نقد الحداثة وما بعدها
ارتبط اسم تيودور أدورنو مع اسم ماكس هوركهايمر بتأسيس “معهد البحث الاجتماعي” في جامعة فرانكفورت، الذي عرف في ما بعد بـ”مدرسة فرانكفورت” في علم الاجتماع النقدي، وأصبح أستاذا للفلسفة وعلم الجمال ثم مساعدا لهوركهايمر في إدارة المعهد، وعمل معه على تطوير وإغناء النظرية النقدية. ويعتبر أدورنو، إلى جانب إرنست بلوخ وماكس هوركهايمر، في مقدمة الفلاسفة الألمان الشموليين لما بعد الحرب العالمية الثانية.
عمل أدورنو على ترسيخ أسس ومبادئ النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وتقديم نظرية نقدية للمجتمع لا تكون علما إمبيريقيا فحسب، بل علما اجتماعيا نقديا يحقق ما دعت إليه الطبقة الوسطى في أوروبا في حق الحرية والصراع الاجتماعي والقضاء على الظلم، وألا تبقى هذه المبادئ على المستوى النظري، وإنما عليها أن تنزل إلى مستوى الممارسة العملية، مثلما عليها ألا تهادن أي سلطة، ما دام هدفها سيطرة الإنسان على حياته الذاتية مثلما هي على الطبيعة، بهدف رفع الوعي الاجتماعي الشامل الذي يستطيع تحمل مسؤولية التغيير في المجتمع.
ولد أدورنو في فرانكفورت (1903-1969) ودرس الفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع في جامعتها. وبسبب تردده المبكر على الأوساط الفنية والموسيقية في فينا واهتمامه على نحو خاص بتقنيات الموسيقى “الدوديكافونية” ذات النظام الاثني عشر صوتا، التي طورها شونبرغ منذ عام 1922، عُرف أدورنو كناقد ومنظر للموسيقى الحديثة، بالإضافة إلى كونه فيلسوفا وعالم اجتماع وناقدا اجتماعيا طبع تاريخ الفكر الفلسفي والاجتماعي النقدي في ألمانيا وتعداه إلى أوروبا وأميركا.
تعود الأصول الفكرية لأدورنو إلى أسس النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت في الفلسفة وعلم الاجتماع من جهة، وإلى حسه الفني الرفيع ورؤيته الجمالية إلى الأشياء من جهة ثانية، التي جعلت منه فيلسوفا شموليا تعدت نظريته النقدية للحداثة علم الجمال والجدل السلبي والثقافة الجماهيرية إلى تساؤلاته النقدية حول العقل والعقلانية والسياسة التوتاليتارية والصراعات الاجتماعية والثقافية التي أفرزتها الحداثة.
تأثر أدورنو بالجدل الهيغلي كثيرا، وبالرغم من أنه اعتبر فيلسوفا يساريا، إلا أنه لم يؤمن بإمكانية تطبيق الاشتراكية على أرض الواقع. فمهمة الفيلسوف عنده تكثفت في النقد، ليس نقد المجتمع ومؤسساته فحسب، بل المدارس والاتجاهات الفلسفية وأشكال الأدب والفن والموسيقى وغيرها من الفنون.
بدأ أدورنو مشروعه الفلسفي مع هوركهايمر من منطلق نقدي وبدأ بتحليل الأسباب التي أدت إلى إخفاق الثورات البرجوازية في أوروبا، غير أنه تحّول بعد ذلك إلى دراسة نظرية المعرفة وعلم الجمال ليكافح الأيديولوجية النازية وأشكالها التطبيقية التي غذتها وطورتها لمد هيمنتها الشمولية على المجتمع، وأخذ يوجه هجومه ضد الفلسفة التقليدية المفرغة من وظيفتها ودورها الثوريين. فالفلسفة، كما يراها أدورنو، تحولت إلى أيديولوجيا فوقية هي امتداد لأنظمة مثالية تجسدت في أفكار مدرسة ماربورغ الفلسفية والوجودية والفلسفة الوضعية، تلك الاتجاهات الفلسفية التي كانت موضع نقد أدورنو، التي جعلت الإنسان محاصرا بتناقضات الذات والهوية، ودفعته إلى دراسة وضعية الفرد المتأزمة وإشكالية وعيه في محاولة لإخراج الفلسفة من فوقيتها وطرح نموذج من التحليل المادي، الذي هو انعكاس سلبي لمواجهة الفلسفة الوجودية الألمانية الممنهجة التي وقفت على رأسها وجودية هايدغر الأنطولوجية وكذلك وجودية ياسبرز.
هاجر أدورنو إلى إنكلترا بعد صعود هتلر إلى الحكم ودرس الفلسفة في كلية ميرتون في جامعة أكسفورد وكان يخطط لكتابة أطروحة دكتوراه حول الفيلسوف إدموند هوسرل. وخلال تلك الفترة كتب بحثا حول علم اجتماع المعرفة عند كارل منهايم ومقالا حول الموسيقى الطليعية لمجلة الموسيقى في فينا وكذلك حول موسيقى الجاز لمجلة البحث الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت. وفي عام 1938 هاجر إلى أميركا للعمل مع هوركهايمر في فرع معهد البحث الاجتماعي في جامعة كولومبيا، ثم عاد إلى فرانكفورت بعد انتهاء الحرب عام 1949 حيث أصبح مديرا لمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت حتى وفاته في 6/ 8 /1969.
بعد عودته إلى ألمانيا استعاد أدورنو نشاطه العلمي وأخذ يشارك في إعادة البناء الفكري لألمانيا الفيدرالية، وأخذ يكتب في قضايا مختلفة ترتبط بالنظرية النقدية وتعكس اتجاها خاصا ومتميزا نحو فلسفة للفن، فقد فهم علم الجمال على أنه أكثر من مجرد نظرية في الفن، وأنه مثلما عند هيغل، نوع خاص من العلاقة بين الذات والموضوع. وقد أصبح أدورنو الضمير المفكر لألمانيا في الخمسينات والستينات إلى جانب هوركهايمر وماركوزه، وأخذ يجسد في شخصيته المثقف الملتزم الذي يعمل على هدم عصره وقضاياه ليبني مكانا جديدا وقضايا جديدة.
كان المنفى بالنسبة لأدورنو عامل تلقيح وإغناء لأفكاره النظرية، بعد أن عايش في أميركا مفارقات المجتمع الرأسمالي في قمة تطبيقاته العملية وخلق عنده ردود فعل جديدة قادته إلى تحليل نقدي لطبيعة المجتمع وطبيعة الفن ومكانته في مجتمع وصل إلى مرحلة استهلاكية متقدمة، كما ربط بين الإنتاج الفني بجميع أشكاله ومظاهره ومحتوياته وبين وسائل الإعلام والدعاية والإعلان وكذلك الدور الاقتصادي المهيمن الذي لعبته في المجتمع.
أطروحات أدورنو النقدية
يمكن إيجاز أطروحات أدورنو النقدية في ثلاث جدليات مركبة ومتداخلة بعضها مع البعض الآخر: جدلية العقل، والجدل السلبي والنظرية الجمالية، وتشكل مفهوما مركبا لنقد الحداثة وما بعد الحداثة. وفي كل ذلك ينطلق أدورنو في نقده الجدلي من الداخل، فهو ينقد الفلسفة التقليدية وينقد الإنسان المحاصر بتناقضات الذات والهوية، وخاصة بعد انهيار منظومات الفكر الفلسفي المثالي، الذي أنتج بدوره تناقضا يقوم على اختراق الفرد المحاصر بتصور معين لهويته وشموليته التي تذوب في مؤسسات الدولة والسلطة والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التابعة لها.
وفي نقده للفلسفة التقليدية ينقد بدوره الوضع الاجتماعي المتأزم للفرد الذي يتجاوز حدود إشكاليات الوعي المتحكمة به وبأفراد المجتمع. وبهذا ينزل أدورنو الفلسفة من عليائها إلى الواقع الاجتماعي، ليربط بين النظرية والممارسة العملية ربطا جدليا. فهو يقول “من يريد اختيار الفلسفة كعمل مهني دؤوب، عليه أن يستغني ومنذ البداية عن الأوهام التي عملت بها الفلسفة القديمة، وأن يدرك الواقع من خلال الفكر”. بهذه المنهجية السوسيولوجية التحليلية يطرح أدورنو جدله السلبي ليواجه به الفلسفة الألمانية التقليدية، من الميتافيزيقيا الهايدغرية إلى الوجودية الأنطولوجية. ومن يتأمل أعمال أدورنو طيلة العقود الأربعة الأخيرة من عمره يلاحظ بوضوح تشديده على نقد هايدغر وبخاصة في الستينات من القرن الماضي حيث انتقد “لغو الوجودية” ومشروع هايدغر الفلسفي في العشرينات من القرن الماضي الذي توجه بكتاب “الكينونة والزمن” الذي صدر عام 1927. وكان هدف أدورنو فيه هو فضح الخطاب الفلسفي الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يذكر المرء بتعابير وشعارات ولغة نازية. كما سعى من جهة أخرى إلى الكشف عن وجود علاقة بين فلسفة هايدغر والأيديولوجية النازية.
الجدل السلبي
في كتابه الهام “الجدل السلبي” Negative Dialektik الذي صدر عام 1966 والذي يعتبر من أهم أعمال أدورنو الفلسفية، مجموعة من المقالات الفلسفية الرصينة التي تعكس اهتماماته المعرفية المتنوعة التي صاغها في حبكة فنية رصينة ونسجها بخيوط غير مرئية، يتداخل بعضها مع البعض الآخر في وحدة محكمة. وتأتي صرامة أدورنو من قوة أسلوبه وعدم انتظام أفكاره وصعوبة مسكها، وعدم تنازله لأي نظام سياسي أو اجتماعي.
والواقع أن “الجدل السلبي” هو عمل فلسفي رفيع المستوى عالج فيه موضوع الفرد واستلابه في المجتمع الصناعي محاولا الانحياز لإنقاذ الذات، في عالم متسلط، منطلقا من أن نقد “السلبي” هو في ذات الوقت نقد أيديولوجي يرفض بقوة العالم الحالي وتسلطه، مؤكدا التحطيم الذاتي الذي قام به العقل لمحتوياته منذ كانت، وكذلك الطريقة التي أدت بهذه الأداة الهامة، أي العقل، إلى أن تكون مستلبة وعاجزة عن الفهم والإدراك والنقد الموضوعي لواقعها، بالرغم من التطور المادي وارتفاع مستوى رفاهية الفرد وحريته الشكلية وسعيه المتواصل نحو تحقيق ذاته عن طريق عقلنة ما يحيط به. وبهذا تحول العقل إلى “أداة” موضوعية استغلتها الطبقة الوسطى المسيطرة وسيّرتها حسب مصالحها.
كما يحلّل أدورنو الفكر الفلسفي التنويري وأثره في إخفاق العقل ومن ثم نقده، فيبدأ بكانت، الذي طور أول مفهوم فلسفي للنقد، حيث كان العقل قبل كانت في حالة استلاب أمام المطلق، وفي حالة قمع من قبل اللاهوت وسلطته المهيمنة. أما هيغل فكان أول من طبق الطابع الشكلي الذي قدمه كانت لتحليل التجربة الإنسانية من أجل اكتشاف حركة العقل وآليته الداخلية التي تجسدت في الجدل في جوهره السلبي لطبيعة الأشياء.
وإذا اتجه النقد عند كانت للبرهنة على محدودية العقل، توجه النقد عند أدورنو إلى الإنسان بالذات متأثرا بهيغل في صياغته للجدلية بوصفها تعبيرا عن السلب، الذي يتحقق بالعملية الجدلية.
تطورت النظرية الجمالية لأدورنو من خلال نقده لطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية في المجتمع الصناعي المتقدم وثقافته المصنعة، مركزا على المجتمع الاستهلاكي الذي يمارس قدرة على تحويل الثقافة الحقيقية إلى ثقافة جماهيرية استهلاكية، بسبب التسلط والقمع، اللذين لم يعودا يمارسان عن طريق المؤسسات العسكرية والأمنية، وإنما عن طريق السيطرة على وسائل الدعاية والإعلام وتسخير الثقافة والفنون
يرى أدورنو أن التطور العقلاني الذي انبثق من دور العقل نفسه، يحكمه قانون السيطرة وفق المعادلة التالية: الطبيعة / الإنسان، والإنسان / الطبيعة. إن هذه السيطرة خلقت وعيا جديدا أطلق عليه أدورنو “الوعي التكنولوجي” الذي جعل من العقل مجرد “آلة” انحرفت عن مسارها الموضوعي وتوجهت إلى خدمة مصالحها الخاصة. كما وجه أدورنو نقده في “الجدل السلبي” إلى العقل كموضوع ورفعه إلى قوة ديناميكية تقوم على قدرة تأويلية أخرى للعقل أطلق عليها “التفكير الثاني” الذي يعبر عن حركة جديدة تعمل ضد العقل، وبفعل عقلاني آخر يفرزه العقل نفسه. وبهذا يتحول العقل نفسه إلى رقيب على ديمومة جدلية لاسترداد طاقاته التي سلبها الواقع من دون السقوط في ميدان هيمنة الوعي السائد.
ويعتبر كتاب “الجدل السلبي” أهم ما أنجزه هذا الفيلسوف طيلة حياته كلها، حيث يعلن فيه ثورته العارمة على العقل الغربي دون هوادة، الذي خان مبادئه التنويرية أو انحرف عنها مما أنتج الفاشية والنازية وتخلى بذلك عن الرؤية المتفائلة للتاريخ وراح يصب جام غضبه على العقل الأداتي-النفعي للحضارة الغربية باعتباره عقلا شموليا واستئصاليا.
سوسيولوجيا الجمال
في نقده للحداثة وما بعد الحداثة في مجالات الفن والأدب والثقافة خرج عن سياق تفكيره في الجدل السلبي، حيث عالج في “جدل التنوير”، الذي صدر عام 1947 بالاشتراك مع هوركهايمر، مرحلة المجتمع الصناعي المتقدم الذي تميز بتقدم علمي وتقني أكثر صرامة، مركزا في نظريته “سوسيولوجيا الجمال” على مفهوم جديد أطلق عليه “الثقافة المصنعة”، محاولا تقديم تحليل نقدي لطبيعة المجتمع والفن والثقافة في مجتمع وصل إلى مرحلة متقدمة من الاستهلاك، وربط فيه بين الإنتاج الفني بجميع أشكاله ومظاهره ومحتوياته وبين وسائل الدعاية والإعلان والدور الاقتصادي المهيمن الذي تلعبه أجهزة الاستهلاك الجماهيرية.
يرى أدورنو أن الفن يتضمن خصائص معرفية، فهو مطبوع بأفكار التحرر التي تظهر بوضوح في الأعمال الفنية الراقية، وما يقرر ذلك هو الوسيلة التي تربط بين الشكل والمضمون، الذي يربط دوما بخصوصية اجتماعية تطبع العمل الفني الراقي وكذلك مضمونه، اللذين يحتاجان إلى وسيط، وهو الحماية النظرية، التي تدعم وظيفته النقدية.
فالفن له وظيفة نقدية، لأنه يخلق عالما جماليا جديدا معادلا لانغلاق الواقع ومواجهته، وفي ذات الوقت لتغييره. ففي المجتمع الصناعي المتقدم تصبح الحياة اليومية أداة سلب للوعي وقمعه، ولذلك فالعمل الفني يخلق “فضاء” لإعادة إنتاج الوعي الاجتماعي وتثويره ومنحه طاقة رفض جديدة يتجاوز بها ما يفرضه المجتمع الاستهلاكي من سلع مغرية، وبذلك يستعيد العقل قابليته على الحلم والتحليق في فضاءات غير محدودة، وهو فضاء التخيّل الذي يقود إلى إدراك الهوية المستلبة للواقع، وتشكيل موقف فكري سالب جديد. وبهذا فإن العمل الفني يشكل في الحقيقة الوسيلة الأخيرة الممكنة لحماية الوعي ومقاومة الاستلاب وإعادة اكتشاف قوة المقاومة الفنية، كما تظهر في الفنون وفي الموسيقى على وجه الخصوص، التي تمنح للفنون الحس المعاصر والحديث برفضها الواقع من أجل إعادة إنتاجه وتغييره، وخلق “الفن الأصيل” الذي يحمل إمكانية هدم ما هو قائم، والذي يمثل جميع أنواع الخلق الفني وليس التشكيلي وحده، الذي يتشبه بكل ما هو راهن وساخن ومغترب ويتطلب الجدة والتفرد والدينامية والتنافر، لأن الطابع المميز للتجربة الفنية هو المغايرة لما يجري في الواقع.
تطورت النظرية الجمالية لأدورنو من خلال نقده لطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية في المجتمع الصناعي المتقدم وثقافته المصنعة، مركزا على المجتمع الاستهلاكي الذي يمارس قدرة على تحويل الثقافة الحقيقية إلى ثقافة جماهيرية استهلاكية، بسبب التسلط والقمع، اللذين لم يعودا يمارسان عن طريق المؤسسات العسكرية والأمنية، وإنما عن طريق السيطرة على وسائل الدعاية والإعلام وتسخير الثقافة والفنون لمصلحته والالتفاف حولها وتزييفها. وقد أصدر أدورنو أحد أهم كتبه الموسوم بـ”النظرية الجمالية ” عام 1971 الذي شرح فيه مفهوم الفن وليس تاريخ الفن، وناقش فيه العلاقة بين الفن والمجتمع ومفاهيم الجمال والجميل والقبيح، والفن والتكنولوجيا، والجمال والطبيعة وكذلك الفن والميتافيزيقيا والعلاقة بين الذات والموضوع وغيرها. وإذا اعتبر أدورنو العمل الفني انعكاسا ماديا للواقع الاجتماعي السائد، فإنه لا يعبر عن طبقة ما، لأنه تعبير عن الكون الإنساني. وإذا كانت ملكة الفن هي التخيّل، فعلى المرء ألا يطالب بالتعبير عن طبقة معينة، وإلا تخلى الفن عن التخيّل الذي هو في ماهيته غير واقعي، في حين أن الطبقة هي مبدأ فعال في الواقع. وبحسب أدورنو، فإن ملكة التخيّل في الفن تربط بين الحساسية وعالم العقل، وعندما يتخلى الفن عن التخيّل فإنه يتخلى أيضا عن الجمالي، الذي يفصح عن الاستقلال الذاتي للفن عن نفسه ويسقط في الأخير في أسر الواقع، الذي يسعى الفن إلى فهمه وتجاوزه، وبالعكس فإن التخلي عن الجمالي يعني التنازل عن المسؤولية في خلق الواقع الآخر من داخل الواقع القائم. والتخيّل عند أدورنو هو عملية عقلية لها قواعدها وقيمها ووظيفتها الإدراكية، التي تقود إلى عالم الفن الذي يخفي وراءه الصورة الجمالية والانسجام الحسي والعقلي الذي يكتبه الواقع المعيش. ومن هنا تظهر مسؤولية الفنان في محاربة التشيؤ والتسلط والقمع.
نهاية أدورنو المأساوية
رأى أدورنو أن في القرن العشرين زمنا يهدم فيه العقل نفسه ليضيع في وعي تكنوقراطي وثقافة مصنعة وذلك بسبب الجدل السلبي لعصر التنوير، الذي عجز عن تجاوز محنته والخروج عن الطريق المسدود. وقد وجد في الفن والأدب والموسيقى قوة إبداع قادرة على أن تقول “لا” في وجه المجتمع الاستهلاكي. فالفن هو البديل والوسيلة الوحيدة للنضال ضد الرأسمالية، التي لم يفكر يوما في إمكانية القضاء عليها عن طريق الثورة، وأن المعرفة التي يصل إليها الإنسان عن طريق الفن، هي أعظم معرفة، أما المعرفة عن طريق العلم فهي معرفة قاصرة، لأنها تعكس الحقيقة فقط. كما أن تحرر الفرد من سيطرة الرأسمالية يتم من خلال الاحتجاج وليس عن طريق التحرر الجنسي، كما حدث في الستينات، وإنما من خلال “الفن الأصيل” الذي يحمل إمكانية هدم ما هو قائم ويعدُ دوما بالسعادة.
إن آراء أدورنو الموجهة إلى حركات الطلاب والشباب “الثورية” تذكرني بحادثة هامة كان لها تأثير على نهاية أدورنو المأساوية. ففي نهاية الستينات من القرن الماضي عندما كنت طالبا في جامعة فرانكفورت بألمانيا الغربية لدراسة علم الاجتماع حدثت واقعة هامة عايشتها عن كثب. فقد كان أدورنو يقدم للجيل الجديد من الطلاب والشباب نصائحه كي لا تقع ألمانيا مرة أخرى في براثن النازية أو الفاشية أو الأيديولوجية التوتاليتيرية، بعد أن أصبح مع هربرت ماركوزه ويورغن هابرماس “الضمير المفكر لألمانيا”، الذين أخذوا يفككون أيديولوجيا الحداثة الرأسمالية التي أدت إلى الخراب وأصبحت آراؤهم “الثورية” ذات التوجه الماركسي القاعدة الأيديولوجية للحركات الاحتجاجية من طلابية وعمالية ويسار متطرف وشعارات لازمة لمحاربة الرأسمالية الصناعية المتقدمة.
فخلال إلقاء أدورنو محاضرته حول “علم الجمال” في القاعة الكبرى بجامعة فرانكفورت في 22 أبريل 1969، تقدمت طالبات يلبسن جاكيتات جلدية، وكانت كل واحدة منهن تحمل في يدها وردة حمراء، من منصة أدورنو وخلعن جاكيتاتهن وتعرّين ثم قدمت كل واحدة منهن الوردة الحمراء إلى أدورنو بطريقة مسرحية ساخرة، احتجاجا على آرائه النظرية البحتة التي لم تنزل إلى واقع الممارسة العملية في الواقع الاجتماعي، فهو لم يكن مثقفا راديكاليا يشارك الطلاب والشباب في تظاهراتهم في شوارع فرانكفورت، وإنما كان يحاول تهدئتهم بآرائه “الثورية” واتهموه بأنه مفكر “رجعي محافظ” ومتواطئ مع البرجوازية. ولم يكن أمام أدورنو سوى النزول من المنصة بامتعاض والخروج من القاعة مصدوما. وقد توفى أدورنو بعد بضعة أشهر يائسا وحزينا بالسكتة القلبية وهو في الخامسة والستين من عمره.