نهاية المثقفين الفرنسيين
تلك القضايا، وإن بدت في الظاهر محلية، كان لها صدى عالميٌّ واسع، منح الفرنسيين نوعا من النخوة والاعتزاز بمثقفيهم، وهو ما عبر عنه إدغار كينيه (1803-1875) في قوله «مهمة فرنسا أن تعمل لأجل مجد العالم، لها ولغيرها، لأجل مُثُل إنسانية وحضارية كونية لا تزال ساعية لبلوغها».
هذه النزعة إلى الالتحام بقضايا المجتمع تجلّت أيضا في دفق غزير من النظريات في المعرفة والحرية والوضع الإنساني، كما أن الأجيال المتعاقبة من المثقفين المعاصرين -ومعظمهم تكوّن في مدرسة المعلمين العليا بباريس- خاضوا جدلا حاميا حول معنى الحياة في كتب ومقالات وعرائض، مشكّلين بذلك منظومات فلسفية حول العقلانية والنخبوية والروحانية والجمهورَويّة والاشتراكية والفلسفة الوضعية والوجودية.
وقد بلغ هذا النشاط النظري الحثيث أوْجَهُ في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية بظهور البنيوية، وهي وفلسفة شاملة تركز على أهمية الأساطير واللاوعي في فهم الإنسان، من أهمّ رؤوسها ميشيل فوكو وكلود ليفي ستراوس.
وكان سارتر في نظر الكثيرين في الداخل والخارج رمز «مثقف الضفة اليسرى» بباريس، فقد رفع دور المثقف الجماهيري إلى ذروته، بفضل وعده الطوباوي بغد أجمل، ونبرته الراديكالية، واحتفائه بالأثر المطهّر للنزاع، وحياته البوهيمية التي تستهين بالتقاليد البورجوازية، وازدرائه المعلن للمؤسسات القائمة في عهده، سواء منها الدولة الجمهورية أو الحزب الشيوعي، أو النظام الكولونيالي الفرنسي في الجزائر، أو المنظومة الجامعية. ففي رأيه أن من واجب المثقف الملتزم أن يوقف نفسه للنشاط الثوري، وأن يضع كل الأورثودوكسيات موضع مساءلة، ويدافع عن مصالح سائر المضطهدين.
كان ذلك في عهد مضى، حين كانت فرنسا توصف بكونها بلد الأفكار، أما اليوم، فلم تعد «الضفة الأخرى» سوى أثر غائم لما كانت عليه من قبل، فمحلات الموضة في «إمارة سان جرمان دو بري التقدمية»، بعبارة عالم الاجتماع بيير غريميون، حلّت محل مؤسسات الأفكار. و»إذا استثنينا بعض الأعمال القليلة ككتاب توماس بيكيتي عن الرأسمالية، لم تعد باريس مركزا بارزا للتجديد في العلوم الإنسانية» كما يقول الموريسي سودير هازاريسينغ، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بأوكسفورد، في كتابه «هذا البلد الذي يحب الأفكار». وفي رأيه أنّ ما يطغى على الإنتاج الثقافي الفرنسي المعاصر نزوعه إلى السطحي والمسلّم به، كما يمثلهما برنار هنري ليفي، ورسائل الهجاء والانتقاد التي تتصدر المبيعات رغم أنّها لا تعدو أن تكون سوى هذر إسلاموفوبي أو تخويف يردّد رسالة حزب الجبهة الوطنية العنصري عن تدمير الهوية الفرنسية. ويضرب مثلا على ذلك كتبا كنا ذكرناها هنا، كـ»الهوية التعسة» لألان فيلْكِنْكراوت و»الانتحار الفرنسي» لإريك زمّور المشحونين بصور الموت والانحلال، ورواية «خضوع» لميشيل هويلبيك التي تتخيل وصول إسلاميّ إلى الرئاسة الفرنسية في خلفية تفتّت عام لقيم الأنوار في المجتمع الفرنسي.
ويفسّر هازاريسينغ ذلك بأن سقوط الشيوعية في نهاية القرن العشرين ترك فراغا لم تعرف «ما بعد الحداثة» مَلْأه. فكتابات مفكرين أمثال فوكو ودريدا وبودريار عمّقت المشكل، بسبب عتامتها المقصودة، وتقديسها لَعبًا بالكلمات لا يعني أيّ شيء، ورفضها إمكانية معنى موضوعيّ، وفي رأيه أن خير من صوّر خواء «ما بعد الحداثة» رواية الفرنسي لوران بينيه الأخيرة «الوظيفة السابعة للغة» وهي بحث بوليسي حول موت رولان بارت عام 1980.
الواقع الفرنسي نفسه لا يحمل على التفاؤل، فالتعليم الجامعي، باكتظاظه وقلة ما يرصد لإصلاحه، في تردٍّ متواصل، كما تدلّ على ذلك رتبة الجامعات الفرنسية في الترتيب الأكاديمي للجامعات العالمية بشنغهاي، لأنّ المنظومة التعليمية الفرنسية ما عادت تنتج نخبا خلاقة، كما كان الشأن مع سابقاتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. حسبُنا أن ننظر إلى الفرق بين الرئيسين الأخيرين ساركوزي وهولاند والرؤساء السابقين، من جهة القدرة على صياغة الأفكار والتعبير عنها بطلاقة، فشتّان بين هذين اللذين لا يكادان يقرآن شيئا، وبين ديغول الذي ترك مذكرات تعتبر من المآثر الأدبية، وبومبيدو الذي وضع أنطولوجيا عن الشعر الفرنسي. ولعلّ السبب الأهم في ضياع تلك الدينامية الثقافية الفرنسية هو الشعور المتنامي بتراجع القوة الفرنسية على الساحة الدولية، على المستوى المادي، وكذلك على المستوى الثقافي، ففي عالم تهمين عليه الولايات المتحدة سياسيا، والأنكلوساكسون ثقافيا، والألمان والصينيون اقتصاديا، يصارع الفرنسيون لإعادة ابتكار حضورهم. أليس غريبا أن الكتّاب الفرنسيين غير معروفين خارج حدود بلادهم، لا يستثنى منهم حتى الفائزون الأواخر بجائزة نوبل، كلود سيمون ولوكليزيو وباتريك موديانو، والحال أن أسلافهم أمثال موباسان وفلوبير ورامبو وبودلير وسان جون بيرس وبروست وكامو وسارتر ومالرو كانوا عابرين للقارات.
لا نستغرب، والحالة تلك، أن لا يستلهم انهيار الشيوعية وقيام ثورات الربيع العربي مفرداتهما من الفكر الفرنسي على غرار ثورات التحرر التي نهلت من كتابات فرانز فانون وسارتر، وأن تكون ألمانيا أكثر تمثلا لأفكار روسو في أزمة المهاجرين من فرنسا، التي لا تزال تتلكأ في استقبالهم.
قد يبدو هذا الرأي مغاليا، خصوصا إذا صدر عن الأجانب، ولكنه لا يخرج عما جاء في كتاب ريجيس دوبريه من إعلان عن نهاية المثقف الفرنسي منذ نهاية الألفية الثانية. خلافا لـ»خيانة الشمّاسين» (1927) لجوليان بيندا، وكان دعا فيه المثقفين إلى قطع ولعهم بالسياسة، أو «أفيون المثقفين» (1955) لريمون آرون الذي نصحهم بفتح عيونهم أمام حقائق ديانتهم الماركسية، ويعتقد الفيلسوف اليساري الثائر، أحد رفاق تشي غيفارا والمستشار الخاص للرئيس ميتران، في كتابه الجديد «المثقف الفرنسي، تتمّة ونهاية» أن الملحمة الثقافية الفرنسية غرقت في الخطأ والهذيان وانتهت اليوم في التافه المزري، وأن جثة المثقف الفرنسي لا تزال تتلوّى، فتتخذ أشكالا وتتصنع حركات، ولكنها لم تعد سوى شبحٍ مضحك. وما ذلك إلا تأكيد لما أثارته مجلة «جدل» (Débat) بمناسبة احتفالها بعشرينيتها، فقد دعا المؤرخ بيير نورا إلى التخلي نهائيا عن مصطلح «المثقف» وأضاف «إن كان سيظل مرتبطا بالهذيان والجرائم التي أفقدت المثقفين سمعتهم، وإن كان لا يغادر التراجيديا إلا ليتجدّد في الهزء والكوميديا، فمن الأفضل دفنه مع هذا القرن المنتهي».
وفي العدد ذاته، كان لميشيل وينوك وجان فرانسوا سيرينيلّي، وهما من كبار المؤرخين المتخصصين في المثقفين في فرنسا، الموقف نفسه عبر مقالتين بعنوان «فيمَ (لا يزال) يصلح المثقفون؟ «للأول، و»انطباع، شمس غاربة» للثاني، وقد استمد عنوانها من لوحة كلود مونيه الشهيرة. هذه الخيبة لا تخص العلماء والباحثين والكتّاب، بل أولئك الذين اكتسبوا من بينهم سمعة بأعمال تنتمي إلى الفكر، واستغلوا تلك السمعة لمغادرة مجالهم والتدخل في ما لا يعنيهم بعبارة دوبريه، وهو ما كان لخصه سارتر في قوله «مشروع التأثير هو الذي يميز المثقف عن الحكيم (أي الذي يسعى لحكم نفسه بنفسه عن طريق العقل) والعالم (أي الذي يبحث في الأشياء عن الحقيقة). فالحكيم يؤثر على العقل بالأفكار، والشاعر يؤثر على الواقع بالكلمات، أما المثقف فيؤثر على البشر بالكلمات والأفكار».
في «قاموس المثقفين الفرنسيين» يؤرخ جاك جوليار وميشيل وينوك هذا التراجع بأوّل وصول اليسار إلى الحكم، ما حرم المثقف الملتزم من راحة ثقافة المعارضة، فلم يبق أمامه إلا خياران: إما أن يشتغل على الإصلاح وتقديم مقترحات دقيقة ومفصّلة، وهذا أمر معقّد. وإما أن يتبنى الفكرة القائلة إن اليسار هو اليمين ومواصلة مناهضة الوضع السائد. ومنذ ذلك التاريخ ناب عن المثقفين الحق مثقفو الميديا. هؤلاء لم يعد لهم تقريبا علاقة بجامعة يَؤمّها طلبة لا يفكرون إلا في مستقبلهم، وما عادوا يقرؤون كتب المثقفين، لأن توزيع كتب العلوم الإنسانية الذي كان مزدهرا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين تراجع إلى أدنى حدوده، فلم تبق إلا وسائل الإعلام بأنواعها كمجال أخير للتأثير. غير أن ذلك أفقد المثقفين حريّتهم، إذ صاروا تحت رحمة صحافيين ينظمون مقابلات ساخنة على البلاتو، يحاول من خلالها كل طرف أن يثبت جدارة آرائه، وأهملوا القضايا الكبرى التي تشغل الناس حاليا كآفاق علم الوراثة وتدنيّ التعليم والمشكلة البيئية والرهانات الطاقية أو الديموغرافية وتراجع فكرة العالم الثالث.
فالغاية هي تسجيل حضور بات مستعصيا، وإبلاغ رسالة ما عادت تمرّ عبر الكتب، وإفحام الخصم ليس بمقالات فكرية عميقة تفوق الخمسين صفحة كما كان يفعل سارتر وكامو في ردودهما المتبادلة، بل بالشجب والتنديد والتخوين والتركيز على أخطاء الخصوم. ولا يهم أن يتقلب المثقف في مواقفه ويبدّل انتماءاته، بل قد يفخر بذلك كما يفعل البهلوان فيليب سولرس، فقد تقلّب بين الماوية والليبرالية والتحرر الجنسي وتقديس البابا يوحنا بطرس الثاني للوصول إلى مناهضة الراهنية على طريقة الاشتراكي ليونيل جوسبان رئيس الحكومة الأسبق الذي كان بدوره تروتسكيا. فلا غرابة عندئذ أن يصوّت الفرنسيون منذ بضعة أعوام لبرنار بيفو مقدم البرنامج التلفزيوني «فواصل» كأبرز مثقف.
والنتيجة كما يقول ريجيس دوبريه، الذي نفض يديه من المثقفين، أننا نشهد عودة إلى ثقافة العصر الوسيط، مع أدباء في مكتبتهم، ومهرّجين يتراقصون حول السلطة. وفي رأيه أن المثقف المهتم بمعاصريه، وبواقع عصره، وبالحقيقة، لم يكن سوى لحظة قصيرة كان افتتحها زولا.