هناك وراء القضبان
السجن نعمة، لم تدرك أبعادها وتتلمس آثارها إلا بعد حين. في حياة سابقة.. كانت الشمس ترسل أشعتها لتوقظك مذعورا عجلا إلى عملك، ثم تغيب.. فتُحِلُّ على الدنيا العتمةَ والظلام، وعليك التعب والإنهاك، فتعود إلى دارك خائر القوى نافد الرصيد، عمل شاق، أجر قليل، وعيشة نكِدة، كانت هذه هي دوامة حياتك البائسة، قبل أن تلوح في الأفق بارقة أمل سرعان ما غابت، أي حياة تلك؟ تبتسم في مرارة، كل شيء تغير الآن.
“وقت الغداء” أعادك نداء الضابط الحاد من عالم الذكريات إلى أرض الواقع، وشتان ما بينهما. كانت أيام تململك الأولى وتسخطك قد ولت غير قريب، كنت حينها كالطائر الجريح الذي اقتيد قسرا إلى قفصه، يصرخ ويثور ويتمنع، قبل أن يهدأ مدركا أنه في قفص مريح من ذهب، وأنه كان خارجه جريحا مهانا. عملك المضني أصبح مجرد ذكرى تتسلى بها في أوقات فراغك وكثيرة ما هي، أجرك القليل أصبح معدوما، وفيمَ يفيد المالُ خلفَ القضبان؟ كنت تلهث خلفه لتطعم وتلبس وتسكن، واليوم يوفر لك السجنُ كلَّ ذلك وأنت خال البال ناعم اليد. من كان يتخيل هذا العالم وهذه الحياة عندما كنت خارجها؟ تبتسم في سخرية، حقا للحياة وجهان، أو ربما ألف وجه. المهم أنها لا تملك وجها واحدا كما قد يظن كثيرون، تُطل عليهم به فيحسبونه دائما لهم لن يتغير عليهم.
تتنهد بعمقٍ يعيدك إلى الماضي، تتذكر الجسر الذي عبرت عليه إلى هنا، كنت بعيدا عن تلك الأشياء، لكنك تعلم أن الحياة صعبة وأن الفرصة لا تتكرر مرتين، بدأ الأمر برشوة صغيرة، تغاضٍ فتسهيل، ثم اختلاس، بعد ذلك يأتي الجرد والمراجعة وكل هذه الأمور التي تودي بأمثالك إلى ما أنت فيه اليوم. الكثير من المساجين في عنبرك، تتنوع أشكالهم وألوانهم وتختلف مذاهبهم ومشاربهم، ويشترك جلهم في التهمة معك، هذا رغيد العيش جره رغده إلى قسوة السجن، وآخر ضاقت به دنياه فأراد أن يوسعها فإذا بهذه السعة تُفضي به إلى الضيق، وثالثٌ على عتبات الحياة، أراد أن يقفزها بخطوة فهوى لأقل مما كان عليه. يختلف السالكون والسبيل واحدة، لم تكن تكترث بهم، ربما شاركتهم شيئا من لهوهم أحيانا لتمضي وقتك ثم تنساهم. شخصٌ واحدٌ فقط كان مختلفا عن ذلك قليلا، أو ربما كثيرا؟ كان جارَك الملاصق لزنزانتك، شيخٌ كبير ذو لحية بيضاء كثة، كأنما قُدّ من صخرٍ وكأن روحه تحلق في أفلاك بعيدة، لم يكن يرد السلام ولا ينظر إليك أو إلى غيرك، رغم ما كان يُخيّل إليك بادئ الأمر من أنه يفعل ذلك خلسة، فتلتفت إليه لتجده على حاله الساهم فتصرف عنك أوهامك، أسوأ جارٍ ممكن في السجن لولا أنك قد فضلت العزلة، لكنها لم تمنعك من أن تأتي على حقه قليلا، نصيب الطعام، أو وقت الاستحمام.. إذا لم يكن البقاء للأقوى في السجن، فأين؟ لم يبدِ أيّ اهتمام ولم تبدِ أيّ تعاطف حتى أصبح هذا الوضع معتادا، وأصبحت في السجن وكأن لك نصيب اثنين، تبتسم.. ألم تقل بأن السجن نعمة!
***
ما كان يقضُّ مضجعك ويؤرق خلوتك في نزلك الهادئ هذا إلا فراق أهلك وأحبابك، كانت ذكراهم تَحلّ عليك كغيمة مثقلة تحجب عنك شمس الطمأنينة وراحة البال، وتمطر على نفسك من الحزن والأسى والشوق ما لم تمنعك عنه تلك الزيارات الخاطفات واللمسات المسروقات والكلمات الباردات في كل أسبوع، قلبك كان يعجّ بالكثير، تفكر طوال الأسبوع في كلماتك التي ستقولها لهم، وكأنك تنتزع زهورا عطرة من أرض خرِبة، لكن ما إن يحنِ اللقاء حتى تتوقف هذه الكلمات على عتبات شفتيك، وتمتنع عن الخروج إلى صوتك، لعلها تخاف أن يخذلها فتسقط.
ستكتب لهم، لا حلّ سوى ذلك، يتراقص قلمك بنعومة، ليُفيض ما أكنّه قلبك على تلك الورقات، وكأنه يستودعها سره الذي طالما أثقله، ولكن ما يدريك أنهم سيقرؤونها أو يعيرونها اهتمامًا؟ تقول إنهم كذلك لا يجدون ما يتكلمون به سوى تلك العبارات الباهتة، فستطلب منهم ردًّا على رسائلك إذن، علّ الأقلامَ أن تحيي القلوب بعد إذ أخفقت الألسن. حان الميعاد ونفّذت ما انتويته، سلمتهم رسالتك وشدّدت عليهم بالقراءة والرد. خلافا لما كنت تظنه، زادك ما فعلتَ توجسا وقلقا، ولم يمنحك ما طمعت فيه من راحة وسكينة، لكن لعل الترقب والانتظار ما فعلا بك كل ذلك. تمرّ عليك الأيام كأبطأِ ما تكون، تنتظر الزيارة القادمة بلهفة، وعقلك يصور لك كل ردود الفعل الممكنة وغير الممكنة. يحين اليوم الموعود فتخرج عليهم بحماسة يشوبها شيء من الحرج، سرعان ما بدده محياهم الباسم وطلتهم الأنيقة على غير العادة، ذاهبون إلى خالهم في المصيف؟ حسنا، الحياة تمضي بك أو من غيرك، ليس بهذه السهولة، ولكنها تمضي على أيّ حال. ماذا عن الرسالة؟ تتساءل بخيبة أمل.. سيأتي البواب لزيارتك في هذه الأسابيع، جالبا لك ما يقوّي عظمك من طعام. ماذا عن الرسالة؟ تتساءل بيأس.. أيّ رسالة؟ آه ذلك المظروف، لم يفتحوه بعد، سيفعلون ذلك إذا رجعوا، لقد نسوا الموضوع تماما، ما قَلَب.
كيانك وعبث بوجدانك طوال أيام كان بالنسبة إليهم لا شيء. لربما تركوها في بنطال أحدهم تخوض معركة خاسرة في قلب الغسالة، كما كنتَ تفعل في قلوبهم.
مكثت بعدها أياما يأسرك فيها الحزن وتغشاك الكآبة، راثيا حالك ومآلك، وناسيا ما غمرك به السجن من نِعم، لكن لا بأس.. ستستمر في كتابة الرسائل، خيط أملك الوحيد لتفرّج عن نفسك.
يأتي البواب في موعده، لتتبادل قليلا من الكلام مع الآتين من العالم الآخر تطمئن به على الأحوال التي لا يعنيك جلها، ما يعنيك الآن هو رسالتك، توصيه بأن يأخذها، الصندوق (11)، أحد عشر.. الرقم الذي ارتبط بك في سجنك أكثر من اسمك الذي كدت تنساه، جميعكم هنا مجرد أرقام في سجلات، تُجمع وتطرح وتضرب، ليكون الناتج ما يريدون! تُكرر عليه، فيهز رأسه مرارا بعدم اكتراثٍ يكاد يقفز من عينيه، ثم يمضي.
***
لم يأتِ البواب في الأسبوع التالي، ليس أمرا مستغربا، لكنك ترجو أن يكون قد أخذ الرسالة على الأقل. تذهب مع الضابط لتتفقد صندوقك.. ما زالت الرسالة في مكانها، آهٍ منه ذلك الرجل، ولكن مهلا.. تبدو هذه رسالة أخرى، أتراهم قد ردوا على رسالتك؟ تفتح الورقة متلهفا وآنت عائد إلى زنزانتك:
“الدنيا سجنٌ، بل ربما هي السجن الأكبر، وإن تباعدت جدرانها وارتفعت سقوفها، تَحدُّنا من كل اتجاه، وتضطرنا إلى أضيق السبل.. يكبِّلنا المال والقانون والعادات والمجتمع، بعضنا يغامر آملا في حظ أوفر.. لكن العبث مع الدنيا رهانٌ خاسرٌ يا صديقي، انظر حولك.. هناك من دخل السجن من بابه، بعد أن مشى في طريقه مقامرا حتى بَعثرت أمانيهِ صخورُ الحياة، وهناك من وجد نفسه مَلقيًّا فيه على حين غرة، أيهم أسعد هناك وأيهم أشقى؟ صدقني.. الكل في الأسر سواء، وحدها الآمال تسرح حرة في الآفاق، قبل أن يقيدها واقع الحال. بل من يدري.. ربما تكون قد تحررتَ من سجنك بقدومك إلى هنا”.
وقفتَ مشدوها أمام هذه الرسالة الغريبة، ما هذا الكلام وما هذه الفلسفة؟ من وضعها في صندوقك؟ وما علاقتك بهذا الكلام؟ استبعدت أن تكون من أهلك، فلا أسماء ولا عنوان، فضلا عن محتواها العجيب، أيكون صاحبها في السجن أم خارجه؟ تعرفه أم تجهله؟ شغلت الرسالة بالك حينا قبل أن تنساها كما يحدث لكل شيء. في الأسابيع التالية انقطعت عنك الزيارات، رغم ذلك استمررت في الكتابة.. لأهلك أولا ثم لنفسك، ثم أصبحت تكتب للغريب، كان يرد كل أسبوع على رسائلك التي تضعها في الصندوق، وكأنه يحاورك بل ويعرفك، أصبحت تنتظر رسائله رغم غموض كلامها وجهلك بصاحبها.
يوم الزيارات، تذهب إلى صندوقك لتحصل على الرسالة كما اعتدت لأسابيع، ولكن.. تتفاجأ بأن الصندوق فارغ، تجر أقدامك بخيبة عائدا إلى زنزانتك وأنت تتساءل لماذا لم يبعث الغريب برسالته، أتراه قد سئم من ملاعبتك بعد أن اعتدت عليها؟ طلبت من الضابط أن يتابع صندوقك ليومين، ولكن دون جدوى. تسلل إليك فتور غريب، سحابة من الكآبة تغيم على روحك وتنشر في أرجائك التيه والسأم والضياع، وكأن فراغ السجن قد غلبك أخيرا، وابتلعك في متاهاته!
***
تستيقظ هذا اليوم بشعور مختلف، السجن ليس بحالته الطبيعية، صحيح أنك غائبٌ في متاهتك لأيام، ولكن السجن كان كما هو، بخلاف اليوم.. أقدام كثيرة تغدو وتروح مسرعة، تستوقفُ أحدَهم مستفسرا.. جارك النزيل رقم (10) الشيخ الكبير، توفي في زنزانته، ويقومون بعمل اللازم.. بالمناسبة، عليك أن تنتقل إلى زنزانته بعد أن ينهوا عملهم. تنتابك قشعريرة باردة وتشعر بتوجس شديد، رائحة الموت تريبك، تذكّرك بأشياء لا تريد تذكّرها، تبعث في نفسك التائهة خوفا وفزعا، وما أبشع الخوف إذا رافقه الضياع.
تنتقل إلى زنزانتك الجديدة، المعبقة بأنفاس الموت.. تجلس على السرير الأبيض بعد تردد، تتحسس عنقك وصدرك بحذر.. هنا فارقت روحٌ جسدَها قبل أيام، فهل..؟ تهز رأسك بعنف لتنفض عنك كل تلك الهواجس، تُفرِغُ حاجياتك في الخزانة، هذه الأقلام والأوراق، لم تعد تستخدمها من أيام، لكن يبدو أنك ستعود إلى أحضانها عمّا قريب، لتبثّ شكواك وتؤنس وحشتك، ستضعها هنا حتى يحين ذلك.. تفتح الدرج الصغير، مهلا ما هذا؟ ورقة مطوية تقبع داخله في سكون، تمسكها بحذر، لكن.. هذه الرائحة وهذا الورق المصفر، تعرفهما جيدا، تبهتك الصدمة.. تفتح الرسالة بأصابع مرتجفة، وتقرأ كلماتها بتمعن…
***
“أيام قلائل وتنتهي محكوميتي، أخبرك بهذا حتى لا تفتقد رسائلي، قد تتعرف على هويتي حينها، ولكن من يهتم لهذا؟ يجدر بي أن أكون ممتنا لمراسلاتنا في الأسابيع الماضية، فقد أخرجتني من عالم الصمت إلى عالم الكلام، والكلام يا صديقي نعمة حُرم لساني من نطقها، وأذني من سماعها، ثم حُرم قلمي من خطِّها منذ دخولي إلى هذا السجن الصغير، حتى أتى ذلك اليوم الذي لم يأخذ فيه زائرك الرسالة كما طلبتَ منه، ففعلتُ ذلك بدلا عنه، أكذب إن قلت إنني لم أتحين لذلك الفرص، ولكن لا تلمني، فمن عاش ألوان الذل في حياته لا يلام، فما بالك إن زِيدَ عليه ظلمٌ وسجنٌ؟”.
“كنتُ عاملا بائسًا أتولى شؤون النظافة، من أولئك الذين لا تراهم الحياة، فهم يعيشون على هوامشها، أُغلق بابي على الدنيا لتكفيني أذاها وأكفيها همي، بَيد أن الأذى يأبى إلا أن يطرق أبواب أمثالي، بل ويقتحمها عنوة دونما استئذان. كان موظفا صغيرا، تزيّنت له الفرصة على حين طمع، شخص مهم يحتاج تسهيلاتٍ لإتمام أموره، تتم الصفقة، والمتهم الذي ستدوسه أرجل الغدر والجشع عاملٌ بائس يتولى شؤون النظافة!”.
“أن تكون بائسا متألما مظلوما، كل هذه المشاعر تسكن في جنباتك، ولا تفرق بين الأماكن، صدقني.. مرارة الظلم داخل السجن هي نفسُها خارجَه، حتى أنني لم أعد أتذوق طعمها، ولا أدري أما زالت موجودة في حلقي، أم أن الأيام قد داوتها باعتيادي لها”.
“ومن طبع الأيام يا صديقي أنها تدور، فلا تُبقي شيئا على حاله.. أتى أحد (السكرتارية) إلى صديقنا الذي أصبح موظفا أكبر قليلا، وأغراه بسرقة الخزنة التي كان مشرفًا على حساباتها، فالحياة – كما تعلم – صعبة، والمتطلبات كثيرة، وسيرتبون الأمر فيما بينهم، تم الاتفاق، ونفذت الخطة بسلام، أو كادت.. لولا أن قدِمت الشرطة بعد ساعات وألقت القبض على صديقنا، بوشاية من السكرتير الذي كوفئ بأخذ مكانه”.
“نعم كانت خدعة، ولكن هذه هي الحياة كما أخبرتك، بالمناسبة.. هذا السكرتير هو ابني، أراد أن ينتقم لي دون طلب مني، لكنني لست راضيا، أتعلم لماذا؟ لأنه انزلق في تلك الطريق مثل من سبقه، لا أدري.. ألا يتعلّم الناس من أخطاء غيرهم……”.
تتلاشى السطور من أمام عينيك، تميد بك الأرض، وتكف قدماك عن حملك، ويتوقف عقلك عن التفكير، لا تستطيع أن تصدق! كنت أنت ذاك الموظف، وكانت تلك هي أولى خطواتك في هذه الطريق الوعرة، التي قادتك إلى هنا في النهاية.. بفعل فاعلٍ، أو لتكون صادقًا مع نفسك، بفعل ضميرك المهترئ وقلبك الذي انتعل الدنيا فجرّته ليكون خلف القضبان.