هذه ترجمة الديوان ولكن أين الشعر؟

الاثنين 2019/07/01
غرافيك "الجديد"

يستقر لدى قارئ الترجمة الفرنسية التي قام بها أدونيس بمعية حورية عبدالواحد لمختارات من “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي”( LeDîwân de la poésie arabe classique) غاليمار، 2008)، أنّ الثقافة العربية فد فرطت في فرصة نادرة جدا للتأسيس لحوار أدبي عميق متين الجسور مع القارئ الغربي المشوق إلى التعرف على الشعر العربي في نصوصه الأصلية، وضيّعت على الناقد الأوروبي المتخصص سانحة مهمة للإحاطة بمجال زمني واسع المدى من تاريخ الشعر العربي وإدراك خصوصيات ديوان الشعر العربي القديم الفنية والمضمونية. فلقد أتيح لهذه الترجمة ما يجعلها تكون مشروعا أدبيا وثقافيا قائم الذات يمكن لفعله أن يمتد لسنوات طوال ويثمر إقبالاً على قراءة الشعر العربي قديمه وحديثه أيضا، ودراساتٍ غربيةً تنبثق منه، ومشاريعَ ترجميةً جديدة.

لقد وجدت هذه الترجمة سندا ماليا كريما، وأشرف عليها أحد أبرز الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وأشدهم تأثيرا في تحولات القصيدة العربية وهو في الوقت ذاته ناقد جريء طلعة خبير بأدق تفاصيل الشعر العربي القديم عارف بتاريخه معرفة دقيقة، وصدرت الترجمة في العاصمة الفرنسية باريس، وهي إضافة إلى لندن، من العواصم الغربية القليلة التي تهتم بالثقافة العربية وتعقد المجالس والندوات لدراسة أدبها والاستماع إلى شعرها، وتولّت نشر الترجمة أعرق دور النشر الفرنسية وأكثرها رواجا. إنّ هذه العوامل جميعا كانت كفيلة بأن تحقق ما يرتجى من كل ترجمة، أي أن تكون زورقا للحوار بين ضفتي الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، وبين ضفة الثقافة العربية وكل ضفاف العالم.

  ذلك أنّ المفهوم الذي نتبنّاه للترجمة وننطلق منه في تقييم ترجمة أدونيس وحورية عبدالواحد يعتبر الترجمة فعلا حضاريا يتجاوز بكثير صورته الإنجازية الأخيرة الظاهرة أي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى. إنها مؤسسة ثقافية قديمة قدم الوجود البشري فوق الأرض لا غنى عنها في تشكيل الأنا وعلاقته بالآخر، بل هي التي تحدّد صورة الأنا وتمنحه هويّته. الترجمة حوار مع الآخر ومع الذات أيضا.

صحيح أنّ الترجمة قد اتُخذت وتُتخذ دائما لأهداف أيديولوجية وحربية تندرج في سياق استراتيجيات الهيمنة على الآخر، ومع ذلك فهذه التوظيفات التصارعية عابرةٌ في التاريخ أما الخلود فللنصوص المترجَمة، ولحدث اللقاء المتجدّد عبر العصور بين الذات والآخر، وللرغبة التي لا تخبو أبدا إلى معرفة الآخر واكتشافه ومحاورته. إنّ النصّ المترجم يلبث في الأرض التي وصل إليها ويسكن اللغة التي ارتحل إليها، وكلّما تقدّم الزمن ازداد النصّ انكشافا عن المحرّك الحقيقي الباطنّي الذي كان سببا فيه. هذا المحّرك هو الحاجة إلى الآخر للتواصل معه والخروج من عزلة الموقع الجغرافي وعزلة اللغة، ومن ثَمّ معرفة الذات.

وتزداد أهمية تحقيق الترجمة الحوارَ الثقافي الحضاري إلحاحا، إذا ما كان المترجِم هو نفسه ينتمي إلى ثقافة النص المترجَم، وإذا كان الفعل الترجمي تسانده إرادة عامة لتولّي الأنا ترجمة نصوصه بنفسه وتقديمها إلى الآخر،  حينها يغدو هذا الحوار هو الهدفَ الأساسيَّ من الترجمة.

فالمفروض أن يقوم الآخر بترجمة نصوصنا ويختار هو ما يترجم لنا وفق ما يضع للترجمة من أهداف تتّفق وحاجاته الخاصة. أما في حالة الترجمة التي نحن بسبيل تقويمها، فالأنا هو الذي ترجم نفسه واختار من النصوص ما أراد تقديمه للآخر، وقد كان هذا الاختيار واسعا في الزمن ألمّ بعدد كبير جدا من الشعراء العرب منذ ما قبل الإسلام إلى القرن السادس للهجرة، شهيرهم ومغمورهم، جيّدهم ورديئهم، وفي ذلك أكبر الدليل على أنّ الخلفية العميقة لهذه الترجمة هي تقديم لوحة بانورامية عريضة للشعر العربي القديم. بيد أنّ المنجز الذي بين أيدينا قد فشل في أن يحقق هذا الهدف، وعجز عن أن يقيم دعائم ما سعى إلى بنائه. ولم يكن سبب الفشل عائدا إلى عدم التوفيق في الترجمة أساسا، فهذا هو الجانب التقني من العملية ويمكن لكل ترجمة أن تصيب فيه وتخطئ.

ولكنّ سبب الفشل الحقيقي هو في عدم الوعي تمام الوعي بالهدف الأساسي من الترجمة، مما جعل المترجميْن يهملان أمورا كثيرة كانت كفيلة بمساعدتهم على تحقيق ذلك الهدف، ويتسرعان في إنجاز العمل ولا يصبران على عملهما ما يلزمهما من الصبر والتحري والتدقيق.

لقد بدت الترجمة في الغالبية الغالبة من فصولها عملية تقنية في المقام الأول أحسنت أحيانا في عملية نقل الكلمات العربية إلى اللغة الفرنسية وترجمة المعاني، وقصرت في أغلب الأحيان فسقطت في هفوات “فظيعة” لا تغتفر للطلبة، ولم تجاوز في كثير من المناسبات أن تكون رصفا لمرادفات فرنسية تلاحق العبارات العربية. كأننا نتصفح ونحن نقرأ هذه الترجمة معجما مزدوج اللغة يعرض أمامك القسم الفرنسي وتجد القسم العربي منه في النصوص الأصلية إذا ما عدت إليها، وإذا ما استطعت أن تهتدي إليها خاصة. ولكن أين الشعر وأين الشعرية؟ ثم قبل ذلك أين الرؤية الأدبية والفكرية؟ وأين المترجَم له في النص؟ وأين المترجِم؟ أين الشاعر؟ أين أدونيس؟

العتبات

ما من شك في أنّ النص الترجمي هو من أكثر النصوص احتواءً على ما يسمّيه الناقد الفرنسي جيرار جونات (Gérard Genette) بالعتبات (Seuils)  وهي كل المواد النصية والصورية والعلاماتية التي تحف بالنص الأدبي وتتضافر لتوجيه قراءته والتفاعل معه (العنوان، العنوان الفرعي، صورة الغلاف، المقدمة، التعريف بالمؤلف، الشروح والتعليقات الداخلية…). فحرصا من المترجم والناشر على يسر بلوغ الترجمة إلى القارئ المنتمي إلى لغة وثقافة مختلفتين عن لغة النص الأصلي وثقافته، نرى النص الترجمي يلج الكتابَ وقد ازدحمت من حوله العتبات. أهم هذه العتبات مقدمة المترجم التي تعرّف عادة بالنص المترجَم وصاحبه، وتلقي أضواء على أهداف الترجمة والصعوبات التي تكبّدها المترجم والمنهج الذي اختاره في الترجمة، ومن المقدمة يمكن أن ندرك مجمل فلسفة المترجم في الترجمة الأدبية ومواقفه، خاصة إذا تعلق الأمر بترجمة الشعر، من قضايا الإيقاع في الترجمة، والعلاقة بين ترجمة المعنى وترجمة الصور، وطريقة اختيار اللفظ.

تلي مقدمةَ المترجم في الأهمية الشروحُ والتعليقاتُ الداخلية التي تواكب النص وتسجَّل في هوامش الصفحات كلما رأى المترجم وجوب تدخله. ولئن كانت هذه التعليقات تقع على الهامش ولا ينظر إليها بوصفها كتلة نصية مستقلة عن النص الرئيسي فإنها في الحقيقة لا تقلّ أهمية عن مقدمة المترجم بل لعلها تفوقها في تأسيس علاقة تخاطبية تداولية بين القارئ والترجمة وصاحب النص الأصلي والمترجم. ذلك أنّها تتكفل بنقل كل ما يهمّ عملية الترجمة الفعلية، فنجدها تتضمن شروحا لما يغمض في النص، وتحيل إلى العبارات الأصلية والمقابلات المختارة من المترجم، وتقدم تعليلا لبعض الاختيارات دون غيرها، وتبوح باستحالة ترجمة بعض العبارات والصيغ الواردة في النص.

 وتكشف عن الخلفية الفلسفية والفكرية فيه، وتبيّن الاختلاف الحضاري الكامن بين اللغة الأصلية واللغة المترجَم إليها في بعض الاستعمالات اللغوية والبلاغية والاصطلاحية (Les Idiomes)  يوردها المترجم تفسيرا لبعض الإكراهات التي تسلطت على عمله وجعلته ينساق المساق الذي ارتآه، وقد تصوّب ما ورد من أخطاء معرفية في النص الأصلي.. إنها باختصار كشّاف الترجمة ودليلها وجزءٌ من الحوار الذي يقيمه المترجِم مع النص الأصلي من جهة وقارئه الجديد من جهة أخرى، إنها حوار مع ماضي النص ومستقبله، وهي في بعد من أبعادها سيرة المشروع الترجمي إذ يقحم فيها المترجم كثيرا من المواد التي استعملها في حجرته وهو عاكف على الترجمة، وهي في نهاية الأمر أداة لتقوية الترجمة ودعمها وجعل النص الأصلي أليفا لدى القارئ الغريب عنه.

لا شيء من ذلك في ترجمة أدونيس وحورية عبدالواحد. لا شيء. إنها ترجمة فقيرة جدا من حيث العتبات والنصوص التوجيهية، والأخطر من ذلك أننا لا نلمس البتة أيّ وعي حقيقي بأهمية العتبات في النص الترجمي ولا نرى لدى المترجميْن أيّ حرص على استثمارها، والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى ما قلناه آنفا وهو أنّ هذه الترجمة لا تخاطب قارئها لأنها غير معنيّة بإقامة حوار مع الآخر ولغته وأدبه، فجلّ مرامها أن ترصف مقابلات لغوية فرنسية للنص العربي وتؤدي المعاني والدلالات.

 المقدمة إذن هي ترجمة لنصوص أدونيس، وليست مقدمة أدونيس للترجمة… إنها تعود القهقرى إلى ماضي كتابات أدونيس ولا تحدّث القارئ الفرنسي عن النص الحاضر بين يديه

لنبدأ بمقدمة المترجم. فغلاف الكتاب يبشرنا باشتماله على مقدمة بقلم أدونيس، وهي من حيث الحجم طويلة طولا ينبئ بغناها (22 صفحة) واستيفائها كل ما ينتظر معرفته من مقدمة المترجم عامة: ماذا ترجم؟ لماذا؟ كيف؟ ما هي الصعوبات التي واجهها؟ وأيّ الحيل ابتدعها؟ وإلام يتطلع من تعريفه القارئ الفرنسي بالشعر العربي القديم؟ ونشرع في قراءة المقدمة ونأخذ في المرور من صفحة إلى أخرى وفي كل مرة نقول في هذه الصفحة بغيتنا، لكننا ننهي القراءة ولا نظفر بشيء، فما كان جرينا إلا كجري التائه وراء سراب الصحراء. ذلك أنّ المقدمة إن هي في الحقيقة إلا فقرات ومقاطع من مقدمة أدونيس للجزء الأول من أنطولوجيته “ديوان الشعر العربي” التي تتقاطع وكتابه “الثابت والمتحول” وتشكّل مختصرا منتخبا من مجمل أفكار أدونيس الشهيرة عن اللغة الشعرية وخصائص الشعر العربي القديم في إطار ثنائيتي الثابت والمتحول، والقدامة والحداثة، مع التركيز على تفرّد عدد من الشعراء كأبي نواس وبشار وأبي تمام خاصة. ونفاجأ في آخر المقدمة بإشارة تثبت أنّ هذه الترجمة هي بقلم أدونيس ولكن بترجمة حورية عبدالواحد شريكته في الترجمة. وفي ذلك إقرار بأنّ المنطلق هو مقدمة أدونيس للأنطولوجيا، وقد وقع اقتطاعها من مظانها الأولى وإلصاقها مترجمة في هذه المقدمة.

إنّ المقدمة إذن هي ترجمة لنصوص أدونيس، وليست مقدمة أدونيس للترجمة… إنها تعود القهقرى إلى ماضي كتابات أدونيس ولا تحدّث القارئ الفرنسي عن النص الحاضر بين يديه وتبني معه قراءة مستقبلية لنص شعري عربي قديم… وما هكذا تكون مقدمات الترجمات التي يعي صاحبها أنها ترجمة، وأنها حوار مع الآخر، وأنها باب يفتح على الآتي وإن كانت الطريق تمرّ بالماضي.

لقد قرأنا “الثابت والمتحول” ومقدمة “ديوان الشعر العربي” وأعجبنا بنصوص أدونيس النقدية وتعلمنا منها وما زلنا نتعلم، ولكنّ القارئ الفرنسي الذي يقدم على قراءة الشعر العربي القديم لا يحتاج إلى دراسة نقدية عن الشعر العربي عامة مهما كانت طرافة تلك الدراسة وأهمية مضامينها. إنه يحتاج بالأحرى إلى تقرير عن الترجمة نفسها وخطاب ذكي يحبّبه في قراءة الترجمة، ويقنعه بضرورة أن يستغل الفرصة وينفتح على هذا الآخر العربي، ويعده بلآلئ كامنة في أعماق بحر الكتاب. وكان يمكن المحافظة على هذه المقدمة، ولكن بشرط أن يتضمن الكتاب مقدمة حقيقية للترجمة. ولعله كان يحسن أن تقوم بها شريكة أدونيس في العمل.

أما الهوامش الداخلية فهي قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عدّا، هزيلة النفع لا تسدّ حاجة القارئ الغريب عن الشعر والثقافة العربيين إلى كثير من المعلومات السياقية التي تدخله عالم القصيدة، وتفسّر له دقائق من الصور وأسرار المعاني الثواني المشدودة إلى حقول أخلاقية ودلالية ورمزية يصعب على غير العربي الإحاطة بدقائقها، كأسماء الأماكن، والرياح، والأعلام، والمواسم، والأساطير…

ونكتفي في هذا السياق بذكر مثال واحد فقط عن الضرر الكبير الذي يلحقه “الشحّ” بالهوامش التوضيحية في حسن قراءة النص وبلوغ معناه الدقيق. فلدى ترجمة بيت أبي تمام في مدح المعتصم بعد فتح عمورية:

  ما ربعُ مَيّةَ معمورا يَطيف به    غيلانُ أبهى ربى من ربعها الخرِب

لن نشير هنا إلى صمت المترجميْن عن الإشارة إلى ظروف إنشاء القصيدة وتوضيح اندراجها في غرض المدح، بل نكتفي بذكر مسألة لا يمكن للمترجم أن يتغاضى عنها ويزهد في شرحها للمتلقي وهي ورود الاسم العلم “غيلان” في البيت. فأنّى للقارئ الفرنسي أن يدرك هوية هذا الشخص (الشاعر غيلان بن عقبة، ذو الرمة) وصلته بربع ميّة، ويدرك من ثَم قيام الصورة الشعرية على علاقة التقابل بين ربع مية المعمور وربع عمورية الخرب، ورغم ذلك فأبو تمام يفضل الخرب على المعمور مستظهرا بطريقة مخاتلة تفوّقَ قدراته التصويرية على قدرات ذي الرمة.

ولا بدّ من التنبيه إلى مسألة لفتت انتباهنا في العيّنات التي درسناها، وهي سعي المترجمين إلى تفسير بعض ما ألغز في النصوص الأصلية داخل الترجمة ذاتها. ولئن أعفاهما ذلك إلى حدّ ما من الهوامش التوضيحية فإنه وسم الترجمة بصبغة نثرية ركيكة وذهب بما في النص من مجاز وكناية. ونسوق على ذلك مثالا هو بيت امرئ القيس:

   وإن تكُ قد ساءتكِ منّي خليقةٌ           فسُلّي ثيابي من ثيابكِ تَنسُلِ

فعبارة “ثياب” قرئت قراءتين إحداهما تحملها على معنى القلب وهذه القراءة الأقرب للصواب، وقراءة أخرى تأخذها على ظاهر اللفظ وتعتبر معناها اللباس. وقد مال المترجمان إلى اعتبارها القلب، فما كان منهما إلا أن ترجماها بكل بساطة بعبارة (« cœur » القلب)(ص34)، فقفزا على الصورة المجازية وتحوّلا من مترجمين إلى شارحين! وما كان عليهما إلا أن يترجما الصورة المجازية ويشيرا في الهامش إلى الدلالة الثانية في البيت. وفي ذلك ما يقوم دليلا مرة أخرى على أنّ غاية المترجمين الأولى لم تكن ابتداع ترجمة شعرية للنص العربي، بل الإسراع إلى التفسير وتنثير الشعر بالتركيز على ترصيف المرادفات اللفظية والتصريح بالمعنى.

وقد ذيّل الكتاب بتعريف موجز جدا للشعراء المترجم لهم اكتفي فيه بذكر الاسم أو الكنية كاملين وإيراد ما يرجّح أنه تاريخ الولادة وتاريخ الوفاة، وبدا الترتيب التاريخي لهؤلاء الأعلام هو حجر الرحى في هذا الملحق التعريفي. وقد استغربنا شديد الاستغراب لعدم احتواء الكتاب على تعريف بالمترجميْن ومُراجعه الشاعر الفرنسي ليونال راي (Lionel Ray) واسمه الأصلي روبير لورهو.(Robert Lorho) 

فقد جاء الكتاب خاليا من أيّ إشارة بيوغرافية إلى هؤلاء الثلاثة تعرّف بهم لدى القارئ الفرنسي وتبيّن وجه الصلة بين كل واحد منهم والترجمة من جهة، والشعر العربي من جهة أخرى. فمن حقنا أن نعرف إن كانت الباحثة حورية عبدالواحد المختصة في علم التحليل النفسي، تمارس كتابة الشعر أم لا؟ وهل لها اهتمامات سابقة بالشعر العربي أم لا؟ ولا بأس أن نحاط علما بعلاقة ليونال راي باللغة والشعر العربيين، وهل تكفّل بمراجعة الترجمة فعلا أي مقارنة النص الترجمي بالنص الأصلي؟ أم اكتفى بمراجعة النص الفرنسي فحسب؟

كل ذلك ظلّ طيّ المجهول، وظلّ القارئ ظمئا إلى معلومات بسيطة لكنها مهمة جدا لانعقاد حوار حقيقي بين المترجم والمترجم له. ومن شأن هذا النقص، إذا أضفناه إلى بقية مظاهر الفقر المدقع للنصوص الحافة بالترجمة، أن يؤكد الانطباع العام بأنّ هذه الترجمة لم تنبن على دعائم صلبة تجعل منها مشروعا أدبيا وثقافيا وحضاريا يمتد في الزمن، بل جاءت عجولا متسرعة وكأنها عمل عرضي عابر.

المختارات

لم يكن أدونيس "عادلا" في تقسيم الحضور بين الشعراء
لم يكن أدونيس "عادلا" في تقسيم الحضور بين الشعراء

لا يُسأل المترجم عن مختاراته فالاختيار مقوّم أساسي من مقومات عمله وتميّزه، وهو ينبئ بخصائص شخصيته الأدبية والفكرية. لذلك فإنّ تقويم الترجمة وتقدير مسيرة المترجم يأخذ بعين الاعتبار ما اختار ترجمته وآثره على غيره. ولعل الاختيار هو الذي يفرّق بين مترجم وآخر، وهو بوابة الإبداع في الترجمة. فليس من يختار الأعمال التي يهفو هو إلى ترجمتها كمن ينادى ليترجم نصا اختاره غيره. ولكنّ الإقرار بأنّ الاختيار شخصيّ لا يعفي المترجم من أن يفسّر لقارئه الدوافع التي أملت عليه أن يصطفي نصا من النصوص يترجمه، فمعرفة تلك الدوافع جزء أساسي من الحوار بين المترجِم والمترجم له.

ويبدو في ظاهر الأمر أنّ حقل الاختيار أمام أدونيس (يشير غلاف الكتاب أنّ الاختيار يعود إلى أدونيس فحسب دون شريكته في الترجمة) كان ضيّقا جدا بما أنه قد ألزم نفسه بترجمة “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” في مساره التاريخي الخطي منذ البدايات الأولى مع الشاعر الجاهلي إلى القرن السادس ومراحل السقوط. وقد عاضد هذا الإطارَ التاريخي العمودي مسارٌ أفقي كميّ حرص فيه أدونيس على أن يجمع أكبر عدد من الشعراء القدامى نسجا على منوال مختاراته في أنطولوجيا ديوان الشعر العربي.

 بيد أننا ما إن ندخل النص حتى نكتشف أنّ الترجمة قد خضعت فعلا لعملية اختيار، ولم يكن أدونيس “عادلا” في تقسيم الحضور بين الشعراء، بل جاءت النصوص المختارة لهم متفاوتة شديد التفاوت حجما وقيمة. وهذا دليل على أنّ الاختيار بل الانتقاء قد تمّ. ولكن على أيّ معيار؟ لا جواب. وإذا ما حاول المرء أن يصنع جوابا بمفرده انطلاقا من تأويل قيمة حضور كل شاعر مقارنةً بغيره، فإنه سيصطدم بملاحظات جليّة واضحة لكنها لا تثير في من كان خبيرا بأدونيس وآرائه النقدية إلا الاستغراب والحيرة.

فرغم تعلق أدونيس في كتاباته جميعا بما في ذلك مقدمة الأنطولوجيا، بمن سمّاهم “شعراء الهامش” ونفوره من الشعراء الرسميين، فإننا نجده في الترجمة لا يحفل كبير احتفال بشعراء الهامش ويخص الشعراء “المقولبين” المكرّسين نقديا والذائع صيتهم بالنصيب الأكبر من المختارات، فلم يخصص لبشار مثلا إلا صفحة أو يزيد قليلا، ومنح ديك الجن صفحتين، وهو الذي أسهب في مدحهما والتعظيم من شأنهما.

ورغم إجلال أدونيس الشعر الصوفي واعتباره أبرز أصوات الحداثة في الأدب العربي القديم فإنه لم يترجم لأعلامه إلا النزر اليسير، فغاب ابن الفارض ولم ينل الشريف الرضي إلا صفحة واحدة. ويعجب المرء أيّما عجب حين يرى أنّ شاعرا في قيمة عنترة لم يترجَم له إلا بيتان فقط، فلا نملك إلا التساؤل كيف غفل أدونيس عن عشرات الأبيات الرائعة لعنترة في وصف الخيل والحرب والغزل كان يمكن ترجمة ما يكفي منها لإعطاء فكرة واضحة للقارئ الفرنسي عن شاعر صارع الدهر والبشر من أجل الحرية؟ وبمثل هذا الاستغراب نواجه تخصيص أدونيس صفحة واحدة لمهيار الديلمي الشاعر المتمرد الذي اتخذه قناعا له في ديوانه الأول “أغاني مهيار الدمشقي”.

وقد يُردّ علينا بأنّ هذا التفاوت في الحجم أملاه ضيق المدى والخوف من تضخم الكتاب. وكان يتوجب على أدونيس حقا، لو صح هذا الافتراض، أن يختار بين أمرين: إما أن يختزل في الامتداد التاريخي للترجمة فيقصرها على عدد محدود من الشعراء، أو يسير باختياره إلى منتهاه ويجعل الترجمة تأخذ مداها النصي الملائم لاتساع مداها الزمني فتكون في أجزاء عديدة مع ما يستوجبه ذلك من تأنّ وتركيز ورغبة حقيقية في تقديم صورة أمينة لتنوع مشارب الشعر العربي القديم وتعدد وجوهه. أما أن تصدر ترجمة لـ”ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” في ثلاثمئة صفحة من الحجم المتوسط وبكل ما رأينا من فقر في التوثيق والعتبات النصية المرافقة، ففي ذلك استهانة كبيرة بكنوز شعرنا القديم.

الهفوات

لا نقيّم هنا ترجمة أدونيس وحورية عبدالواحد انطلاقا من هفوات الترجمة، فهذه مسألة تقنية كما قلنا يمكن أن ترد في أيّ ترجمة. وإنما الذي يعنينا في المقام الأول هو محاسبة ترجمتهما من زاوية نجاحها أو فشلها في إرساء دعائم مشروع للتحاور مع الآخر والتوفق في حسن التعريف بالشعر العربي القديم في الثقافة الفرنسية. ورغم ذلك فقد حوت هذه الترجمة من الأخطاء المهولة كما وكيفا ما يجعلنا لا نستطيع التغافل عن هذا الجانب السلبي في العمل المنجز، لاسيما وأنّ من الأخطاء التي سجلناها ما يؤنَّب بسببه الطلبة المبتدئون.

وقبل أن نقدّم أمثلة مختصرة من هذه الهفوات نشير إلى عيب كبير جدا في العمل نعتبره خطيئة الخطايا التي وقع فيها المترجمان، ويتعلق بالمنهج المتّبع في الترجمة. فما يعتم قارئ “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” أن يكتشف منذ صفحاته الأولى أنّ صاحبيْه قد اختارا الترجمة بالمعنى وأزاحا عن طريقهما كل تفكير في الاعتناء بالجوانب الأسلوبية والمجازية والموسيقية، وكل محاولة لنقل الجمال والتفرد القائمين في النص الأصلي.

 وهي محاولة مضنية عسيرة صعبة ولا شك، ولكنها ممكنة لا مستحيلة، وحمّالة للذة ليس بعدها لذة، لذة أن نحوّل الترجمة إلى فعل إبداعي. لقد فضّل المترجمان راحة التخلي عن مواجهة المستحيل على التمتع بإجهاد النحت في الصخر. ونتيجة لذلك زخرت الترجمة بالمعاني وافتقرت إلى الإيقاع والمجاز، وساد النثر وأطرد الشعر.

ولا يذهبنّ الظنّ بالقارئ الكريم إلى أننا نحاسب المترجميْن تلك المحاسبة الساذجة التي تطالب مترجم الشعر بأن يكون وفيا تمام الوفاء للنص الأصلي، فينقل مكوّنيه المجازي والموسيقي كما وردا. طبعا هذا كلام لا معنى له، فلكل لغة عبقريتها الخاصة ومعيار الوفاء التام معيار مثالي يُنتج لو طبّق بحذافيره نصوصا ركيكة لا روح فيها.

الذي يعنينا في المقام الأول هو محاسبة ترجمتها من زاوية نجاحها أو فشلها في إرساء دعائم مشروع للتحاور مع الآخر والتوفق في حسن التعريف بالشعر العربي القديم في الثقافة الفرنسية

ولكنّ هذا لا يمنع في المقابل من ضرورة أن يجتهد المترجم ما أمكنه الاجتهاد ليعتني بمكونات النصّ الترجمي الأسلوبيّ، والتصويري، والموسيقي، ساعيا إلى الظفر بالأساليب المناسبة في اللغة الهدف، ونقل الصورة المجازية لا إلى اللغة الهدف بل فيها ونبوعا منها، نقلا يضاهي بكارة الصورة الأصلية وفتنتها، حريصا على استنباط بنية موسيقيّة تتناسب مع اللغة المترجم إليها وتستطيع أداء خصوصيّة الإيقاع في النصّ الأصلي لا بنسخه بل بالاهتداء إلى إيقاعات في اللغة المترجم إليها توائم الإيقاعات الأصلية حزنا وفرحا، حماسة وحبوطا، وتوحي للقارئ بما يكتنز عليه النص الأصلي من ثراء موسيقي.

ولا شك حسب رأينا في أنّ المسألة تتعلق في المقام الأول باختيار منهجي على المترجم أن يجيب فيه عن سؤال مفصلي يتحدد وفق الإجابة عنه مسار العمل كلّه، وهذا السؤال هو: هل يمكن أن نترجم شعرا عربيا قديما للإيقاع فيه حضور بارز حاسم دون أن نعير الإيقاع في الترجمة أيّ أهمية؟ وفي حالة ما نزع الجواب إلى التقليل من شأن الاعتناء بالجانب الموسيقي في الترجمة فكيف نُشعر القارئ بالحالة العامة للقصيدة، ونجعله يتبيّن على سبيل الذكر الاختلافَ بين الرثائية والمدحية موسيقيا؟ ولنأخذ مثالا على ذلك ترجمة بيت الخنساء:

ألا ثَكَلت أمُّ الذين مشوا به               إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر

إن تكرار تركيب “إلى القبر” هنا عنصر أسلوبي فارق حاسم، فهو يساهم في خلق إيقاع النوح والبكاء ويشكّل حالة نفسية ميسمها التفجع والحسرة. والتكرار في الرثاء عامّة عنصر قار يعبّر عن رغبة الشاعر في أن يعوّض الفقدَ والفراغ في الوجود، متخذا اللغة سلاحه جاعلا الإكثار من استحضار اللفظ الواحد ضربا من الحضور الرمزي للمتوفّى. فهل يعقل والحال هذه أن يتجاهل المترجمان التكرار في البيت، وأحدهما عليم بخصائص الرثاء حق العلم، فمالا على عادتهما إلى الشرح معوّضين “إلى القبر”  الأولى بما يفيد الدفن (inhumer) (ص 33) واحتفظا بالثانية في آخر البيت (la tombe) وكأنهما يرسمان خط سير الجنازة بينما كانت الشاعرة تناضل حتى لا يصل جثمان أخيها إلى القبر:

Que le tourment frappe les mères de ceux qui allaient

L’inhumer ! Grand fit l’homme qu’ils portaient vers

LA TOMBE

وكان بإمكان المترجمين لو أرادا أن يجدا في النظام الإيقاعي للشعر الفرنسي زادا وآلة ييسّران عليهما المضاهاةَ بين غنى النص الأصلي إيقاعا، واشتمال الترجمة على بناء موسيقي ليس من الضروري والمعقول أن يكون نسخة من النص الأصلي ولكنه يكافئه في الروح والتأثير في القارئ. ولو اكتفيا بالبحر الإسكندري الفرنسي (L’Alexandrin) ذي المقاطع الاثني عشر والقابل للتحوير في استعمالاته المعاصرة، لكفاهما مؤونة الجانب الإيقاعي في الترجمة.

ونذكر هنا أنّ المستعرب الفرنسي بيار لارشيه (Pierre Larcher) قد ترجم المعلقات السبع واعتنى بالجانب الموسيقي عناية كبيرة موظفا من أجل ذلك البحر الإسكندري وحقق بفضله نجاحا باهرا في خلق إيقاعات موسيقية في النص الفرنسي تناسب الإيقاع العربي. فالعملية ليست مستحيلة، وإنما يتوجب الإرادة والاستعداد والمعرفة العميقة كذلك بموسيقى الشعر الفرنسي. ويمكننا أن نقول في يقين إنّ توزيع المترجمين كل نص إلى أبيات يحتوي كل منها على سطرين على نحو يضاهي شكل البيت العربي إجراء لا قيمة موسيقية أو دلالية له وكان يمكنهما أن يصوغا الترجمة نثرا مرسلا في شكل فقرات متتابعة.

ونعود إلى الهفوات الجزئية المرتكبة فنشير إلى أنها كثيرة جدا، ورغم أنّ العيّنات التي اتخذناها مدارا للدراسة لا تتجاوز ثلث الكتاب، وهو الثلث الأهم، فإنّ ما أحصيناه من أخطاء يملأ صفحاتٍ وأغلبه يتجاوز السهو إلى سوء الفهم، ويبعث على الاستغراب حقا لأنه دال على عدم إحاطة محيّرة بمسائل أوّلية في اللغة والشعر العربيين. وسنقتصر في ما سنورده من نماذج لهذه الأخطاء على مثال أو مثالين فحسب تجنبا للإطالة والإثقال على القراء.

سوء الفهم

هذا هو الضرب الأبرز شيوعا من الأخطاء في ترجمة أدونيس وحورية عبدالواحد. فكثيرا ما فشلا في فهم المقصود من بعض العبارات في النص الأصلي فانقادا نتيجة لذلك إلى اختيار مقابلات لغوية فرنسية تحرّف المعنى الأصلي تماما. من ذلك ترجمتهما “حَبّ فُلفُل” في معلقة امرئ القيس بـ grains de piments (ص33 ) أي الفلفل الأخضر ! والحقيقة كما يعرف طلبة الثانوي أنّ ما عناه امرؤ القيس بحَبّ الفلفل إنما هو نوع أسود صغير الحب من البهارات يسميه بعضهم بالفلفل الأسود، وقد ساقه الشاعر مشبّها به “بعر الآرام” لجامع السواد بينهما.

مثال آخر لسوء الفهم أثّر فينا اكتشافه تأثيرا وحاولنا أن لا نصدّق أنّ خطأ بمثل هذه الفظاعة يمكن أن لا يتفطن إليه أدونيس سواء أكان مترجما أو مشرفا على الترجمة أو مراجعا لها. ويتعلق هذا المثال بترجمة بيت أبي فراس الحمداني الشهير جدا:

   بَدَوت وأهلي حاضرون لأنني     أرى أنّ دارا لستِ من أهلها قفرُ

فمثلما هو معروف لدى طلبة الثانوي أيضا فإنّ المقصود بـ”بدوت” هنا: نزل البادية، والمقصود بـ”حاضرون”، نزلوا الحضر، والصورة الشعرية صورة رائعة حقا يعتبر فيها الشاعر نفسه كنازل الصحراء وهو بين أهله الحضر ما دامت الحبيبة لا تقيم في دار أهله. ولكنّ المرء يصاب بالهول وهو يقرأ “بدوت” تترجم بـ: (j’apparus)  أي “ظهرتُ”، و”حاضرون” تترجم بـ (présents) (ص 218) أي بمعنى حضر في مكان ووقت معلومين. وما نكاد نستفيق من هذه المفاجأة حتى تداهمنا أخرى حين نقرأ “لستِ من أهلها” مترجمةً منسوبةً إلى ضمير الأنا لا الأنتِ باعتبار أنّ المترجمين قد قرآ الفعل مسندا إلى الشاعر “لستُ” ! فترجما العجز بناءً على ذلك:

Déserte est la demeure à laquelle je n’appartiens pas !!

ومن سوء الفهم أيضا ترجمة عبارة “حرّ” في بيت المعري:

رويدك لقد غُررتَ وأنت حرٌّ            بصاحبِ حيلة يعِظ النساء

بالمقابل الفرنسي (ta liberté) (ص 20) والحال أنّ المقصود من “حر” ليس النقيض للعبد بل الرجل العاقل الفطن.

تغيير النص الأصلي

ألفينا في نماذج عديدة تغييرا لا مبرّر له بالمرة لعناصر في النص الأصلي يقع استبدالها بعناصر أخرى. من ذلك حذف اسم الساقي “أحمد” لدى ترجمة بيت ابن المعتز:

يا حُسنَ أحمدَ غاديا أمس                  بمُدامةٍ صفراءَ كالوَرَس

وتعويضه بعبارة (l’échanson) (ص 197) الدالة على الساقي عامة:

Majestueux fut l’échanson qui venait

Nous servir un vin couleur jonquille.

فهل دعا المترجميْن إلى هذا التحوير خوفٌ مّا من الاصطدام بالدلالة الدينية المرافقة لاسم أحمد رغم أنّ الشاعر يتحدث عن ساق معيّن التقاه وخالطه؟ ومثل هذا السؤال يطرح علينا ونحن نقرأ ترجمة لقصيدة شهيرة لأبي نواس في الغلمانيات، فإذا بنا نفاجأ بالمترجمين يحوّلان ضمير المذكر إلى ضمير المؤنث، وإذا بالغزل بالغلمان ينقلب غزلا عاديا بل قل غزلا عذريا! ففي حين يقول الشاعر:

  وكلما عَضَّض تفاحةً                      قبّلتُ ما يفضل من عضّتِهْ

حتى إذا ألقى قناعَ الحيا                     ودار كَسَر النوم في مقلتِهْ

 سَرت حُميّا الكأس في رأسه                  ودبّت الخمرةُ في وجنته

 فصار لا يدفع عن نفسه                       وكان لا يأذنُ في قُبلتهْ

جاءت الترجمة تتحدث عن امرأة:

Toutes les fois qu’elle mordait une pomme,

J’embrassais la trace de la morsure.

(…)

Elle cessa de se défendre

Alors qu’elle ne tolérait pas d’être touchée.

فهل الخطأ هنا خطأ لغوي لا يجاوز تعويض ضمير هو بضمير هي؟ أم المسألة أعمق من ذلك وأخطر وتتعلق بتحوّل المترجمين إلى رقيب حال دون ترجمة النص كما هو وخشي محظورا مّا، فطمس آثار الغزل بالغلمان؟ وفي هذه الحالة أيكون أبوالفرج الأصفهاني أقدر على مواجهة الطابوهات من أدونيس، إذ نقل هذه القصيدة كاملة مع الشرح المفصل في كتابه “الأغاني”؟

عدم مراعاة خصائص التركيب العربي

لا يغيبنّ عن ذهن المترجم أنّ اللفظة الواحدة يمكن أن يتحول معناها بفعل الصيغة الصرفية والسياق. وقد لمسنا أنّ المترجمين لا يعيران كبير اهتمام لهذين العاملين، فيصرّان على تقديم المرادف الفرنسي لأصل اللفظة العربية دون مراعاة للصيغة الصرفية التي يمكن أن ترد عليها فيتغير معناها، أو للسياق الدلالي الذي تظهر فيه فيضيف إليها معاني ثواني. من ذلك إهمال المترجمين ترجمة التصغير في عبارة “أصيحابي” في بيت أبي فراس الحمداني:

  فقال أُصَيْحابي الفرار أو الردى             فقلت هما أمران كلاهما مرُّ

فممّا لا شك فيه أنّ التصغير هنا قد ربط اللفظة بمعنى القلة تأكيدا لضعف موقف الشاعر وتمهيدا لحتمية هلاكه أو أسره. لكنّ المترجمين لم يلتفتا إلى هذه الحقيقة وترجما العبارة “أصحاب” بـ (amis) (ص (219  ومن الأمثلة على تغاضي المترجمين عن السياق الخاص باستعمال اللفظة العربية، بيتُ المتنبي الشهير:

     لَبِسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي              فكأنها بِبياضِها سوداءُ

فقد تسرّع المترجمان في فهم فعل “لبس″ وهبّا كشأنهما دائما إلى الشرح والتفسير فظنّا أنّ المقصود به تغطية الثلوج مسالك الشاعر، فترجماه بالفعل الفرنسي الدال على التغطية (couvert)  (ص 205):

La neige a couvert tous mes sentiers

Ils sont devenus sombres malgré leur blancheur

هذا المعنى يستنتج من بيت المتنبي فعلا إذا ما قتلنا المجاز فيه كما فعل المترجمان، واستنبطنا له منطقا فقيرا مختزلا يربطه بالواقع ويحوّله إلى نثر تقريري لا يسمن ولا يغني من جوع. بيد أنّ الصورة في بيت المتنبي أوغل في الإيحاء وأعلق بشقاء روح الشاعر اليائس يرى البياض سوادا ويعقل النورَ ظلمةً. فـفعل “لبس″ لا يدل على التغطية ولا الكساء، بل على التضليل والإيهام وزوال الوضوح والصفاء من العالم بعد أن زالا من النفس، فتاهت المسالك عن جبالها وفقدت الألوان ألوانها، وعمّ الرمادي أبيضها وأسودها. فأين هذا من التركيب التفسيري التقريري الذي أورده المترجمان: malgré leur blancheur ، أي: “رغم بياضها”!.

إنّ نظائر هذه الأخطاء عديدة تجلّ عن الحصر، وبإمكان المرء أن يسترسل طويلا في ضرب الأمثلة، ويمكن أن يكون ذلك موضوع بحث علمي أكاديمي مركّز لا مقال في مجلة. وعلى فداحة هذه الأخطاء ولا معقوليّة صدورها في ترجمة قام بها شاعر في قيمة أدونيس، فإنّنا نكرر القول إنها لم تكن هي السبب الأول في نقدنا إياها. فمكمن الضعف في ترجمة أدونيس وحورية عبدالواحد هو كما قلنا افتقارها إلى الرؤية الفكرية والثقافية وعدم طموح صاحبيها إلى أن يؤسسا بعملهما الترجمي جسورا لحوار أدبي وحضاري مع الآخر مداره شعرنا العربي القديم.

حوت هذه الترجمة من الأخطاء المهولة كما وكيفا ما يجعلنا لا نستطيع التغافل عن هذا الجانب السلبي في العم لالمنجز لا سيما وأن من الأخطاء التي سجلناها ما يؤنب بسببه الطلبة المتبدئون

في 19 مارس 1856 أرسل عرّاب الحداثة الشعرية الشاعر الفرنسي شارل بودلير رسالة إلى الناقد الفرنسي سانت بوف، وكان وقتها سلطة نقدية جبارة، يطلعه فيها على شروعه في ترجمة قصص “حكايات خارقة للمعتاد” للشاعر والقاص الأميركي إدغار آلان بو. وقد وردت في الرسالة جملة خطيرة جدا لبودلير قال فيها “يجب، أو بالأحرى أريد، أن يصبح إدغار بو رجلا عظيما بالنسبة إلى فرنسا، وهو الذي لا يعني الشيء الكثير في أميركا”.

كتب بودلير هذه الرسالة في بداية عكوفه على ترجمة أعمال بو القصصية وقد استمر في إنجازها زهاء عشر سنوات (1856-1865). ولعل الغاية من مكاتبته الناقد الأقوى في ذلك الوقت لا تخلو من رغبة خفيّة في استمداد الدعم الأدبي، وربما شاب ذلك نوع من التبرير الاستباقي لإقدامه، وهو الشاعر الرائد، على ترجمة نصوص قصصية لكاتب مغمور. ولكنّ المؤكد أنّ الهدف الأوّل من هذه الرسالة هو حضّ سانت بوف على قراءة الترجمة ومن ثم الاهتمام بإدغار بو والعمل على التعريف به في فرنسا. وبذلك فإنّ المترجم قد أخذ منذ تلك الرسالة يعدّ العدة ليحقق مبتغاه من الترجمة.

وبالفعل فما أصدر الشاعر ترجمات ثلاثا لنصوص إدغار بو، حتى انتبه أعلام الأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لهذه العبقرية الوافدة من أميركا، وسرعان ما صار لبو شُيّعٌ ومقلدون من أهمهم الشاعر مالارميه. وتحقق حلم بودلير وصار إدغار بو كاتبا فرنسيا أكثر منه أميركيا، واستطاع بفضل ترجمة بودلير أن يصبح في فرنسا رمزا لمدرسة الأدب العجائبي. وسرعان ما امتد تأثيره إلى أوروبا كلها وانتشرت كتاباته وآراؤه النقدية هنا وهناك، وصولا إلى الأدب العربي. فلم يترجم بودلير مجموعة قصصية إذن، بل خلق كاتبا وأهدى الثقافة الفرنسية جناحا جديدا من أجنحة الحداثة. وبينما كان إدغار بو يعاني المرض والتشرد في أميركا ويموت رويدا رويدا بفعل إغراقه في تناول الكحول، كان نصه يرفرف في سماء أوروبا ويستولي على مجالس الأدب وقلوب القراء.

وما كان لبودلير أن ينجح في كل ذلك لولا أنه تعامل مع الترجمة على أنها مشروع كبير خطير متشابك العناصر لا عمل تقني عرضي عابر، ولولا أنه رسم لنفسه منذ البداية غايةً أبعد شأوا من الترجمة في حدّ ذاتها ترنو إلى فتح حوار مع الآخر تجدد به الثقافة الفرنسية خلاياها وتقفز نحو المستقبل.

وقد تذكرت بودلير وترجمته إدغار ألان بو وأنا أعكف على دراسة ترجمة أدونيس “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي”، وتذكرت مزيّة بودلير عليّ إذ بفضله وبفضل إتقاني الفرنسية أمكنني أن أعرف بو في مستهلّ شبابي وأتعلم منه الكثير. ورجوت لأدونيس، هذا الشاعر الأبرز الذي كثيرا ما عرّفه نقادنا بأنه بودلير الثقافة العربية، أن ينجح نجاح الشاعر الفرنسي، وغصت أقرأ الترجمة وأنا لا أكف عن تعقب خطا أدونيس والبحث عنه، ولكنّ القراءة طالت ولم أجده.

تابع مقالات الملف:

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.