نبوءات النهاية
تتقاطع كل الرؤى التفسيرية التي تحلل راهن العالم المضطرب والمليء بالصراعات، وتستشرف مآلاته المفتوحة على احتمالات شتى، في كونها تفاسير تغترف من “الإسكاثولوجيات” (1) التي تضمنتها النبوءات الدينية التي تنظر نظرة أخروية إلى نهاية العالم، وتبدو هذه التفاسير اليوم مهيمنة بعد انحسار نظيراتها المتكئة على أفكار ابتدعها منظرون اقتصاديون وسياسيون واجتماعيون كبار من أمثال ماركس و هنتنغتون وفوكوياما وغيرهم من أصحاب النظريات الحديدية الدائرة حول نهاية التاريخ، والتي تبددت مع توالي الأزمنة وتغير سياقات الأحداث التي عرفها العالم، ولعل من الإرهاصات الأخيرة لصعود التفسير الإسكاثولوجي، خرجة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، الذي أطل على قومه مرعوبا، فكتب مقالا في جريدة “يديعوت أحرونوت” شهر مايو الفارط، مشبعا بمخاوف كبيرة تنذر من قرب زوال إسرائيل وانفراط عقدها، وهي على مشارف إحياء الذكرى الثمانين لتأسيس الكيان المحتل، مستدعيا للتدليل على ذلك، التاريخ اليهودي، قائلا: “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن”، وأضاف قائلا: “إن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها”.
كما ذكر أن “العقد الثامن لإسرائيل بشّر بحالتين، بداية تفكك السيادة ووجود مملكة بيت داود التي انقسمت إلى يهودا وإسرائيل، وبوصفنا كيانا وصلنا إلى العقد الثامن ونحن كمن يتملكنا العصف، في تجاهل فظ لتحذيرات التلمود” (2).
وإيهود باراك، ليس وحده من تجرد من المسوغات الواهية التي يضخها السياسيون لتفسير الأحداث، وانخرط في التفسير الديني التلمودي، الذي هو حتما ليس ترفا ونزوعا آنيا نحو الغيب، بقدر ما هو نقطة ارتكاز حقيقية في إدارة الصراعات في العالم، لاسيما ضد العالم الإسلامي، مثله في ذلك مثل الحاخامات اليهود و الإنجيليين المسيحيين وبعض مشايخ المسلمين أيضا، ولكل تفسيره ونبوءاته المستمدة من كتابه المقدس.
أرمجدون النووية
أصرّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على عدم تسمية الحرب ضد أوكرانيا بالحرب منذ بدايتها، وإنما سماها العملية الخاصة، والعمليات الخاصة في العلوم العسكرية تكون محدودة في الزمان والمكان، خاطفة وتحقق الأهداف المسطورة وفق جدول زمني محدد؛ والراجح أن هذا ما اختمر في عقل بوتين، على اعتبار أن اجتياح أوكرانيا لا يرقى إلى تخطيط حربي كبير، لوجود بون شاسع بين البلدين عسكريا، وتفوق روسيا باعتبارها قوة عالمية عظمى؛ لكن ما بدا أنه مسألة وقت قصير، استغرق الآن العديد من الأشهر، والخسائر والارتدادات أخذت تتضاعف، بعد دخول الغرب على خط المواجهة وعلى عدة جبهات، أهمها الدعم بالذخيرة والسلاح النوعي الذي قاد إلى صمود الجيش الأوكراني وعدم ترنحه وانهياره؛ فهل أخطأ بوتين في مقايسة القوة؟
قبل 50 عاما، عرف المؤرخ الأميركي جيفري بلايني الحرب بأنها الصراع حول قياس القوة (3)، ولعل الرئيس الروسي فعل ذلك، فقايس قوة بلاده بالقوة الأوكرانية واهتدى مستنتجا، إلى أن الفارق الكبير سيضمن نصرا سريعا للقوة النارية الروسية، استنتاج بددته الأيام بعد أن بات الرئيس بوتين يواجه قوة الغرب بكامله على الأراضي الأوكرانية، ومحاولات تقويض بلاده بعقوبات مختلفة تقودها الولايات المتحدة، العدو التاريخي اللدود الذي يتبنى دائما إستراتيجية “تنين كومودو” (Komodo dragon)، الذي يعمد إلى عض فريسته أولا، فيملؤها بالجراثيم القاتلة الموجودة في لعابه، ويتركها لقدرها تتلوى وتتعذب، ليعود إليها بعد أيام ويلتهمها على مهل وبكل أريحية.
فهل كان التلويح باستخدام السلاح النووي من طرف روسيا، علامة على الضرر الكبير الذي لحق بها واقترابها من هزيمة وشيكة، فيكون الخلاص بالسلاح النووي لحسم الأمر؟ أم أن ذلك مجرد تهديد لترجيح كفة الصراع وتحقيق تفاهمات؟ صراع لا يمكن توصيفه إلا بأنه حرب عالمية ثالثة لكنها غير معلنة بصريح العبارة، حرب يصر المفكر الروسي ألكسندر دوغين على أنها قادمة تحت عنوان “معركة أرمجدون”، التي تدعمها جميع “الإسكاثولوجيات” الدينية، فكافة الحروب في النهاية دينية وإن كانت لها غطاءات مختلفة، اقتصادية وجيوبوليتيكية وغير ذلك.
قوة الإسكاثولوجيا وحضورها
لا يجد الغرب غضاضة أو حرجا، في وسم حروبه ودمغها بوسم الدين، أو تسميتها بتسمية واصفة ومباشرة “الحرب المقدسة”؛ وإن عمد، إعلاميا، إلى مواراة ذلك عن طريق ابتكار مصطلحات ونحت مفاهيم تغطي على جوهر الحرب ومبعثها الأساسي، لامتلاكه الكفاءة والمناهج والأدوات.
في الحرب الأوكرانية، مُزّقت جميع الحُجُب، وألغيت جميع الاعتبارات والتحريمات المعيارية، وبرزت أكثر المُسَلَّمة الدينية كمحرك دافع للحرب، ينم عن افتتان وإيمان شديد وعميق بالإسكاثولوجيات المنذرة بالمعركة الأخيرة، أو ما يعرف بمعركة النهاية أو “أرمجدون” توراتيا، والتي لها حضور في اليهودية والمسيحية والإسلام على حد سواء، وإن اختلفت التسميات والسرديات المفسرة لشكلها وأحداثها في كل دين، وحتى لدى الفرق المختلفة المنتسبة لهذه الأديان.
لم يحجم الرئيس الأميركي جو بايدن عن رصف المصطلح وتوظيفه في إحدى خطبه ردا على تصريح غريمه الروسي فلاديمير بوتين الذي هدد باستخدام السلاح النووي، وقال بالحرف: “بوتين سوف يفتح أبواب أرمجدون ويجب أن نجد له حلا”، خصوصا أن حرب النهاية هذه، ظلت دائما لصيقة بالصراع النووي بين القوتين الأميركية والروسية لدى الكثير من المهووسين بالتفسير الديني.
ولا يخفى على أحد تغلغل الدين في عمق النخبة الحاكمة الأميركية وفي شعاراتها وخطاباتها منذ الرئيس وودرو ويلسون، مرورا بريغان وكارتر، وآل بوش الأب والابن، ويشير برتران بادي في كتابه”انقلاب العالم” إلى عودة المقدس إلى مسرح العلاقات الدولية، إذ يرى أنه: “ينبغي أن ينظر بعين الاعتبار إلى الأثر الناجم عن المفهوم المسيحي الذي تعتنقه النخبة عن سلوكها الخاص والذي تستمده من المأثور ومن الأساطير المؤسسة للولايات المتحدة على السياسة الخارجية الأميركية”، وهو ما تجلى في خطابات سياسية تحمل مفردات ذات طابع ديني وأخلاقي، ومع وصول قوى اليمين الديني المتطرف في أميركا إلى الحكم، تم تقسيم العالم إلى الشر والخير وهي دلالات أخلاقية قيمية (4).
بينما أوغل “عقل” بوتين، المفكر ألكسندر دوغين، في إرواء الساحة من المعين الديني، باستحضار وتوظيف الكثير من التفاصيل والتفاسير “الإسكاثولوجية”، فقد تناقلت وسائل الإعلام شهر سبتمبر الفارط، مقالا له قال فيه أن “أرمجدون” اقتربت وأن على المسلمين التحالف مع روسيا التي تخوض معركة حاسمة ضد أتباع المسيح الدجال، ويقصد بذلك الغرب.
وأضاف في مقاله: “في قلب المواجهة العالمية التي بدأت يكمن الجانب الروحي والديني، إن روسيا في حالة حرب مع حضارة معادية للدين تحارب الله وتقلب أسس القيم الروحية والأخلاقية: الله، والكنيسة، والعائلة، والجنس، والإنسان”، واعتبر في منشوره أن “الروس يتعاملون مع ما يسمّيه الشيوخ الأرثوذكس حضارة المسيح الدجال لذلك فإن دور روسيا هو توحيد المؤمنين بمختلف الأديان في هذه المعركة الحاسمة”.
سياسة أو إيمان
قد تكون حجة الكثيرين، بأن هؤلاء السياسيين والمفكرين “المتسيِّسين” يتغيون فقط التحشيد وكسب الحلفاء من أجل الظفر بنصر مبين في الحرب، عن طريق تحريك الانفعال الديني والعواطف الروحية لدى الطوائف والشعوب والأمم التي تتشارك نفس النظرة الأخروية لنهاية العالم، ولا يرقى ذلك إلى إيمان ديني راسخ لدى النخب الحاكمة، التي تتحرك وفق شريعة ذرائعية وفقه مصلحي بلا نواظم أو ضوابط، في ضوء أفكار وتوجيهات “ميكيافيلي” الخالدة، وعلى رأسها الفكرة/الصنم “الغاية تبرر الوسيلة” والتي تجعل الحكومة توظف الدين لأغراض السيطرة، فالدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس، فالعامل الديني أحد أقوى التأثيرات المحركة للشعوب وللصراعات، خاصة في المناطق الجيوإستيراتيجية؛ لكن الواقع والتاريخ يدحضان هذا الطرح، فجميع الحروب بين الحضارات أو الأديان، شُنت بدافع ديني صرف، وحماسة المقاتلين لطالما كانت تُذْكَى وتُسَعَّر باستثارة عواطفهم عن طريق المرويات الدينية.
يبقى أن نقول أخيرا، أن نظرية “أرمجدون”، تتردد وتوظف كثيرا في ظل الأزمات والصراعات العالمية والحروب الدينية منذ القرون الوسطى (5)، ويمكن أن نستدل على ذلك بالعديد من الأمثلة الواقعية، على غرار الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، حيث قام أحد دعاتها البارزين في التلفزيون الأميركي، ويدعى “بات روبرتسون ” بعرض الرعب الآتي المتمثل في معرجة “أرمجدون”، حيث سرد على مشاهديه مزاعم بوجود قيامة على الأرض مع نهاية تلك السنة، وأن هذه القيامة ستكون في الاتحاد السوفياتي أساسا، لأنه سيخوض مغامرة ويبدأ بضرب أميركا بالأسلحة النووية.
وقد تجددت مثل هذه النبوءات في حرب تحرير الكويت سنة 1991، حيث زعم بعض الزعماء الأصوليين أن حرب الخليج الثانية هي بداية لدمار العالم، ثم خلال غزو العراق، وبعدها حين انفجر ما يعرف بالثورات العربية وظهور ما يعرف بتنظيم داعش في سوريا والعراق، حيث انتعشت النبوءات المبشرة بيوم الملحمة، وستظل تتكرر كلما تدحرجت العلاقات بين الدول والأمم نحو المزيد من الصراعات والحروب.
هوامش:
1- الإسكاثولوجيا أو علم الأخرويات، هو جزء من علم اللاّهوت، يهدف إلى دراسة ما يعتقد أنّه الأحداث الأخيرة قبل نهاية العالم، تلك النّهاية العنيفة والدموية، والتي ستأتي على الأخضر واليابس إيذانا منها بنهاية هذه الحياة والانتقال إلى حياة أخرى.
2- موقع قناة الجزيرة (www.aljazeera.net).
3- TIME ,volume101,number4,2022
4- رباحي أمينة، عودة المسلمة الدينية في العلاقات الدولية، مركز دراسات الوحدة العربية (https://caus.org.lb/ar).
5- محمد إسماعيل المقدم، خدعة هرمجون، دار بلنسية، الرياض، السعودية، ص3، 2003.