟

سِقت من قبل أمثلةً مضادةً للمثال التقليدي في استلهام الأسطورة، مرةً من شعري وأخرى من شعر شعراء آخرين. ولا ضير أن أقف، هنا، في هذه الكلمة، عند مثال من شعري أجده معبّراً عن فكرتي في استلهام الأسطورة، وأعني به قصيدة “أحزان تليماخوس” المنشورة في كتابي “الحديقة الفارسية”.

تليماخوس هو ابن أوديسيوس وبينلوبي، وأوديسيوس هو الملك الإغريقي الذي ترك مملكته إيثاكا وخرج في تحالف الملوك الإغريق لنصرة الملك مينلاوس الذي هربت زوجته مع حبيب صادف أنه ابن بريام ملك طروادة وشقيق هيكتور أحد أبطال الإلياذة، وكانت الحادثة، كما تروي الملحمة الهوميرية سبباً في حصار الإغريق لطروادة والحرب التي دامت عشر سنوات. وقد خلّد هوميروس هذه الواقعة المأسوية التي تحطم بسببها عشرات الأبطال الإغريق والطرواديين، وانتهت بنهاية طروادة التي لم تسقط إلاّ عن طريق الخدعة المشهورة عبر الحصان الخشبي.

انتهت الحرب ورجع أوديسيوس إلى إيثاكا، لكن رحلة عودته استمرت عشر سنوات، ضل خلالها هو ورفاقه في البحر، وبين الجزر، وقد اشتق هوميروس اسم ملحمة “الأوديسة” من اسم بطلها أوديسيوس ليخلّد هذه الرحلة العجيبة الشيقة والشاقة. على الطرف الآخر مثّلت بينلوبي زوج أوديسيوس في انتظارها الأسطوري لزوجها، والذي دام 20 عاماً، رمزاً للوفاء الزوجي، فهي تغزل الشال في النهار وتنقض الغزل في الليل، فقد أعطت وعداً للأمراء الطامعين بعرش المملكة أنها ما إن تنهي الغزل حتى تختار زوجاً لها من بين هؤلاء الرجال الذين راحوا يطوفون بالفوانيس تحت نافذتها.

بخلاف كثرة تناولت الأسطورة في الشعر يبرز في قصيدة “أحزان تليماخوس” الصوت الثالث. إنه صوت الابن تليماخوس المهمّش، الذي لا لسان له ولا صوت ولا صورة إلاّ بوصفه ظل الأب الغائب. فالبطولة لأوديسيوس أما الأمّ فهي المثال الكامل الذي تتحقق، من خلاله، القيم الذكورية في مجتمع الرعي والحرب، حيث لا وجود للمرأة إلا بوصفها رمزاً للوفاء الزوجي.

تليماخوس المعذّب عذاباً خاصاً لكونه يقبع بعيداً عن الضوء القوي المسلّط على الأم والأب، عذابه أنه بلا صوت، فلا لسان لتليماخوس في الملحمة الهوميرية ما دام الظل الصامت للأب العائد من مغامرته الطروادية. تليماخوس هو صوت المستقبل الذي صمتت عنه الأسطورة. وقصيدتي تعيد إليه لسانه وصوته وتستدعيه من الهامش الظليل، فقد آن له أن يغادر الظل، أن يقترب من الضوء.

وهو لا يكتفي بحضوره في مركز الضوء في القصيدة، ولكنه يسجل فاعلية هذا الحضور وخصوصية حضوره في صوته الساخر من فكرة تكريس الشعراء للصورة النمطية للأمّ، وفي تشكيكه بنظرة الأم إلى ذاتها، ثم في احتجاجه على موقعه “في قاع الحكاية”، وأخيراً في دعوته للأمّ إلى الكفّ عن انتظار عودة الأب، والمضي معه بعيداً عن المملكة، وبذلك يطالب تليماخوس بأن يوقع حضوره في العالم عن طريق التمرد على السياق وتغيير الخاتمة، ومن ثم نسف الحكاية كلها، وهو ضرب من التمرد على الأب الهوميري وتغيير قدر الابن والأمّ معاً.

لعل الحركة الأكثر إثارةً في القصيدة إنما تتجلى بفعل تلك النزعة الأوديبية لتليماخوس، بل وشيء من التوجس الهاملتي، بينما هو يتحدث عن الأمراء الذين يطوفون تحت نافذة الأمّ بالفوانيس، مطالبين بينلوبي باختيار عريس لها منهم، وإذ يشير لأمّه عن وضعية النافذة “أمي، أما ترين أنها منفرجة قليلاً؟” فهو لا يتورع هنا عن التشكيك في الحصانة العاطفية لأمّه، من خلال الإشارة إلى رغباتها النائمة. هذا الشيء لا وجود له في الأسطورة، فهو موقف الشاعر في القصيدة في عصر حديث. والتوظيف، هنا، ينسف تماماً الأسطورة بمفهومها التقليدي، ويحيي فيها نسغاً جديداً، فالعين ترى من موقع الهامش، وقد أراد هذا الهامش لنفسه أن يتحرك ليصبح متناً أو في الأقل هو يقترح نفسه متناً جديداً، ولكن بمواصفات أخرى، إنه اللابطل، أيقونة عصر جديد.

لا أتطرق هنا إلى القيم الجمالية في القصيدة، فهذا شأن آخر، ولا حتى إلى طبيعة شعريتها، أو خصوصياتها الجمالية، أو مدى ابتكاريتها الفنية، أو طاقتها الشعرية، فهذا متروك للقراء ونقاد الشعر، ولكنّ حديثنا هنا عن علاقة الشعر بالأسطورة، وطبيعة هذه العلاقة في قصيدة حديثة.

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

نص القصيدة:

أحزان تليماخوس

كلَّما ولِدَ شاعرٌ في مدينةٍ داخلية

حَمَلَ البحرَ إلى نافذته، وأجْلَسَكِ هناك

في انتظار المراكب.

ولكن ماذا عني؟

لا شاعر،

لا مسرحي،

ولا حتى روائي فاشل نَزَلَ إليَّ، أنا تليماخوس.

إنني في القاعِ أكثرُ مما خِلتُ.

صنّاعُ الأنوال يصعدون إلى المعبد

ويقدّمون القرابينَ،

ليظلَّ كلُّ شيءٍ على حالِه

والأمراءُ التعساءُ يطوفون بالفوانيسِ تحتَ نافذتكِ العالية.

أمي

أما ترين أنها منفرجة قليلاً!

أتبحثين عني؟

إنني ألهوا بغَزْلِك المتروك وراء المكنسة

وفي وقتٍ أسبق سألتك: أوِشاحٌ هذا أم قميص؟

***

كلّما ولِدَ شاعرٌ، كلّما شَقَّ محراثٌ ثَلْماً، رأيتُ القَدَرَ

بفمٍ كبيرٍ وكلماتٍ كبيرة.

المزارعون جاؤوا بالغار وتركوه على العتبات.

الرخامُ لم يعد مضيئاً،

والراقصون ملّوا ألعابهم السنوية.

الذين ضفروا القوسَ جدّدوها مراراً.

ثلاثةُ أجيالٍ من الأحصنة نَفَقَتْ،

والسائسون الكسالى يتمرّغون في شمس هوميروس.

لا شراع في البحر ولا هواء على القصب،

وبعد الأقنعةِ والأقنعةِ والصلوات

هناك الغار،

يذبلُ

والرخامُ يتشقَّق.

أتبحثين عني؟

إنني أقفُ لكِ بين هؤلاء.

قومي معي إلى مدينةٍ أخرى.

(من ديوان “الحديقة الفارسية” لندن 1992)

وكما أن السطر الأخير في القصيدة يقترح قدراً آخر للابن من خلال تمرد مفاجئ على السياق يحقق تلك الحركة الجامحة نحو المستقبل، فإن نوعية التفكير الذي تقترحه القصيدة إنما يحتاج بدوره إلى قارئ متمرد، فلا يصلح هذا النوع من الشعر لقارئ مستأنس بالفكرة القديمة التي تجد نموذجها في الإرث الأبوي شعراً وفكراً، بعيداً عن قلق الابن وتعبيره المتمرد عن تعبير جيل قلق، قارئ كهذا لن يكترث ليرى التحولات الحاسمة الرهيفة جداً والصعبة جداً في القصيدة.

ليست هناك أيّ مبالغة في القول إن الرؤية التي تعبّر عنها هذه القصيدة إنما تجسد بجلاء موقفي من فكرة استلهام الأسطورة، وطبيعة فهمي لها، وهو فهم يصدر عن رؤيا شعرية يتمرد معها البطل الملحمي على قوامه الهوميري، لصالح البعد الإنساني في مدنية ما بعد الحداثة. فأنت عندما تقرأ أورفيوس في قصيدة في قطار أو باص يفضل أن لا تجد أورفيوس الذي عرفته في الأصل الإغريقي، وأن لا يكون نوح نفسه الذي عهدناه في الحكاية الكبرى. ليس تماماً. وكذا الحال بالنسبة إلى إيكاروس، أو قابيل أو يوسف والأخير يمكن أن يظهر سائق تاكسي في قصيدة معاصرة. ولربما يظهر إخوة يوسف في قصيدة أخرى ليلوموا أباهم على الصورة القبيحة التي رسمها لهم في أمثولته!

بهذا المعنى الأسطورة، هنا، لم تعد، ولن تكون أبداً مادةً تكرر وجودها الأول دون مسوّغ، أو حساب للزمن، بين شاعر قديم وشاعر حديث، وبين نص ملحمي ينتمي إلى زمنه، ونص ينتمي إلى “الملحمة النقيض” في نص شعري حديث، والمصطلح بين قوسين من عمل الناقد خلدون الشمعة في قراءته لشعري. وفي نظري، أنه لولا الرؤى الجديدة لما أمكن للأسطورة أن تتخلّق في صيغ ابتكارية أكانت تناصات أو أقنعةً أو حالات أو أشباحاً، وأنا أميل أحياناً إلى أن أتخيل وجود هذه الشخصيات كأطياف جمالية أو أشباح مُقلقة داخل شعري أكثر منها تكوينات جاهزة. لست مع أيّ جاهز في الشعر أكان ذا صلة بفكرة الأسطورة أو بأيّ فكرة أخرى.

وإذا كان الشعر مغامرة ثلاثية الأبعاد، قصيدةً وشاعراً وقارئاً، فعن أيّ قارئ نحن نتحدث عندما نتحدث عن الأسطورة والشعر؟ في مقام آخر نتحدث عن القارئ، ونفرد له صدر المكان، وعنه يكون الكلام.

ختاماً، وبمناسبة انصراف سنة الجائحة الكبرى، نأمل في العام الجديد أن تزول الغمة عن صدر الأمة، وكل عام وأنتم بخير.

لندن في 1 يناير/كانون الثاني 2021

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.