نكسة

الجمعة 2020/11/06
لوحة: سارة شمة

أحسست فجأة برغبة جامحة في التبوّل وقوفا. يا إلهي كم أرغب في ذلك! تسارعت دقّات قلبي. سكنتني الفكرة وألحّت عليّ كناقوس يشقّ صمت الغرفة. رأيتُ أنيابي تصير أطول وثغري يبتسم واللّعاب يسيل منه من فرط الرّغبة. كنت واقفة في الحمّام أمام تلك اللّافتة المكتوب عليها باللّغة العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة “الرّجاء عدم التبوّل وقوفا” وقد تفنّنوا في رسم الكتابة العربيّة كمخطوط قديم يختزل الزّمن. على ذلك المسطّح اتّحدت الحضارات الثّلاث واتّفقت جميعها على منعي من التبوّل وقوفا. رفعتُ الغطاء، نظرتُ إلى الفوهة السّوداء المغمورة بالماء الآسن فبدت لي امتدادا من ماء النّيل العربيّ والسّين الفرنسيّ والتايمز الإنجليزيّ.

ارتفعت عيناي إلى اللّافتة الشّامخة أمامي في مكانها لا تثيرها عاصفة أفكاري ولا ضجيج مشاعري التي ملأت الغرفة. بدت لي أحرف اللافتة أكثر سمكا ولونها الدّاكن أكثر سوادا. بدا لي وكأنّه برز لها حاجبان كبيران مقوّسان وعين ثالثة ترمقني بها. تراجعت من الخوف، ولكنّني رفضت الاستسلام وعدت أمام الحمّام مباشرة أنظر إليها بإصرار “سأفعلها الآن…”، فتحت البنطال بل خلعته بأكمله. لكن كيف يمكن للأنثى أن تتبوّل واقفة؟ صدمتني الفكرة، تراجعت. ألا يحقّ لي ذلك؟ أحسست بالحزن، بالخذلان. سأفعلها رغم كلّ شيء. لا أحد هنا. تسارعت دقّات قلبي أكثر فأكثر.

جعلت الحمّام تحتي واللّافتة المشؤومة بحضاراتها الثّلاث خلفي… “أنا” السيّدة هنا، القرار لي، واللّحظة مِلكي. فرحتُ، أحسستُ بالنّشوة، نشوة الانتصار، ها هي قادمة، أشعر بها تكتسح المجاري البوليّة، ستهطل مطرا لتهزّ عرش الإنسانيّة جمعاء. جاءت اللّحظة الحاسمة.

أنا، أنا الإمبراطورة تسدّ بجناحيها الأفق. نظرت فإذا بي أتبوّل جالسة! كيف؟ كيف انحنت رُكبتاي؟ متى؟ في أيّ لحظة؟ من أعطاهما إذن التمرّد على قراري؟ لم أستطع النّظر إلى اللّافتة. نهضت من مكاني وقد احدودب ظهري واختفت أنيابي. أرّقتني الحادثة بقيّة أيّام مكوثي في المصحّة سجينة بين جدران تلك الغرفة اللّعينة.

صار الحمّام كابوسا مزعجا وصارت اللّافتة وحشا يقهقه عاليا كلّما اقتربت. يسخر منّي ومن خلاله ملايين المارّين من سراديبه. تجنّبت بعدها مواجهة تلك الكلمات ما استطعت، وكلّما اشتدّ بي الألم دخلتُ مسرعة وخرجتُ مهرولة وأنا لا أدري إن كنت قد استوفيت فعلا حاجتي. اعتبرت تجاهلي لها في حدّ ذاته انتصارا لكرامتي المنهوبة. ليت لي ذكرا لأتبوّل واقفة. لمَ حُرمت هذه المتعة. متعة الاغتصاب!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.