هاجس التحرّر في السيرة الذاتيّة النسويّة

رواية "بغداد وقد انتصف الليل فيها" لحياة الرايس
الخميس 2021/04/01
لوحة ستار كاووش

صدرت رواية “بغداد وقد انتصف الليل فيه ” للأديبة التونسيّة حياة الرايس في طبعتها الأولى عن دار ميّارة في تونس سنة 2018، تتناول فيها جانباً من سيرتها الذاتية مركّزة على فترة دراستها الجامعية التي قضتها الكاتبة ببغداد، خلال حقبة زمنيّة لها خصوصيّتها في التاريخ العربي الحديث.

“بغداد وقد انتصف الليل فيها ” نص سردي سيرذاتي يتموضع أجناسيًا في منزلة وسطى بين منزلتين، ذلك أنّه يتوسّل وسيطاً تخييليًا هو جنس الرواية ليقدّم جانبًا توثيقيًا تحضر فيه تفاصيل حياتها الشخصيّة (سيرتها الذاتيّة)، فنتج عن ذلك جنس هجين هو مزيج من الصيغتين السابقتين، أطلقت عليه الروائية اسم “رواية سيريّة”، بحكم تداخل المرجعي والتخييلي في تأثيث عوالمه، بشكل يخرق منذ البداية مفهوم الميثاق السيرذاتي الذي أسّس له فيليب لوجون في كتاباته الأولى، ذلك أنّه إذا كانت السيرة الذاتيّة “حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته” يراهن على مسألة التطابق (السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، تر: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 1994، ص 8)، ؛ فإنّ الروائية في هذا النص تعلن منذ البداية خرقها لهذا الميثاق/العقد، والتحرّر من إكراهاته حين تصنف نصها ضمن جنس الرواية، على الرغم من تحقّق بعض العناصر التي تحيل إلى أركانه (التطابق بين المؤلف والسارد والشخصيّة، الميثاق المرجعي)، مضفية على النص هويّة ملتبسة، تجمع بين الواقعي والتخييلي، تاركة لسوء الفهم وظيفة تأطير العلاقة المرتقبة بين النص والقارئ المفترض، ممّا يسمح بتعدّد أفق  التأويل والانتظار، كما يطبع الهويّة الأجناسيّة للنص بهاجس التحرّر الأنثوي، فتتداخل الأنواع الأدبية والأشكال التعبيريّة (الشعر، الأسطورة، الملحمة، الأغاني الشعبيّة..) على نحو يجعل النص الروائي أشبه بلوحة فسيفسائيّة.

 تستعيد الكاتبة الماضي من خلال تناولها جانباً من سيرتها الذاتية خلال فترة دراستها الجامعية التي قضتها ببغداد، خلال حقبة زمنيّة لها خصوصيّتها في التاريخ العربي الحديث. وهي تستعيد هذا الماضي لا بوصفه حقيقة مطلقة؛ بل بما يوهم بأنّه كذلك؛ لتوقع المتلقي في شرك هذه اللعبة السرديّة، التي يجد نفسه مدفوعًا لفك خيوطها المتشابكة، بالفضول أولاً بحكم أنّ “حديث المرء عن أخص خصائص حياته هو الذي يجعل قارئ سيرته الذاتية يجد نفسه فيه” (جورج ماي، السيرة الذاتية، تعريب: محمد القاضي وعبدالله صولة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2017، مقدمة الترجمة)، وبسحر الغواية الذي يمارسه العنوان ذو النسج الجمالي البديع “بغداد وقد انتصف الليل فيها”، الذي يتكرر صدى حضوره كلازمة على امتداد الفصل الأول، كيف لا، وهو ينطلق من فضاء “بغداد” المشحون بأبعاد حضاريّة كثيفة، ليقترن بفضاء زمني – “وقد انتصف الليل فيها” – ينفتح على معاني السمر والأنس التي تحيل المتلقي بدورها إلى عوالم شهرزاد في ألف ليلة وليلة.

لم نكتب؟

يحاول خطاب التصدير الإجابة عن سؤال مضمر مفاده “لم نكتب؟” وكأنّ الروائية تستبطن عوالم المتلقي لتتولّى تقديم ما يشبه التبرير، الذي يفتح الحقيقة على أوجهها المتعددة، ويضفي في الوقت ذاته مشروعيّة على خيار الكتابة بالنسبة إليها، لا بوصفه خيارًا شخصياً فحسب، وإنّما تعبيرًا عن حاجة مشتركة تتقاسمها مع بنات جنسها؛ رغبةً في تأكيد حضور المرأة ككينونة مستقلّة بذاتها.

ااا

يتمثل الخطاب الأوّل في مقطع مقتبس يعود للروائية التشيليّة إيزابيل الليندي، تحيل فيه إلى هاجس محاربة التغييب الذي يطال المرأة، فضلاً عن تأمّل مسألة كتابة الذاكرة وعلاقتها بالنسيان، تقول “إنّ حياتي تتجسّد حين أرويها وذاكرتي تثبت بالكتابة، وما لا أصوغه في كلمات وأدونه على الورق، سيمحوه الزمن حتما” (الرواية، ص 2)؛ فالكتابة سلاح تشهره المرأة في وجه النسيان الذي غالباً ما يطوي حضورها فتغدو هامشاً منسياً، كما أنّ كتابة سيرة الحياة على وجه خاص تغدو من خلال هذا المقطع أكثر وضوحاً، بوصفها استعادة لماض يتخلله بياض الصمت؛ لذا فهو يتجلّى لصاحبه كوهم يحاول تجسيده كتابةً “لتخليص الأنا مع حياتها من براثن النسيان، والنسيان آفة تلتهم كل شيء” (أحمد المديني، تحولات النوع في الرواية العربية بين مغرب ومشرق، ص 118)، ويقصد بالكتابة هنا تحويل الحياة إلى حكاية تنفتح على التخييل.

أمّا المقطع الثاني فهو لحياة الرايس، تلخّص فيه تصوّرها لفعل الكتابة، تقول “لا أستطيع أن أدوّن جملة في أيّ نص إلا إذا شعرت أنّ روحي استقرت بها واتّخذتها مسكنا… لأطمئن أن القارئ يمكن أن يطيب مقامه بها. النص لا يستطيع أن يتخلص من روح صاحبه أبدا” (الرواية، ص 2)؛ إذ تضفي هذه العبارة شاعريّة على مفهوم الجملة التي تغدو مسكن الروح ومستقرها، متجاوزة بذلك محدوديّة شرطها النحوي والدلالي؛ فبالكلمات تخلق المرأة وطناً بديلاً، يسع الروح في جميع أحوالها وأطوارها، ويترجم أحلامها ورؤاها، فيغدو متنفسها لتحقيق آمالها في التحرر من سطوة الواقع وإكراهاته، حاملاً بصماتها في الحنوّ واحتواء الآخرين (القارئ المفترض)، وقد دفعها هذا التصوّر إلى دحض مقولة “موت المؤلف” مؤكدة ارتباط النص بصاحبه ارتباطاً وثيقاً، يتيح له الانبعاث والخلود؛ لأنّ الحروف تحيي صدى ذكره وتبقي المعنى منفتحاً على التأويل، ومن أجل ذلك تنفصل الذات الكاتبة عن الذات المكتوبة التي تغدو تشكيلاً لغويًا، يعيد بناء الماضي بطريقة انتقائية، خاضعاً في الوقت ذاته لمنطق اللغة التي تتولّى كتابتها كيفما شاءت، فيما يشبه عمليّة تبادل أدوار “فليست الكتابة غير حياة ثانيّة تشتهي أن تكتبنا كما تريد” (الرواية، ص 3).

أن تكتب المرأة يعني أن تخرق الصمت الذي يلفّ حضورها، أمّا أن تخط سيرتها الذاتيّة فذلك ينبئ بإعلان الثورة والتمرد على أعراف المجتمع الأبوي وتقاليده، ورفض الخضوع لمنطقها، ثورة يقابلها فعل السفر كمحطة أولى تفتتح بها الروائية عالمها السردي، كفعل يعارض فكرة الثبات والانغلاق، لذا نجدها تردّد في مواضع كثيرة ما يوحي بتوقها إلى الانعتاق. تقول “في قلبي ينبت جناحان أكبر من عمري ومن حدود بلدي. من صغري أشعر أنني أعيش بقلب طائر لا يخفق ولا يرفرف إلاّ للرحيل والسفر” (الرواية، ص 10).

تحتفي الروائية باللغة العربية التي منحتها سرّ الخلود؛ فغدت وطناً يسع سقفه الجميع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، وببغداد التي فتحت أمامها فضاءات الرؤيا على اتساعها، فغدت لحظة دخولها على وقع تلك العبارة الساحرة التي يرددها صوت المذيع “بغداد وقد انتصف الليل فيها” أشبه بنبوءة حملت إليها أسرار الآلهة. تقول “وأنا كنت أظن أنني أسافر إلى بلاد شهرزاد لمواصلة الحكاية… وشمّ عبق ألف ليلة وليلة وتتبّع مساربها ودروبها السّاحرة. والتوحد بـ”عشتار” ربّة الحب والخصب… واقتفاء آثار جلجامش في البحث عن عشبة الخلود (…) مفتونة بسحر اللغة. يرجمني شيطان الإبداع الكامن بين الحرف والمعنى بشهاب يضيء السمع قبل البصر. ها أنني أدخل بغداد من باب اللغة الواسع” (الرواية، ص ص 7 – 8).

تتداخل سيرة الشخصية بسيرة المكان الذي اتخذته الروائية منطلقاً للشروع في سرد محكي حياتها، وخلافاً لما هو شائع في كتابة السيرة الذاتيّة، نجد أنّها لا تبدأ سردها من مرحلة الطفولة، وإنّما من لحظة وصولها إلى بغداد من أجل مزاولة دراستها الجامعية، وكأنّ هذه اللحظة قد شهدت ولادتها الثانيّة بوصفها ذاتاً واعيةً، فراحت تقدّم ما يشبه الشهادة عن حقبة زمنيّة لها طابعها الخاص في تاريخ الأمّة العربية؛ بحكم أنّها شهدت الالتفاف حول القضايا الكبرى (الوحدة، النهضة العلميّة، المد القومي…) وحملت في الوقت ذاته بذور الخراب (استبداد الأنظمة البوليسيّة)، لذا تحاول الروائية إعادة كتابة سيرة هذه المدينة؛ كي تنتشلها من واقع الدمار الذي طمس حاضرها، بفعل توالي الحروب والنكبات، وتخلّد صورتها المتوهّجة بوصفها حاضرة للعلم والمعرفة.

لقاء المشرق والمغرب

تكتب حياة الرايس سيرتها معتمدة ضمير المتكلّم، الذي مكّنها من استرجاع الماضي وتحليل وقائعه، وكذا استشراف المستقبل والتطلّع إلى فتوحاته، كما تكمن خصوصيّة توظيفه في الإحالة إلى ذات واعيّة، تعمد إلى تعرية الواقع وكشف خباياه، دون مواربة في إعلان مواقفها التي تتجلّى بكل جرأة ووضوح، سواء تعلّق الأمر بخياراتها الشخصيّة أم مواقفها الاجتماعيّة، بعيدًا عن هوس تلميع الصورة النمطيّة لهذه الأنا، وكمثال على ذلك، نجدها تقارب موضوع صدمة اللقاء بالمشرق بعين نقديّة مكّنتها من رصد الأبعاد الأنثروبولوجية الكامنة وراء الفوارق الهائلة التي راحت ترصدها في مجتمعها الجامعي الضيق، بوصفه نموذجاً مصغراً للمشهد العربي، خلال سياق تاريخي طغت فيه شعارات حزب البعث الراميّة إلى تأكيد الوحدة والتماثل “أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ولأنّها مسكونة بهاجس اللغة، كانت أولّ ما استقطب انتباهها، فبدت لها فاقدة للحياة بفعل تجفيف منابع الرقة والخيال في التواصل بها عند أهل المغرب بشكل عام، ما جعل وقعها يتراوح بين الحِياديّة والحِدَّة، في مقابل غناها بالنبض العاطفي الحي لدى المشارقة. تقول “ينساب الكلام والحديث والتعامل بينهن سلساً، بأريحيّة كبيرة دون تعقيد.

 ويفيض حلوا من أنفسهن السخية، بكل عبارات الكياسة واللطف والمجاملة (…) ويحزّ في نفسك أنك قادم من بلدان جافة في التعامل الاجتماعي. فنحن في تونس لا نتبادل كلمات الحب والود يومياَ وليست في قاموس حياتنا الاجتماعية، بل نجد صعوبة في التفوه بها حتى في المناسبات. أسلوبنا في الحديث جاف وناشف وجاحد وربما حاد في كثير من الأحيان إلا ما ندر. نظرا لطبع التونسي العصبي وضغط الحياة الصعبة. أو هي ترجع إلى أبعد من ذلك ربما لأجدادنا البربر” (الرواية، ص 89)، ولأنّها استقبلت هي الأخرى وفق صور نمطيّة عن الشخصيّة المغاربيّة في علاقتها باللغة العربيّة؛ قبلت تحدي إعادة بناء الصورة، بدل الانهزاميّة التي يتحلّى بها بعض المغاربيين حين يستبدلون لهجاتهم المحلّية بلهجة مشرقيّة لمد جسورٍ للتواصل السلس، فراحت تهذّب لغتها وهي صاحبة الإرث اللغوي الرصين. تقول “كنت أتلعثم في الأوّل وأرتبك.

عندما لا يفهمن كلماتي لغرابتها أو لإيقاعها السريع. فكنت أستنجد بالفصحى كحبل النجاة من عدم الفهم. ولكي لا تنفيني اللهجات وتغربني وتقصيني عن دائرة حواراتهن وأريحيتهن في الكلام. أنا التي أملك العربية جيدا من الكتّاب وأحب هذه اللغة بكل تلويناتها ولهجاتها. دخلت في هذا النسيج اللغوي عن وعي وطواعية وعفوية، فاخترت دارجة مهذبة وفصحى مبسطة. وبدأت أحاول تنقية لهجتي من كل تلك الكلمات التي طعمت العربية على مدى آلاف السنين من الأمازيغية والفرنسية والإيطالية وغيرها” (الرواية، ص ص 89 – 90)؛ فهويتها في آخر المطاف هويّة لغويّة نصيّة، تتجسد من خلال فعلي المحاورة والكتابة، ويظلّ تحقّقها مرهوناً بالحصول على الاعتراف.

جماليات سوء الفهم

للل

من المواقف الطريفة التي تستحضرها الروائية في هذا النص السير ذاتي وقع اختلاف اللهجات وما يحدثه من سوء فهم، لكنها لا تقف عند انسداد أفق التواصل نتيجة تباين المرجعيات والوسائط، بل تستثمر هذا المعطى لتلتقط ما فيه من جانب جمالي. تقول “كانت نهى التي لا تركز كثيرا معنا في الكلام. تسمعني أستعمل كثيرا كلمة ‘إنجّم’ التي تتردد كثيراً في دارجتنا التونسية. كانت تسمعها خاصة في دردشتنا الثنائية أنا وصباح عندما نجلس عند فنجان القهوة في ركن من الغرفة… حتّى أتتني مرّة بفنجان قهوتها، بعدما أفرغته في بطنها في رشفة واحدة. ولم يبق به غير آثار البن ومدّته لي متوسلة “وهلاّ إجا دوري. بليز…. إقرئيلي فنجاني…. نفسيتي كتير تعبانة اليوم” وعندما اندهشت منها وقلت لها إنني لا أعتقد في هذه الأمور، زعلت واعتبرت أنني أخص بذلك صباح فقط: ‘وليش بتنجمي  دائما مع صباح فقط؟’، ردّت غيرانة غاضبة وانفرطنا من الضحك” (الرواية، ص 90)؛ تحيل هذه الجزئية إلى مسألة الخطأ بوصفه خالقاً للمعنى وباعثاً له، سواء على صعيد القول أو الكتابة، وهنا نستحضر ما كتبه عبدالفتاح كيليطو في مؤلفه الأخير “في جوّ من الندم الفكري” قائلاً “خلافا لما كنت أعتقد في صغري، اتضح لي أن الخطأ ليس شيئا يحدث أو لا يحدث.

 إنه على العكس المكوّن الأساس للكتابة، معدنها وطبعها. أن تكتب معناه أن تخطئ. تساءل رولان بارت عن السكرتيرة المثالية التي لا ترتكب أخطاء حين تقوم برقن نص من النصوص، وأجاب: ليس لها لا وعي” (في جو من الندم الفكري، كيليطو انطلاقا من باشلار، العربي الجديد، الرباط 02-11-2020)؛ وكذلك الشأن بالنسبة إلى إساءة الفهم، فكلّ متلقّ للرسالة التواصلية يعيد إنتاجها من خلال مستقبلات خاصة، يشكلّ اللاشعور أحد أبرزها، وإن بدا الظاهر خلاف ذلك، فقد وجدت نهى في هذه اللفظة ممراً يعبر بها إلى عوالمها الروحيّة المستغلقة، لذا تملّكتها رغبة كامنة لقراءة طالعها؛ بغية اكتشاف المجهول الذي يلف قدرها، فلو لم تلق هذه اللفظة هوى في نفسها لما التفتت إليها، وانطلاقاً من هذه الرؤية يمكن القول إنّه إذا كانت النصوص اللاحقة تحمل في جوفها آثار نصوص سابقة؛ فإنّ سوء الفهم يحمل في جوهره الأثر الجمالي للمعنى.

لا مكان للسياسة

إنّ الرهان الذي عايشته البطلة في مسيرتها، وظلّت تناضل للانتصار فيه، هو عدم الخضوع لسلطة فوقية سواء كانت ذكوريّة أو سياسيّة، لكن كل ما حولها كان يوحي باستحالة تحقيق ذلك، خاصة إذا علمنا أنّ فترة دراستها ببغداد كانت تعد بمثابة سنوات المجد بالنسبة إلى نظام البعث في العراق (بين 1977 و1980)، ولكي تنقذ نفسها من الوقوع في براثن الواقع السياسي، الذي يستلب الذات محوّلاً إياها إلى بوق يردد صدى شعارات الولاء، في غياب مطلق للعقل والحس النقدي، ارتمت في أحضان الأدب الذي حرّر روحها، والفلسفة التي أحيت في نفسها شغف السؤال، فكانت بذلك تجلياً لشهرزاد جديدة، تتّخذ من اللغة والإبداع سلاحاً كي تنجو من حدّ السيف الذي يترصد زلاتها، ومريدةً من مريدي الفلسفة التنويريّة التي فتحت أمامها عوالم الميثولوجيا على اختلاف منابعها، مهتديةً في ذلك بفلاسفة بغداد، الذين صنعوا دهشتها، وعلى رأسهم “مدني صالح” صاحب الشخصيّة الملهمة والمواقف الثابتة، فرأت فيه امتدادًا للفيلسوف اليوناني سقراط، المتهم بتخريب عقول الشباب. تقول “إنّه يصالح الفلسفة مع الأدب بل يصالح الفلسفة مع الحياة والخرفان والبهائم والشجر” (الرواية، ص 114)؛ فنجاحه في إنزال الفلسفة من أبراجها العاجية، وجعلها في تماس دائم مع الحياة، حقّق مقولة العيش بالتفلسف، وجلب له سخط النظام الذي فشل في تدجينه.

لا تكتفي البطلة بتحقيق خلاصها، بل تدفعها مشاعر الحب التي نمت في قلبها تجاه أحد أبرز دعاة حزب البعث من الطلبة، إلى السعي لتحريره من سجن الأيديولوجيا، متسلحة بالأدب لخوض غمار هذه المعركة، ذلك أنّه كلّما حرم الإنسان من منابع الفن ازداد توحشاً. تقول “عرفت فارس أول ما دخلت كلية الآداب وقد كان خدوما، ساعدني كثيرا في حل مشاكلي أوّل السنة حتى تأقلمت.. يسأل عني كل يوم… يأتيني ببعض الكتب عن الفكر السياسي والوحدة العربية. وبعد ذلك اليوم الذي عزمني فيه على الغداء وصار يحكي لي عن حزب البعث على الكورنيش وينظّر لي عن مبادئه وشعاراته… ركبني تحد مجنون أن أروضه حتى يصبح رومانسياً” (الرواية، ص 150)، وكأنّها تتقمص دور شخصيّة البغي  في ملحمة جلجامش؛ لتمدّن أنكيدو، لكنّها تختلف عنها في الباعث على ذلك، وهذا ما جعلها تمنح الشخصيّة الأسطوريّة حياة أخرى تجدّد مساراتها.

هل النهايات بحجم البدايات؟

إنّ المتأمّل في طبيعة النصوص السيرذاتيّة يجد أنّها تتمركز جميعها حول الذات (كاتبة/مكتوبة) لتعيد بناء عالمها الداخلي المتعدد الأبعاد؛ فيفضي ذلك حسب صبري حافظ في مقاله الموسوم بـ”رقش الذات لا كتابتها، تحولات الاستراتيجيات النصية في السيرة الذاتية” إلى تحوّل عمليّة الكتابة “إلى رقش، وهي عمليّة تنطوي على قدر كبير من الزخرفة والتصحيف، ومقدار من الخداع والمراوغة لأن فيها قدرا من النرجسية مهما تتستر بالحياء والتواضع، ومقدار من ولع الذات الكاتبة بالذات المكتوبة”؛ لنا أن نتتبّع ذلك من خلال رصد مسار الشخصيّة عبر الفصول، إذ يتّضح إعلاء الساردة سقف التمرّد والتحرّر اللذين طبعا خيارات البطلة، وجعلاها تنجح في تشكيل ذات متفردة تسبح عكس التيار، سواء تعلّق الأمر بوضعيتها كأنثى في سياق مجتمع النساء الضيق، الذي يعيد إنتاج صورة المرأة الخاضعة لسلطة التقاليد في مجتمعات عربية محافظة، تعرّف فيها المرأة بالتبعيّة وبالاحتكام إلى وظيفتها لا حقيقة وجودها، أو تعلّق بعلاقتها بالسلطة بكل تمثلاتها؛ لكن المفارقة هي أنّ هذا المسار قد شابه في النهاية ما يشبه الانكسار، فبدت الشخصية شاحبةً، بعد أن فارقتها هالة التحرر، يحدث ذلك حين عادت إلى تونس بعد أن أتمت دراستها، والتقت بخطيبها “هشام” الذي بدأ مشروع الزواج بها بالخيانة، معيداً إنتاج الصورة النمطيّة للرجل الشرقي في علاقته بالنساء، وكأنّه شهريار، مسكونٌ بالشك والتوجّس، والسعي لفرض وصايته على المرأة بوصفها كائناً تنقصه الأهليّة.

تخرق هذه الصورة الجديدة للشخصيّة أفق انتظار المتلقي، بحكم عدم تطابقها مع خياراتها السابقة، إذ يتجلّى خضوعها لهذه المنظومة التقليديّة من خلال القبول بهذا الزوج على نحو جعلها تبدو مسلوبة الإرادة، والانسياق وراء رغبته في دفعها لطلب العمل من العميد مطلك (ممثل النظام العراقي) بعد أن نجحت سابقا في الإبقاء على طابع الحياد في ما يخص علاقتها بالسلطة السياسيّة، فجاءت مواقفها الأخيرة باهتة، وبدت مجرد ردود فعل عاطفية، انفعاليّة، لا ترقى إلى مستوى الفعل. تقول “بدأت أضيق ذرعاً بهذا التصرف الأحمق وهذه الغيرة المرضية والوصاية البائسة. وبدأت أفقد عفويتي وطلاقتي واختفت ضحكتي وحلّت محلها عبرة تؤلمني وبدأت فعلا أختنق (…) كنت أحس أنني تورطت بهذا الزواج النحس. وبقيت أفكر كيف أخلّص نفسي من هذا الأسر الذي وقعت فيه” (الرواية، ص ص 196 – 197).

لنا أن نتساءل في الختام: ألم يكن اختيار هذه النهاية المخيّبة لتطلعات المتلقي استراتيجيّة نصيّة تهدف إلى تحريضه على فعل الشك والسؤال، وتبقيه في دائرة الالتباس التي رسمتها الروائية منذ البداية، خاصة إذا علمنا أنّ مساري العودة والخيانة يحملان أبعاداً تأويليّة أخرى، تتعلّق بخيارات البطلة، إذ يحيل فعل العودة إلى معنى الردّة والنكوص، أمّا الخيانة فيحتمل أن تحيل إلى خيانة الشخصية لذاتها قبل أن تكون فعلاً خارجياً، ولعلّ هذا ما جعلها تنهي نصها بسؤال يعيد تطويق المتلقي لشدّه إلى تتبع المسار المفتوح للحكاية “وسافرنا إلى باريس كما أردت. ولكن هل جرت الأمور كما أريد” (الرواية، ص 199)؛ سؤال يتكرّر فيه فعل الإرادة الذاتيّة بعد أن تمّ تغييبها، ممّا يوحي بأنّ للحكاية انبعاثاً جديداً، يعيد إحياء هذه الذات بعد أن توارت إلى حين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.