هزيمة الحلم لصالح الواقع
لكن هناك زاوية مغايرة تماما لتلك الصورة النمطية الشائعة عن عبقري السرد نجيب محفوظ؛ صورة أقل خفوتا لا يلتفت لها أحد بالشكل الكافي في مسيرته الأدبية، ربما لا نجافي الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن محفوظ كان يملك مشروعا أدبيا طموحا لكتابة الرواية التاريخية، التي تستحضر خلفية الشخصية المصرية ومكوناتها المتراكمة عبر التاريخ، ومن خلالها كان يمكن لنجيب أن يطرح كل الأسئلة ويثير كل المفارقات بين الماضي والحاضر، وأسباب الانحدار وضياع مظاهر الحضارة القديمة وانعكاس ذلك على شخصية الإنسان المصري المعاصر.
كان يمكن لمحفوظ إذا أتم روايته التاريخية ووصل إلى قناعة ما عن الذات المصرية القديمة، أن يقدم لنا بعدها نموذجا سرديا مغايرا في الرواية العربية، نموذج يقدم خطين متوازيين يشتبكان ويتعاركان ويبحثان عن أرضية مشتركة، كان يمكن له أن يقدم أزمة الذات المصرية التاريخية وصراعها مع الحاضر بحثا عن مستقبل متخيل وأرضية مشتركة. لكن لسبب ما اختفى دافع البحث عن الذات التاريخية وحضورها عند نجيب محفوظ، ليكتفي بالاشتباك مع الواقع ورصد تناقضاته وأزماته الحاصلة كما هي، دون أن يهتم بتأصيل أزمة تاريخية مركزية ما للمجتمع المصري في رواياته.
الكتابة التاريخية عن الذات عادة ما تبحث عن الحلم وتؤكد عليه، أو تنظر في سبب الكابوس وتنقده، وعادة ما ترتبط بالبحث عن المتخيل والمثالي وأسباب غيابه عن الواقع، هي محاولة للبحث عن إرهاصات النهضة ولكن في صورة موازية وفي نسق قديم للحاضر، وعادة ما ترتبط بالشخص الذي يبحث عن ذاته وجذورها قبل أن يحسم أمره ويقبل شكلا ما لهذه الذات، ثم يبدأ بالتفاعل مع الواقع بتلك الذات التي قَبِلَ ماضيها وخضع له.
ويطرح السؤال هنا لماذا توقف مشروع محفوظ عن البحث وراء الذات المصرية التاريخية والجري وراء الحلم المتخيل، وما هو الشكل الذي ارتضاه للماضي لينطلق منه نحو التعاطي مع الواقع الحاصل! لقد قدم محفوظ رواياته التاريخية الثلاث في فترة الحرب العالمية الثانية تقريبا (عبث الأقدار1939، رادوبيس 1943، كفاح طيبة 1944)، ثم حدث التحول نحو الواقعية ليكتب في الفترة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى قبل قيام ثورة 1952 خمس روايات، وفي العقد الأول للثورة أو الخمسينات كتب الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) يرصد تحولات المجتمع المصري من خلال الحارة بين ثورتين 1919 و1952، وفي العقد الثاني للثورة أو الستينات كتب محفوظ سبع روايات ختمها بروايته الأزمة “أولاد حارتنا” التي عاد فيها للرمزية والبحث عن الأفكار الكلية، واستمر في الكتابة في السبعينات والثمانينات ليقدم مجموعة من الروايات قاربت العشرين.
ومن الرصد السابق للتاريخ الأدبي لمحفوظ نجد أن عنفوان البحث عن الذات ارتبط بفترة الحرب العالمية الثانية، حين صرح محفوظ بأنه يملك مشروعا لإعادة كتابة التاريخ المصري روائيا. ليطرح السؤال: لماذا انهار حلم البحث عن الذات التاريخية وأزمتها، واتجه نجيب للواقع مباشرة! لو أن التحول حدث بعد الانقلاب العسكري الذي دعمه الشعب وتحول لثورة اجتماعية وسياسية عام 1952، لقلنا إن السبب كان يكمن فيها، لكن محفوظ تحول للواقعية مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، فهل كانت التغيرات السياسية الدولية والاستقطابات السياسية بين الغرب والشرق وانعكاساتها على الوضع الداخلي سببا! أم أن هناك سببا شخصيا في حياة السارد العبقري أخفاه بمهارة عن الجميع، تشبه مهارة إخفائه لزواجه لمدة قاربت العشر سنوات!
إذا انتقلنا لرواية التحول “القاهرة الجديدة” التي صدرت عام 1945 وحُولت سينمائيا للفيلم الشهير “القاهرة 30″، لنعيد قراءتها ونبحث ربما عن الحدث الذي أثر في محفوظ لينسحق الحلم وينتقل لتصوير الواقع السلبي في أواسط الأربعينات! ونسأل ما الذي كان ينتظره محفوظ في خضم الحرب العالمية الثانية وكتب خلاله ثلاثيته التاريخية التي تبحث عن الحلم والذات المصرية التاريخية! ليتحول لرصد الواقع السيء وتفاصيله في شخصية محجوب عبدالدايم والفتاة “إحسان”، كيف انهار الحلم..؟
لا يخبرنا التاريخ الأدبي عن حدث بعينه سجله نجيب محفوظ عن نفسه لنتوقف عنده، سوى ربما حوار دار بينه وبين الشيخ مصطفي عبدالرازق عن التكرار والنمطية، دفعه لتغيير الوجهة، لكن إذا لم تقنعنا الإجابة ليس أمامنا سوى استقراء الموجود ومحاولة تحليل المضمون في رواية التحول إلى الواقعية “القاهرة الجديدة” عام 1945، وهل كانت شخصية ما داخل الرواية لها انعكاس في الواقع وهدمت الحلم المثالي عند محفوظ مبكرا..! فمثل ذلك التحول والصدمة القيمية من المثال إلى الواقع، لا ينتج إلا عن حدث له أثر هائل على محفوظ/الإنسان.
وكذلك يمكن لنا أن نبحث عن الأمر بطريقة مغايرة، طريقة استكشاف روح الراوي في أعمال نجيب محفوظ وسماته وتحولها في أعماله الواقعية.. بداية تخبرنا طريقة تعاطي محفوظ مع واقع الحارة المصرية عن راو شديد الحيادية للغاية، غير معني كثيرا بأن تسيطر على أبطال رواياته الروح البطولية والانتصار لها، ربما يضع على مسرح الرواية الواسع شخصية ترتبط بالبطولة والتضحية والفداء، لكنه غير معني كثيرا بأن ينتصر لها في النهاية أو يبرر منطقها، هو يضعها في مشهده الروائي كجزء من كل ونتذكر هنا على سبيل المثال شخصية الطالب ابن السيد أحمد عبدالجواد الذي يشارك في المظاهرات ضد الاحتلال الإنكليزي في أحداث الثلاثية، وكيف انتهى خطه الدرامي بالموت بهدوء لتستمر أحداث الرواية، وكيف كان حضور شخصية علي طه الثائر الاشتراكي في “القاهرة الجديدة” هامشيا لحد بعيد، ويبدو على سبيل ضرب المثل وحضور الشيء وضده.
أعتقد أن فكرة موت البطل المثالي المرتبط بالتضحية والفداء والقيم العليا، أو هزيمته أو تحول القيم عنده وتكيفه مع الواقع والتي تكررت في العديد من روايات محفوظ الواقعية وربما أحيانا بحثه عن الانتقام والحيادية التي يتعامل بها الراوي وتكرار هذا النمط عند أبطال محفوظ؛ تدل على التحول المأزوم عنده نحو الهزيمة والواقعية.
لكن يظل السر الأعظم دفينا ربما ما بين سطور رواية التحول “القاهرة الجديدة” أو “القاهرة 30″، كيف انتقل محفوظ من رواياته التاريخية والبطل الفاعل الذي يواجه قدره ويبحث عن سر الأزمة ويسعى للإجابة عن السؤال: كيف تنهض مصر ثانية وكيف تتحرر وتقدم نموذجها الحضاري مجددا؟ إلى البطل رد الفعل السلبي الذي يبرر له الراوي هزيمته كضحية للظروف، وتكيّفه مع الأحداث حتى يستطيع الاندماج في المجتمع الكائن بالفعل، بدلا من البحث عن المجتمع المثال/ الغائب.
تظل الهزيمة المسكوت عنها في أدب محفوظ وانتقاله من الحلم واستكشاف أزمة الذات المصرية التاريخية وكيفية استنهاضها مجددا وتحررها، وانتقاله لرصد الواقع وتخليه عن الحلم مصدر تساؤل ما بين الشخصي والعام، وتبقى الإجابة كامنة ربما في رواية التحول “القاهرة الجديدة” وربما الدلالات الواقعية لشخوصها وأحداثها، وكيف قدم الراوي نجيب محفوظ المبررات المنطقية للبطل المشوه محجوب عبدالدايم، وللبطلة المشوهة الفتاة إحسان كضحيتين للظروف! ويطرح السؤال نفسه إذا كانت هذه هي القاهرة الجديدة/الواقع، فأين اختفت القاهرة القديمة/الحلم التي مثلتها الروايات التاريخية عند نجيب! تظل هذه مساحة مسكوتا عنها في أدب محفوظ في حاجة للمزيد من البحث والدراسة.