نعاتبكم على تقبّل الوصايا

الاثنين 2021/03/01
ماذا حقق مثقفنا من نتائج؟

تذهب إلى الطبيب ربما 50 مرة ويعطيك التشخيص الصحيح. إذا كنت من غير المتشككين، تصير تؤمن بأن الأطباء يعطونك التشخيص الصحيح دائما. أغلب الأمراض مباشرة وأحادية السبب. أغلب التشخيصات مباشرة ولا تحتاج إلى الكثير من الخبرة الطبية. الاستنتاج هو أن الأطباء يعرفون كل شيء وعلة. يردون على أسئلتك ويصير ما يقولونه هو الحكمة.

تسأل صديقا أسئلة من كل نوع وشكل. تختاره من بين آخرين لأنه “يعرف”. إذا كان محظوظا والأسئلة في نطاق معارفه، أو كنت محدودا وما تسأل عنه في إطار ضيق، فإنّ هذا الصديق يصبح بمنزلة العارف. الاستنتاج أن هذا الصديق سيرد دائما بشكل دقيق. ما سيقوله في أشياء أخرى هو الحق دائما.

هذه علاقتنا بالأسئلة والأجوبة والتساؤلات والردود. هذه علاقتنا بأغلب المعلومات. نثق بالمصدر بعد تجربته فيما نعرفه، ثم ننسى موضوع التدقيق والاستفسار. تسود الثقة حتى في حالة عدم الفهم. هناك غيرنا من فكّر أو يفكّر بالأمر. إذا كانت المنظومة الدينية أو الأيديولوجية أو الحزبية صحيحة ومفهومة في 500 من التعليمات والجمل والوصايا، ولكننا لا نفهم أو لا نستفسر عن الوصايا والتعليمات المكملة، فإنّ الاستنتاج أنّ ما لا نفهمه لا يعني أننا لا نقبل به. افهم أول 500 منها والمئات التي تليها صحيحة حتى لو لم تفهمها. وما نقبله يتحوّل بمرور الوقت إلى مسلمات، بل إلى إيمان. هذا ما يجعل مهمة الأحزاب والمنظومات الفكرية القائمة على الايحاء بالإيمان الديني أسهل وأبسط. غذّ التساؤلات البسيطة والمتوسطة بردود وحجج مقنعة، واترك الباقي للمتلقي نفسه.

هذه نظرة خطيرة للأشياء. لأن ترسيخ فكرة أن الأيديولوجيات الدينية والسياسية تعرف، وأنها سترد على كل شيء، هو ما يغذّي عالما يزداد انغلاقا. انغلاق استثنائي فعلا، حتى بما يتعلق بالأيديولوجيا الشعبوية التي تنتشر في يومنا هذا. في السابق جاءت موجات سياسية قومية وماركسية ويسار مركب على اختيارات مجتزأة لتفسيرات الشيوعية على الطرق السوفييتية والصينية والتروتسكية. ثم جاءت موجات التفسير السنّي والشيعي للدين الإسلامي، وكل منها باجتهادات مركبة عميقة أو حركية أو ساذجة بدورها. تصدرت التفسيرات الإخوانية والسلفية المشهد السنّي وتصدرت الخمينية بحركيّتها الخامنئية المشهد الشيعي. التفسير اليهودي للديانة الموسوية استبق كثيرا التفسيرات الإسلامية للقرآن والحديث. مطلوب من اليهودي المتفاني أن يقبل التفسير التوراتي والوصايا كما هي، فهم منها ما فهم أو عجز عن إدراك البقية.

الشعبوية فهمت الدرس وجاء بوريس جونسون ليأخذ بريطانيا إلى بريكست، وجاء ترامب ليأخذ الولايات المتحدة إلى تمرد سياسي أولا، ثم إلى تمرد على الحكم كما شهدنا في تظاهرات مؤيديه في مبنى الكابيتول. حكايتا جونسون وترامب لا تزالان في البداية. الاثنان حصلا على تأييد رابح في بريطانيا وآخر على الحافة الخاسرة من تقارب استثنائي بين الاختيار بين جو بايدن ودونالد ترامب. لا يمكن لأيّ عاقل أن يرى مناصفة تقريبية في الأصوات الممنوحة لسياسي ويتجاهلها. الفوز أو الخسارة بما يقرب من نصف الأصوات رسالة للجميع: لا تستهن بالزعيم الذي يقف أمامك.

إنه الإيمان الآن من دون أيديولوجيا وأديان. جونسون يقول الحق أو يكذب غير مهم. الناخب صدقه. صدق أول كلامه، ويمكن أن يستمر بتصديق كل ما يقوله لاحقا. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن ترامب. عندما تراهما، أو ترى من يحاول محاكاتهما في دول أصغر وأقل أهمية، تعرف أنهما ينظران إلى نفسيهما نظرة أنبياء للذات. مرة أخرى الخطر يكمن في أن متنبيي هذا الزمان يجدان الملايين ممن لديهم القدرة على قبول البدايات من الوصايا، ومن ثم السير قدما في قبول أيّ وصايا غثة وسمينة لاحقا.

هذا ما يحدث في الغرب في تركيبة يفترض أنها واعية ومطلعة. فكيف بحالنا في عالمنا المنقاد بأهواء وتوجهات إسلامية، بل ومسيحية كي لا ننسى ما يمكن أن يصدر عن مؤسسات وأشخاص في عمق التوجه الأرثوذكسي المسيحي؟ أعتقد أن المشهد أمامنا يكشف عن هذا الانقياد بما لا يترك مجالا للشك.

هذا واقعنا الذي يدفع إلى العتب الموجّه مرات ومرات إلى المثقفين العرب. السياسيون يبررون افعالهم بالنتائج. فماذا حقق مثقفنا من نتائج؟ أنا أرى أن تونسية بسيطة تؤمن بالعلمانية وتحدت ضغوط إسلاميي النهضة أو ترهيب السلفيين في الشارع، يمكن أن تكون أوقفت التمدد المؤدلج في عالمها المحدود والبسيط أكثر وبأضعاف مما حققه مثقف عربي متردد. لا تقبل أن تمدد إيمانها البسيط بالدين والعلمانية معا ليكون مفتوحا على كل شيء. مثقفونا، وخصوصا من تحركهم مصالحهم، يقبلون.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.