نسق التمثلات وعنف التأويل.. رواية “ابن القبطية” لوليد علاء الدين
البداية عبارة عن تقرير طبي يشخص فيه الطبيب حالة رجل مصاب بشزوفرينيا متقدمة مصحوبة بالتوهمات الاضطهادية والعظمة. التقرير يشد انتباه القارئ ويجره إلى معين أسئلة تحفيزية مشكلة لتقنية سردية (سيرة ذاتية لمريض) هي محض اختيار الكاتب.
مبدأ الحكاية عُرس على مقاس المأتم، يوسف يفقد الأمل الأخير في حبيبة خرجت من رحم الولادة على يديه واستقبلها ذات مخاض وها هي تُزفّ لرجل بكرش ومحفظة نقود ممتلئة. فرح وحشيش، ضحك مكتوم، سكر لنسيان «أمل” في ليلة دخلتها.
السارد في الحكاية ينتقم من الأحداث عبر لغة زاخرة بالعنف والواقعية، تذكرنا بسينما صلاح أبو سيف. يوسف جرّب احتراف الموسيقى واشتغل في مجمع سياحي كبير وحلم بأن يصبح كاتبًا كبيرًا فهو صاحب موهبة خارقة ودليله الكراسة الزرقاء التي يسكب فيها أفكارًا في شكل هلاوس، يطارده منصور زوج أمل في حلّه وترحاله، تضايقه فكرة زواجهما فتتحوّل إلى كابوس في اليقظة وفي جلسات الحشيش إلى أن يلتقي بفتاة يهودية اسمها «راحيل”، هنا ستنحو القصة منحى آخر، عندما تدعوه راحيل إلى صفقة باسم الأديان، راحيل بعنفوانها وجمالها، تتوسل إليه بأن يتبادلا الحب كي تحصل منه على نطفة متعددة الأجناس، طفلة جميلة هي مزيج من الديانات الكتابية الثلاث.
تتربص حكاية ابن القبطية بتفاصيل الأحداث الصغيرة، بالأفكار المتصارعة داخل شخص واحد، التي تقع بين الداخل المكتوم بالرغبات والطموحات، والخارج/الواقع الذي يحبل بالحقائق المُرة، ويبقى حلم راحيل يطوف بالرواية إلى آخرها. أحيانًا تفسح الحكاية خيوط الماضي عبر استذكار استعادي لماضي الأب والأم والجدة، وراحيل هي حكاية داخل الحكاية، باندفاعها وعقلها المعجون باللاهوت ورحمها الذي يشبه أرضا جدباء ويوسف هو من سيسقيها، تريد أن تؤكد لنفسها أنها قادرة على محو الاختلاف في الواحد، وتدخل مع البطل في حوارات حجاجية وإغرائية من أجل بلوغ منتهى أحلامها «أريد لرحمي الموسوي، أن يستقبل طفلة من نطفة تشكلت من صلب محمدي في رحم مريمي” (الرواية ص 74).
تخلو الحكاية من أحداث ومنعرجات فهي سباحة عميقة داخل الشخصيات واستغوار التفاصيل الدقيقة التي تعج بها، حتى إنه يمكن التشكيك في الجنس الروائي الذي اختاره وليد علاء الدين، إنها تكاد تكون رواية شخوص تسبح في فلك بطل أساسي، تنجذب تارة وتتباعد تارة أخرى، وهذا ما سأحاول الوقوف عند بعض ملامحه.
الشخصية الإشكالية
إن قوة الجذب الحكائي لدى وليد علاء الدين في «ابن القبطية” هو أنك تشعر أن الأحداث تدور بداخلك وأنك تعرف هاته الشخوص وربما تجزم أنك التقيتها ذات مرة، فهو يعطيك إحساسًا بالتجدد والتمدد معًا.
«ابن القبطية” عمل يتميز، إلى جانب الإمتاع المرافق لك طيلة رحلة القراءة، بآفاقه الجمالية، يتداخل فيها أنا/القارئ بالشخصية الروائية (يوسف).
من مبدأ الحكاية يصدمك التقرير الطبّي الذي يعطينا ملمحًا أساسيًا عن بطل ملحمي يكاد يختلط بالأسطورة «يوسف ابن يعقوب من راحيل التي أحبها ولذلك فقد أحبَّه، أنت ابن المحبة يا يوسف” (الرواية ص 86).
اختيار الاسم في حد ذاته أولى الإشكاليات، والذي يحيلنا على سيدنا يوسف النبي ومحنة الإغواء التي عاشها مع زليخة ومع إخوته ومع سنوات عجاف.
إن هذا الانشداد نحو الاستعارة التاريخية يعبّر عن رغبة السارد في إعطاء الحكي ضمانة ما، تحقق له الاستمرار وفي نفس الوقت تمنحه فرادة إبداعية خاصة، إذا حاولنا تصنيف الشخصيات في الرواية سوف نحتار بين التصنيفات الكلاسيكية للنقد الأدبي والتي تطغى على التحليل النقدي للعديد من الروايات، فلا يمكن أن نجزم بتواجد شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية إذا استثنينا البطل، لأنّ كل شخصية تعتبر أساسية في الحكي، وتعتبر آراء لوكاش واسعة في هذا المنحى، أقصد المنحى الكلاسيكي حسب ما جاء به الناقد المغربي حسن بحراوي. لكن ألا يمكن النظر إلى شخصية يوسف وراحيل كوجود إشكالي، ليس فقط «من حيث هي فعالية فكرية منتجة للمعرفة والخطاب والرموز بل هي وجود بنيوي أيضا يتداخل فيه النفسي المعرفي المجتمعي والثقافي” (بنية النص الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي بيروت، ص 209).
استطاع السارد/البطل أن يضع خريطة شاملة عن نفسه وعن علاقته بالآخرين وبالحكاية معًا، معتمدًا على تقنية تحليلية دقيقة للكاتب:
– يوسف: شاب وسيم، مثقف، حالم، يعشق الحشيش، مضطرب، تنتابه حالات جنون، يعشق الرقص، مساره يؤدي به إلى الجامودية، شرقي، بدوي، مسلم.
– راحيل: فتاة في غاية الجمال، مثقفة، متعلمة، متحررة، لا تؤمن بالأديان بل بدين واحد، تريد أن تحبل، صبورة، مجادلة من الطراز الرفيع، قادمة من ثقافة مختلفة.
– الآخرون: يتقاطعون حسب قوة وضعف التأثير، لكن لكل واحد موقعه في المتن الحكائي، والملاحظ أن كلهم يتقاسمون مع يوسف البطولة وفقًا لشبكة العلاقات التالية::
- الطبيب: معالج
- منصور: منافس وحقير
- أمل: الحلم والحب المغتصب
- الأم: التوازن والحب والأمان
- منذر وجورج : الصراع والجذب في اتجاهين متناقضين
- الحاج سعد: وسيط
- الأصدقاء: الأنس والصخب والحشيش
- الشيخ ضباب: الرمز والولي والغامض والمنقذ
إذا ذهبنا مع التحليل البنيوي والذي يتجاوز التحليل النفسي وينظر إلى الشخصيات كمجموعة من العوامل «منهج غريماس» وإذا ذهبنا مع تحليل بروب للوظيفة «عمل شخصية محددة من وجهة معناها داخل سيرورة الحكي” (المرأة و الكتابة، رشيدة بن مسعود، ص 100)، فإننا سنعتبر أن شخصية يوسف لها وظائف محددة مع شخصية راحيل ومع الشخوص الفلكية الأخرى ونجمل هاته العوامل الإشكالية في:
- صدمة «أمل” تحوله إلى كائن ثائر متمرد.
- كراهيته لمنصور هي كراهية لنمط اقتصادي جشع ومشوّه.
- رفضه نطفة راحيل بحجة ما تدعيه بخلق الإنسان الكامل.
- الكتابة في الكراسة الزرقاء هي حل لمواجهة الجنون.
تبرز شخصية يوسف كنسق إشكالي مبني على غياب الوعي وحضوره، الإرادة واللاإرادة، فهو يعيش بين عالمين، عالم تمثّله وبناه من خلال قناعاته التي تجسّد معنى التصادم، ولعل رمزية الحشيش هي اختيار التواجد في اللامكان، فهو كائن هروبي، سلبي في اتخاذ قراراته، حتى وهو في ذروة الإثارة الجنسية عمل على تجميد حواسه، بل تعتبر شخصية أمل وراحيل سببًا لضياعه «تتنازع رأسي ذاكرتان، امرأتان، واحدة أضعتها والأخرى أضاعتني” (الرواية ص 117)\ن فانجذب أخيرًا لعوامل التوازن لديه وهي: الرقص-الحلم –الحشيش-الكراسة الزرقاء.
النسق الديني وعنف التأويل
تنبني حكاية «ابن القبطية” على مفهوم العقيدة والأديان، وهذا يتّضح من خلال ثلاث شخصيات محورية: الأم (مسيحية)، الأب (مسلم)، يوسف (مسلم)، راحيل (يهودية).
هذا الاختيار لم يكن اعتباطيًا بل هو نسق لاستنباط المفاهيم والتصورات العامة حول الإسلام كدين شمولي في علاقته باليهودية والمسيحية، راحيل تحاول التخلص من فكرة الانفصام العَقدي للإنسان وتعترف بأنه لا يوجد إلا دين واحد هو الذي دعا إليه الأنبياء كلهم، لذا اشتدت رغبتها في امتداد يجمع الأعراق الثلاثة «ننقذهم يا يوسف”( الرواية ص 100).
وعبر فصول الرواية تتوالى حوارات راحيل مع يوسف في محاولة لإقناعه بفكرة الإخصاب الديني وإعادة تأويل سليم لشمولية التفكير وعدم الإقصاء باسم الجنة أو النار، راحيل بدورها كانت ضحية صراع بين أبيها وأمها: (الأم: أغنية هافا ناجيلا) راحيل (الأب: رقصة بولكا)
إذن تتوضح لنا رؤية الكاتب بأن العنف يأخذ منحى داخليا وآخر خارجيا، عنف يبدأ من تصور إقصائي للآخر:
داخلي: أب وأم راحيل/ أب وأم يوسف
خارجي: رحيل ضد يوسف/ منذر ضد جورج/ يوسف ضد الملتحي
إن النسق الأسري يؤثر في النسق الاجتماعي وغياب تربية دينية سليمة تولّد العنف والإقصاء بل الإرهاب بشكل عام، إن فصول الرواية مخيال وتمثلات عن دين شمولي يلملم شتات الفكر العقدي «تخيّل معي، سوف تكون رحما يجمع الديانات الإبراهيمية الثلاث” (الرواية ص 67)، لكن يوسف مستعد بأن يضحّي بالمهنة التي تعب من أجل الحصول عليها مقابل ألا يتخلى عن قناعاته العقدية، وحتى لا يسقط مدرجًا في دماء الخطيئة التي تسكن عقله، تعيد راحيل هندسة النسق الديني عبر حفريات تاريخية في مسار يعقوب وعلاقته بأبنائه مستعينة بالنص القرآني «سورة البقرة الآية 132» وباللاهوت الذي درسته ثم بتجربتها المريرة التي عاشتها مع أمها وأبيها.
إن وليد علاء الدين لم يسع فقط إلى استحضار التصور القرآني للدين بل عمل من خلال حواريات وظفها على البحث عن صيغة متقاربة ومشتركة بين الديانات الثلاث وهذا المشترك جاء على لسان بطلته راحيل «… و لكن إذا كنت استمعت لي جيدا فإن الإسلام هو كل عمل بنية الخير، وكل فعل يدفع الشر، لم يُعدّ الله ناره لغير المسلمين، إنما أعدها للأشرار، لكن جهز جنته لكل من أتى الله بقلب سليم”( الرواية ص 95).
جماليات الحكي
تحبل رواية «ابن القبطية” بأبعاد جمالية متنوعة، بالاشتغال الرصين على اللغة وما تزخر به من دلالات، إنها رواية إشكاليات وأفكار متوهجة قابلة للانفجار، مع تشويق مضمن داخل التفاصيل، فهي تستمد عنفوانها من عناصر عدة تتلاحم فيما بينها كي تشكل للقارئ متعة التلقي النصي عبر خيوط فنية تتشابك أحيانا وتنفك حينا آخر، وأقف عند بعضها:
أ – شعرية السرد: باعتماد لغة تصويرية بمسحة شاعرية، أو باستحضار قصائد وأزجال معينة مثل «كان صوتها مازال محلقا في جوّ الغرفة” (الرواية ص 95 )، «أنت القروي الأخير، أنت سلالة الطمي في زمن التصحر” (الرواية ص 99)، «رفرفت شفتاك بضحكة تشبه الفراشة” (الرواية ص 129)، «يصحون على اندلاع النار في تويجات الزهور على اختمار الرحيق المنساب على أغصان نبتاتهن الغضة” (الرواية ص 144).
ب – التنويع في الحوار: حيث تحضر الحوارات إما ذات النفس الطويل أو المختزل أو عبارة عن مونولوجات.
ج –الفلاش باك: يستند السرد على هذه التقنية عبر تقطيع زمني متداخل بين الماضي والحاضر، فيصبح الزمن الغابر جزءًا من الحاضر، فيستعيد البطل ذكريات عدة: ولادة أمل/خلاف الجدة مع الأب والأم/قصة النبي يعقوب/الحملة الفرنسية..
د – الغرائبي: البعد الغرائبي يتجلّى في شخصية «ضباب”، الولي الذي طرد ببركة دخانه فرنسا النابليونية، ثم «عرنوس» المحارب الذي جاء بالخبر من أتون المعركة، وتحضر شخصية ضباب كذلك كبعد ضرائحي تلجأ إليه أم يوسف لدفع جنون الرقص عن ابنها. البعد الغرائبي دائمًا غير قابل للتصديق، مثير للجدل، مذهل «ولكنهم لما رأوا ما لم تصدقه أعينهم، ذهلوا، وتداخل عليهم الأمر”. (الرواية ص 167).
هـ – الرمزية: هل يمكن أن نقول إن وليد علاء الدين معجب بالأسلوب الرمزي للمذاهب التعبيرية والدادائية والسريالية في القرن العشرين؟
إلى جانب البعد الواقعي للرواية فقد تفوق الكاتب في استعمال الرمز كانتقال من المرئي إلى اللامرئي، يقول محسن عطية «غاية الفنان الرمزي هي الإيحاء بـ(الدهشة و العاطفة) بعقد الرابطة بين المرئي و اللامرئي تلك غاية الرمز» (الفن وعالم الرمز، محسن عطية، دار المعارف، مصر ص 101).
الرقص: (المرئي: حركة جسدية) (اللامرئي: عملية توازن وبحث عن الذات)
الريح: (المرئي: ظاهرة طبيعية) (اللامرئي: قوة دينامية – حاملة لروح الصحراء)
الرمال: (المرئي: مكونات تضاريسية) (اللامرئي: رمز للفحولة – الرجل المخصب)
الطمي: (المرئي: مزيج من التراب والماء) (اللامرئي: رمز للرخاوة – الأنثى المخصبة)
إن اللغة هي ثوب المعاني وقد عمل الكاتب على إغناء الرواية مستعينا بالرمز اللغوي، بواسطة تحويل ما هو مرئي إلى لامرئي، فما يبدو ظاهريًا رقصًا هو ليس إلا محاولة لإيجاد تناغم بين الروح والجسد، بين الحلم والواقع ونلاحظ أن البطل بقي وفيًا لبداوته الأولى فاستعان بمعجم طبيعي، والريح تغدو كائنًا يتحرك، يغير ملامح الناس ويسيطر على مصائرهم، أما الرمال فهي رمز للذكورة والطمي رمز للأنوثة، سالب وموجب.
تعتبر رواية «ابن القبطية” عملا مدروسًا و متنًا حكائيًا متكامل الأنساق، إشكاليًا في تناوله، مقلقا، ومتعبًا في العديد من فصوله، جميلًا في لغته وتصويره ووصفه للذات الإنسانية وعلاقاتها بمحيطها السوسيو ثقافي العام.
إنها رواية عابرة للقارات في انتظار ترجمات إلى لغات أخرى، إنها تبقى نصًّا أدبيًا في غاية الثراء وفي قمة الإمتاع.