هابرماس واللغة والتواصل
تشكل الكلمة أداة هامة من أدوات إيصال المعنى، فهي أصغر وحدة من وحداته، ومنها تتكون الوحدات الأخرى، كالعبارة والجملة. وفوق هذا تتمتع بقوة سحرية خارقة، تؤثر في نفوسنا وتعدل من سلوكنا وتوجه أفكارنا نحو معاني بعينها بهدف تحقيق مصالح وغايات معينة. وكل ذلك بسبب ما ارتبطت به من صبغة دينية، وما اكتسبته من منزلة اجتماعية تقليدية، أو بسبب مهارات لغوية فائقة توظّف في خدمة فنون الخطابة والكلام.
لذا نجد أن خلفية النظام اللغوي لأيّ لغة ليس مجرد وسيلة لإعادة إنتاج الأفكار، ولكن الصحيح أنه هو الذي يشكل الأفكار والبرنامج الموجه لنشاط الفرد الذهني لكل ما يتعلق بتحليل الانطباعات وطرح التصورات والأفكار اليومية، وإن صياغة وبناء الأفكار العقلانية لا تعتبر إجراءات مستقلة، بل هي جزء من النظام اللغوي.
وإنّ أحسن طريقة للوقوف على كيفية أداء اللغة لوظيفتها إنما تكون وقت الكلام الفعلي في موقف لغوي بسيط. أما اللغة فهي عبارة عن نظام من الرموز التي يستدعيها حدوث الكلام الفعلي ويشترك في هذه العملية كلّ من المتكلم والسامع. فالأول يشترك فيها بطريقة إيجابية بوصفه بادئاً، والثاني بطريقة سلبية بوصفه مستقبلاً. واللغة بفضل تمايز رموزها وتركيباتها الصرفية والصوتية فإن الثقافة السائدة لأيّ مجتمع هي انعكاس مباشراً للخصائص التي تتمتع وتتميز بها اللغة في ذلك المحيط الاجتماعي.
وفي هذا الاتجاه نجد أن اللغة تلعب دوراً خاصاً إذا تم استخدامها بشكل سلبي من خلال اللعب على المفاهيم والمصطلحات لتزييف الحقائق، أو في توجيه دفة الحوار لصالح الأقوى، أو ذلك الذي يغلب فيه “النسق الفحولي”، وفي ذات الوقت تستبعد الطرف الآخر، أو على أقل تقدير تعمل على تطويعه ليقبل بشروط ميزان القوى الذي تفرضه آلية الصراع من أجل البقاء والسيطرة.
فعلى سبيل المثال، نجد تأثير اللغة النخبوية في تحييد قدرات الآخر وإقصائه من خلال المثال التالي “حينما يكون اجتماع لأعضاء مؤسسة تجارية مؤلفاً من نساء ورجال، فإن الملاحظ أن الرجال في الغالب يستخدمون تشبيهات رياضية تشرح نجاحاتهم أو إخفاقاتهم، مثال ذلك “هذه حدود مربعنا والكرة في ملعبنا، واستمرت المفاوضات إلى الوقت الإضافي ولكن الهدف الأخير أعاد للفريق الأمل في المنافسة على اللقب“. هذه التشبيهات في حقيقة الأمر تتعلق باللعب وبطريقة الأداء التي تجهلها النساء لأن الغالبية منهن لا يمارسن تلك الرياضات، وبالتالي فإن اللغة هنا قد عملت على تهميش وإلغاء دور النساء المشاركات في الاجتماع في إبداء الرأي، وبالتالي تطبيع المرأة على الخضوع والاستسلام للقرارات التي يتخذونها، ولذا فإن استخدام هذه التشبيهات هو بطريقة أو بأخرى محاولة لإبعاد المرأة من الدخول في الحوار.
وينطبق ذلك أيضاً على الحوارات التي تتمركز حول القضايا العقدية الأحادية، حيث تستخدم اللغة في صياغة نظريات وافتراضات يتم تطويعها وربطها مع المقدس لكي تمنح الحصانة الشرعية للمستفيدين، وفي الوقت ذاته تسمح لهم بتوجيه دفة الحوار أو تقييده من خلال فرض تصوراتهم وآرائهم وحتى نزواتهم على المتحاورين، مما يمهد لهم الطريق بالاستحواذ على صنع وصياغة القرارات التي تكفل لهم الهيمنة وفرض الرأي الواحد، وفي ذات الوقت إلغاء الآخر وتحجيم قدراته في التواصل وإبداء رأيه، فمن شأن هذا الالغاء – إن جاز لنا التعبير- أن تختفي لدى الأشخاص القدرة الإبداعية أو الفكرية.
ولتجنب السيطرة والخداع في مثل هذه المواقف يرى يورغن هابرماس (1929-) الفيلسوف والمنظّر السوسيولوجي الألماني المعاصر من خلال نظريته حول الفعل التواصلي (Theory of Communicative Action) المرتكزة على العقلانية التواصلية، التي تمارسها ذات قادرة على الكلام والفعل بهدف التوجّه نحو التفاهم بين الذوات، تؤدي حكماً إلى عدم اللجوء إلى العنف أو إلى إلغاء الآخر والسيطرة عليه، وذلك بفضل قدرة الفعل التواصلي الذي يحدد العلاقات داخل مجالات عمومية قائمة على المناقشة والحوار متخذةً من المبادئ الأخلاقية أساساً لها، أطلق عليها هابرماس أخلاقيات المناقشة، التي تحكم العملية التواصلية حسب معايير متفق عليها.
ولكن تلك الأخلاقيات ليست مذهباً ولا نسقاً من القيم والمعايير الجامدة أو الثابتة، والدليل على ذلك، في أنه إذا تشكك أحد المشاركين في العملية التواصلية في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو إذا تعرضت أحد ادّعاءات الصلاحية للشك، أو لم يستطع المشاركون في التواصل تبريرها أو الدفاع عنها بالحجج العقلانية، فإن ادعاءات الصلاحية نفسها تصبح موضع سؤال، مما يؤدي إلى اختلال التواصل أو توقف، وفي هذه الحالة لا بد للمشاركين في التواصل إعادة فحص تلك الادعاءات من جديد ومراجعتها مراجعة نقدية لتصحيح أخطائها، ومعنى ذلك أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديمقراطية الحوار.
وهكذا نجد أن هابرماس يعتمد على البعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، وفقاً لشروط وقواعد أخلاقية (الصدق، والمصداقية، والحقيقة) تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها مما يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار، كما أن الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. وهذا يعني أن اللغة أداة للتواصل والتفاهم الإنساني وليست للسيطرة والخداع.