هذا الشاعر هذه القصائد
ــ 1 ــ
“تَوْنَسَة” نشيدُ حبٍّ لتونس، أرضاً وشعباً، ماضِياً وحاضراً ومستَقبلاً. إنّه كتابٌ ــ بيان.
لا أريد هنا أن أتناول، نقدِيّاً، ما يقوله وكيف يقوله، فأروزُ التّجربة التي يصدرُ عنها، والفضاءَ الذي تفْتَتِحُهُ، وأشرح جوانبَه الجماليّة، إضافةً إلى احتضان هموم الإنسان التّونسيّ وتطلُّعاته. أترك هذه القضايا إلى قرّاء أيمن حسَن، بخاصّةٍ، وإلى التّونسيين، بعامّة. فمن مسؤوليّاتهم المباشرة، ثقافيّاً وسياسيّاً، أن يَتَدارَسوها لمزيدٍ من تَمحيص الواقع، ومن استقصاء ما مضى، واسْتِشْراف ما يأتي.
سيكون دَوْري في هذه المقدّمة مُحَدَّداً بطبيعتهِ المَوْضوعيّة: محاولة الكشف عن الرِّهان الإنسانيّ الحضاريّ الذي ينخَرِطُ فيه صاحبُ الكتاب، بوصفهِ شاعراً في المَقام الأوّل. وهو رهانٌ مصيريّ في معناه، وفي الصُّوَر التي تُجسِّد هذا المعنى. ولا تقتصِر، في الحالَين، على تونس وحدها، وإنّما تُشيرُ، بالنّسبة إليّ، إلى “أخواتها” – البلدان العربيّة الأخرى -.
ــ 2 ــ
هكذا أستعيد، شخصيّاً، بهذا الكتاب ذكرَياتٍ مُرَّةً، نَظَراً وعملاً، في كلّ ما يتعلّق بالتّأسيس لمجتمعٍ علمانيٍّ ديمقراطيّ، تَعَدُّديّ في مصر والعراق، وفي سورية ولبنان، تمثيلاً لا حَصراً، مجتمعٍ يرتبط بأرضٍ كانت مهداً وأساساً للحضارة الإنسانية، في مختلف الميادين، وبينها ميدان الوحدانيّة الدّينيّة القائمة على الوَحْيِ الإلهيّ وعلى الرُّسُلِ والأنبياء.
أستعيد، على مستوىً آخر، مسرحَ اللاهوت السّياسيّ، الذي أدّى، في الممارسة، إلى لاهوتٍ ضدَّ اللاهوت، وإلى دينٍ ضدَّ الدّين. أستعيد المسرحَ الذي استعادَ ظلُماتِ القرون الوُسْطى، ثقافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، وأنتَجَ “قادةً” و”جمهورا” يفكّرون ويَسُوسون ويعملون، كأنّهم يعيشون خارجَ التّاريخ الإنسانيّ الخلاّق، الحرّ، لا على الأرض، بل في خيامٍ تتدَلّى من السّماء، كأنَّ الأرضَ مجَرّدُ خرقةٍ، مُتَّكئين على أرائكِ يقينٍ مُطلَقٍ ومٌغلَقٍ، حالمين مأخوذين بتَسَلُّقِ السّلالِم التي توصِلُهم إلى أحضان ” النّعيم الأبديّ”.
في هذا تبدو بالنّسبة إليَّ، أهمّيّةُ الاستعادة التي أُشيرُ إليها. فهي تنقلنا إلى أفقٍ آخر في التّساؤُل حولَ الواقع الإسلاميّ العربيّ. يمكن، مثلاً، أن يُسألَ قادةُ هذا الإسلام العربيّ الذي يُواصِل انحدارَه، منذ سقوط بغداد في السنة 1258، عن هذه البلدان التي “يحكمونها” و “يملكونها” كأنّها مجرّد قُصورٍ ومُنْتَجَعاتٍ ومَخازِن: هل هي حقّاً كما يسمّونها “إسلاميّة عربيّة”، بالمعنى الثّقافيّ الدّينيّ، أم أنّها مُجرَّدُ ميادين ــ ملاعب للكرة السّياسيّة، على المستوى العالميّ؟ وهل الصّفة “إسلاميّة” أو “عربيّة” أو “إسلاميّة عربيّة” تقتضي إعادة النّظر جذريّاً، وعلى نَحْوٍ شامل، خصوصاً أنّها تطمس الإنسانَ ذاتَه، والأرضَ التي وُلِدَ فيها أو ينتمي إليها، وتطمس الأصولَ الأولى لحضارته. وبالأخصّ، لأنّها بلدانٌ فاشلة على جميع الصُّعُد، حتى على الصّعيد الدّينيّ المحض. فلقد نجحَ هؤلاء القادَة في القضاء على الإسلام بوصفه ثالث رؤيتين وحدانيّتين للّه والإنسان والعالم، وتركوا للأولى والثّانية، وإلى العبقريّات الآسيوية (الكافرة) بناء العالم ــ أدباً وفنّاً وفلسفة، إضافة إلى العلوم والتّقنيات في مختلف تجلّياتها وأبعادها، وحوَّلوا العالم الإسلاميّ العربيّ إلى آلة استهلاكيّة وحشيّة ــ إلى صحراء من القصور بمَعْنَيَيْها: قصور البذخ المُهين اللاإنسانيّ، والقصور العقليّ المعرفيّ الأكثر إهانةً.
ــ 3 ــ
في هذا الإطار، تحديداً، يُذَكِّر كتاب “تَوْنَسَة” بما ينبغي أن يكون مَدارُ الكتابة العربيّة، أدباً وفِكْراً، في المرحلة الرّاهنة، مرحلةِ التّحوُّلات الكبرى على جميع الصُّعًد، في تاريخ الإنسان.
والسّؤال الأساس الذي تفرضه هذه التّحوُّلات، ويطرحه هذا الكتاب، بشكلٍ أو آخر، يمكن أن نصوغَهُ كما يلي:
لماذا لا نرى مكاناً “لخير أمّةٍ أُخرِجَت للنّاس” على خريطة الإبداع البشريّ؟ لماذا لا نرى مؤسّساتٍ ترعى حقوقَ الإنسان نفسه، وحرّيّاته؟ لماذا لا نرى أثراً لخير أمّةٍ على خريطة العدالة، والمساواة والحرّيّة؟ لماذا تقف “خيرُ أمّة” في آخر أو أدنى مرتبةٍ من التقدّم الذي يحقّقُه “الكُفْرُ وأهلُهُ الكَفَرة”؟ ولماذا يسير التّخلُّفُ في هذه الأمّة طرداً مع تقدُّم العالم “الكافر”؟
الأخطر من هذا كلِّه، على المستوى الحضاريّ، يتمثّلُ في أنّ المسلم العربيّ، بفعل الثّقافة التي هيمَنَتْ وسادَت، نموذجٌ تلقائيّ على صعيد ما بعد الحداثة لرمزيّة نرسيس:
الفرديّة النّرجسيّة، والدّماثة الرّخوة المُستَرْخِية، السّريعة التّكَيُّف، والتي لا هاجِسَ لها غيرُ طلب اللذّة والاستمتاع، و”ثقافة” الاستباحة. كما لو أنّ هذا كلّه محاكاةٌ مسبّقة للحياة الأبديّة في الجنّة وحورِها ووُلدانها، وأنهار لبنها وعسلها.
في هذا كلّه يبدو الفكر الإسلاميّ العربيّ، بحصر الدّلالة، مَحكوماً بمنطقين مُتناقِضَين: الأوّل يؤكّد التّبَعيّة لصانع المادّة الاستهلاكيّة ــ “الكافر”، والثاني يؤكّد الانفصال عنه بتبَعيّةٍ دينيّةٍ تقليدية.
النّصّ الدّينيّ يقوم بعمل كلّ شيءٍ في هذه التّبَعيّة الثانية، و”الصّانعِ” “الكافر”، يقوم بعمل كلّ شيءٍ في التّبَعيّة الأولى.
وينتج عن هذين النّوعَين من التّبَعيّة تَطابُقٌ شبْهُ كاملٍ بين الواقع الإسلاميّ العربيّ وواقع ما بعد الحداثة: شهوة المال، وانفتاح أبواب الرّغبات الفرديّة، والاعتداد بالذّات التي لا تعمل ولا تفكّر، بقدر ما تلهو وتعبث، وغياب ثقافة المشروعات التاريخيّة.
إنّه عصرٌ من الفراغ، يبدو فيه العالم الإسلاميّ العربيّ كأنّه خرائطُ من الوَرَق، وكأنّ الإنسانَ فيه مُجرَّدُ دُمية.
ــ 4 ــ
“تَوْنَسة” كتابٌ يشير أيضاً، بشكلٍ أو آخر إلى أنّ قادةَ الجمهور الإسلاميّ، وفقهاءهم الذين يدورون في فلك سلطاتهم ومؤسّساتها، نجحوا على نَحْوٍ باهِرٍ، في تحويل الإسلام إلى دينٍ ضدّ الإنسان، بل إلى دين ضدّ الدّين، كما أشرتُ سابقاً.
وفي هذا حوَّلوا الثقافة العربية بلغتها التي نطقَ بها الوحْي، إلى ثقافة ضدّ الثقافة وإلى لغةٍ ضدّ اللغة، وفشلوا على مدى أربعة عشر قرناً في أن يحوِّلوا السلطة إلى دولة، أو أن يفتحوا طريقاً مَدَنيّاً بين أهل الأرض وأهل السّماء. بل إنّهم نجحوا في تعميم لغةٍ داخلَ العربيّة ضدّ الدّولة وضدّ اللغة في آن.
ولا أقول هنا، كما يُشاعُ عنّي جهلاً وافتراءً، إنّ العِلّةَ في الإسلام نفسه، وإنّما أقول إنّ العِلّةَ هي دائماً، سلباً أو إيجاباً، في عقل الإنسان ومستوى فهمه. فإذا كان العقلُ محدوداً فقيراً فإنّ النّصَّ الذي يَعْتَمِد عليه سيكون، مهما كان عظيماً في ذاته، محدوداً فقيراً ضحْلاً.
ــ 5 ــ
الكتاب الجدير باسمه، فضاءٌ مفتوحٌ يتحرك فيه القارىء بحريّة كاملة، وضوءٌ نفّاذٌ يخترق عتمةَ المستقبل. وفي هذا يكشف كتاب “تَوْنسة” عن مكبوتٍ لم يُتَحْ لأحدٍ أن يُفصِحَ عنه. ماذا يمكن أن يقول كتابٌ عن “تمصير” مصر، أو عن “سَرْيَنة” سوريا، أو عن “لبننة ” لبنان؟ أو عن “تعريق” العراق، تمثيلاً، لا حصراً؟
معظم السكّان في هذه البلدان يحلمون أن يهربوا منها! أن يهربوا، تحديداً، من “القادة” الذين يحكمون باسم “جمهور المسلمين”! لا يجدون في هذه البلدان “وطناً” أو “دولة” أو “مجتمعاً” ديمقراطيّاً، تعدُّدِيّاً، وإنّما يجدون سلطة ــ جيشاً، وقبائل، وعشائرَ، ومذاهبَ، وطوائف. أمّا الآية “لا إكراهَ في الدّين” فإنّها محفورةٌ سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، في العقول والقلوب، وفي المؤسّسات والممارسات بصيغة أخرى “لا إكراهَ إلاّ بالدين وفي الدّين”.
لكن، لماذا أرسل الله نفسُه أكثرَ من نبيّ؟ ما دلالة أن يكون له أنبياء ورسلٌ كثيرون في عصور مختلفة؟ ولماذا يرسل نبيّاً يسمّيه “الخاتم” و”حقائق” يسمّها المطلَقَة والنّهائيّة؟
هل الله فجأةً أحبَّ أن يصمت الصّمتَ الأبَديّ؟ هل خُتِمَ العالم، ولم يعُد هناك مجالٌ للتّغيُّر؟ ولماذا لم يولد الأنبياء مع ولادة الإنسان؟ أين كانوا قبل موسى وبقيّة الأنبياء؟ ولماذا حُرِمَت البشرية قبلهم من الهداية الإلهية كما علّمها الإله الواحد؟
تساؤلاتٌ أساسيّةٌ يجبُ أن يُعنى بها المسلمون العرب، لكي ينتقلوا في تَدارُس الديانات الوحدانيّة، إلى آفاقٍ معرفيّةٍ وإنسانيّةٍ، أخلاقيّة. أختمُ بها لكي لا يتحوّل “الإسلام العربيّ”، في ظلّ سياسة هؤلاء “القادة” وثقافة “جماهيرهم”، إلى مجرّد وسيلة، إلى مجرّد أداة، إلى مجرّد آلة. ولكي أكرّر التّأكيد على أنّ “المسلم العربيّ” لا يحتاج إلى ثورة بالإسلام، وإنّما إلى ثورة فيه ــ في فهمه، وفي ممارسته ــ ناسِخاً ومنسوخاً، في ضوء المعرفة الكونيّة الرّاهنة، وبالأخصّ في ضوء كشوفاتها وانقلاباتها الكبرى.
- (باريس، أول مارس، 2021)
المقال بمثابة مقدمة لديوان الشاعر أيمن حسن "تونسة" يصدر قريبا عن دار "خطوط وظلال" في عمان.
اقرأ أيضاً: تَوْنَسَةْ