نداء غير مجدٍ: ارفع عينك عن شاشة الهاتف
نبالغ في تحكمنا بالأطفال والشباب. المثقفون منا يريدون أن يكون الجيل الجديد مشكّلا على قوالبهم. هنا لا أريد أن أشير إلى المحتوى الثقافي الذي يسعى الأكبر عمرا لنقله إلى الأكثر شبابا. هذه إشكالية تاريخية معروفة ويصعب التحكم فيها. الجديد يغيّر القديم حكما. في بعض الأحيان ينسفه تماما. ولكن أتحدث عن مفردات وآليات انتقال الأفكار أو المعارف أو صيغتها.
المثقف يعتبر أن الانتقال المنطقي يمر عبر الكتاب. الكتاب هنا ليس حصرا بصيغته الكلاسيكية، ولكن ضمن إطار معرفي أوسع يشمل المطبوعات بشكل عام. أنت تقرأ مجلة “الجديد” مثلا وتعاملها بثقة تشبه ثقة التعامل مع الكتاب.
الكتاب منصّة معرفية لها بداية ونهاية. تشتري الكتاب وتعطيه لابنك أو أخيك الشاب وأنت مطمئن. كتبه كاتب موثوق ومرّ على محرّرين وناشرين ونقاد، بل رقباء معارض كتب، وربما قرأته بنفسك. لا توجد مفاجآت في كتاب مطبوع. ومن هنا الحث على الاستئناس برفقة الكتب.
قبل ثلاثين عاما، كان الآباء يعتبرون أن انفلاتا قد حدث عندما يرون أن الأبناء، وخصوصا اليافعين منهم، يشاهدون التلفزيون أكثر مما يقرأون الكتب. التلفزيون لهو وليس معارف. كما أنه منفلت نسبيا. لا تعرف ما سيأتي مع البث، ولا تستطيع محاصرة ما يتسلل من أشرطة فيديو إلى البيت. البعض عامل التلفزيون بعداوة. التوسع في البث عبر الفضائيات زاد العداوة.
قبل عشرين عاما، صار الآباء يعتبرون أن الانفلات تزايد بدخول ألعاب الفيديو المجال وأن الأطفال والشباب مشتتون. مضيعة الوقت بين التلفزيون وألعاب الفيديو كلها على حساب الكتاب والمعارف. أين الثقافة التي يمكن أن تأتيك من الكونترولر الذي يسيّر اللعبة ومن إطلاق النار في المشهد الذي أمامك على الشاشة؟
زد على ذلك، وفي نفس المرحلة الزمنية، أن الإنترنت صارت تملأ حيزا في حياتنا. كانت الإنترنت مرتبطة بالكمبيوتر، والكمبيوتر “قطعة أثاث” منزلية غالية الثمن، فكان الصراع على من يستحوذ عليه. الشكوك بدأت من أول يوم دخلت الإنترنت البيوت. البعض عاملها كامتداد للألعاب، وآخر منصة لتضييع الوقت. بعد فترة صارت الإنترنت على قائمة مصطلحات الضرورة، مثلها مثل الماء والكهرباء. انعقدت ألسن الآباء والكبار أمامها. لا يستطيعون بسهولة اتهامها باللهو ولا بتضييع الوقت. الأب أو المربي المثقف صار “صديقا” للشباب لأن إنكاره تأثير الإنترنت على العالم يضعه في خانة الجهل.
السنوات العشر الأخيرة غيرت كل شيء. بدخول الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، صار الشباب أحرارا تماما. أصبحوا يتحكمون بالكامل في ما يريدون الاطلاع عليه أو مطالعته أو مشاهدته. الآباء احتاروا أمام هذه التقنية المذهلة. لا أحد اليوم يستطيع الجزم إلى أين ستأخذنا.
أين الطريف في كل هذا؟ في محاولتهم كبح جماح استخدام الهاتف الذكي وسيطرته شبه المطلقة على أطفالهم والشباب في العائلة، صار الكبار، المربون المثقفون، يعيدون النظر في مواقفهم من انتقاداتهم السابقة. تعال يا ابني، تعال يا أخي، ارفع عينيك عن شاشة الهاتف وانظر إلينا! تعالوا شاهدوا التلفزيون معنا، ودعونا نشارككم ألعاب الفيديو! ماذا حدث لكل الأحقاد المتراكمة على التلفزيون الذي حرمنا من الكتاب، ومن ألعاب الفيديو التي لا تعلمك إلا إطلاق النار أو ركل الكرة؟ ما هو مصير الكتب والمكتبة؟
ينظر الأب والأمّ فيجدان أنفسهما في عالم غريب. الشبكات الاجتماعية ومنصات الفيديو والصور أهم من التلفزيون والكتب والألعاب. اسأل الشاب عن متصفح الإنترنت، يردّ بأنه لا يذهب أليه لأنه يستخدم تطبيقا لمطالعة فيسبوك والتفاعل مع صفحاته، وتطبيق آخر لتويتر وثالث لإنستغرام. المتصفح آخر همومه. يريد أن يقرأ صحيفة أو مجلة ينزل تطبيقها ويقرأها مباشرة. يريد أن يتفاعل مع دائرة ضيقة من المعارف والأصدقاء، بمن فيهم إخوته وأخواته والأب والأم والمربون، فإن تطبيق واتساب في انتظاره. الإنترنت مجرد بنية تحتية تستقر عليها هذا التطبيقات التي يتفاعل الأطفال والشباب والكبار من خلالها (المثقفون أو أشباههم أو المتصالحون مع مستويات معارفهم) مع عالم افتراضي بلا حدود.
في ثورة مفردات التغيير تراجعت أهمية المحتوى، خصوصا المعرفي منه وتحيّر مع هذا التراجع أصحاب الدعوة للاهتمام والتركيز والإلمام. من يهتم بتذكر معلومة بعد اليوم إذا كانت في متناول تطبيق “سيري” على هاتف أبل الذكي، تسأله صوتيا فيرد صوتيا أو نصا؟ المعرفة التي كنا ننحت الصخر لكي نصل إليها أو نتعلمها أو نتذكرها صارت كالتالي: هي سيري! متى تأسست مدينة لندن؟ فيأتيك الرد.
لعل الإجدى بدلا من العناد “المعرفي” الذي يمارسه عدد ليس بالهيّن من المثقفين أو الآباء أو المربين، هو أن نراهن على حث التفكير: ليس بفلسفة قراءة المعلومة وتذكرها، بل بمنطق استدعاء المعلومة لكي توظف في فهم عام وتسخير هذا الفهم في حكمة واستنتاج. حتى هذه صار الذكاء الاصطناعي ينافسنا عليها.
هي سيري! ماذا أفعل؟