وجود في قصيدة
1
يتصل هذا السؤال بسؤال اختراع الإنسان للشعر. هذا السؤال المفتوح على عدد لا متناه من الإجابات سيظل مؤرقا وغامضا، ولن يكون في مقدور أي شاعر أن يكتفي فيه بإجابة واحدة، ذلك بأن الإجابات تتغير وتتعدد بحسب الأحوال، والأحوال، بما يحكمها من شروط وجودية، تَحُول وتندثر؛ فتتغير تلقائيا الإجابات المجترحة. وهي لزوما إجابات شعرية، إذ لا يمكن الإجابة عن جوهر الشعر إلا بما هو شعر، لاستعصاء القبض على معنى الجوهر الشعري من خارج لغته.
الشعر فرار إلى ملاذ فردي وسرّي، وهو محاولة لتمديد الحلم وإبقائه مستديما عبر تجربة خلق عالم مقابل أو مضاد للواقع، فلا يمكن في رأيي أن نكتب الشعر، أو نقترفه إلا في حالات نكون فيها بصدد مواجهة الحزن أو الحيرة، أو التصدع والانكسار، خارج هذه الحالات يصبح ما نسمّيه شعرا هو عمل كلامي واع، بينما الأصل في الشعر أن ينبثق عن حالة لاوعي، بما هي في الآن ذاته وعيا من درجة ثانية، درجة أكثر كثافة وأعمق غورا، ولهذا السبب تتمرد اللغة في الشعر على القوانين المنطقية التي تحكم لغة النثر الواصف، أو لغة التواصل الغائي.
أما عن الذي يريده الشاعر من القصيدة، فليس غير مقاومة التلاشي عبر اكتساب وجود ثان، وجود في القصيدة، أو وجود بها، لأن الحالة تزول، والشاعر يفنى، بينما القصيدة تبقى، وتستمر في تخليق معانيها، واكتساب راهنية متجددة إذا قيض لها قارئ متواطئ، والذي يمكننا اعتباره شاعرا ثانيا للقصيدة نفسها. ينتقل بها بقراءته من حال (الآن هنا) إلى حال (هنالك الآن).، وهكذا يكون الشعر حاجة وجودية للشاعر وللقارئ أيضا.
2
ما أعتقد أنني قد حاولت تحقيقه في الشعر ولم ينتبه له النقاد، هو اشتغالي في النصوص على مكون الإيقاع الداخلي باعتباره حاملا للمعنى، ودالا من دوال النص، فإذا لم يتناغم مع بقية الدوال، من معجم وتركيب وصور بلاغية؛ يخرج النص قلقا حتى لو غصّ بالصور المبتكرة.
3
لا أتردد أبدا في القول إني أعتبر نفسي خريج مدرسة الكبير نزار قباني، ففي ضوء قصائده تفتحت عيناي، وتبلورت رؤيتي الشعرية، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن منجزه مثّل، بالنسبة إلى جيل كامل من الرواد، قنطرة عبرت منها الشعرية العربية من صيغة الكلاسيكية الحديثة إلى صيغة الحداثة المفتوحة التي نشهدها، غير أن ذلك لا يعني لي، كما لغيري، غياب دوافع وتصورات ذاتية، لأن التجربة الشعرية لشاعر ناشئ، مهما تأثرت بشاعر ملهِم، فهي تظل تسلك مسارا تطوريا تتشكل في خضمه رؤى ودوافع ذاتية مستمدة أساسا من التجربة الشخصية، إنْ على صعيد العلاقة مع العالم ووقائعه وأشيائه، أو على صعيد العلاقة مع اللغة، مع استمرار تلك التجربة في الانفتاح على ما يتسرّب إليها من تجارب الرواد والمجايلين.
4
تنتابني الدهشة من قراءة نصوص شعراء اللغات الأخرى، وغثها واضح طافح وكثير، ومع ذلك يقف أمامها مترجمونا ونقادنا، ومعهم قراؤنا، موقف الانبهار والتبجيل. هذه الأحكام الانطباعية التعميمية، هي في رأيي مظهر من مظاهر (عقدة الخواجة) التي تمكّنت منا، وصارت الأجيال تتوارثها حتى أصبحت مكوّنا من مكوّنات نفسيتنا الجمعية المهزومة. شعراء العربية المهمون كثر، وربما أكثر (كمّا ونوعا) مما يوجد لدى اللغات الأخرى، ولا يوجد منجز جيد إلا ويكون بجانبه ثان متوسط، وثالث مسطح.
5
هذا الأمر حاصل وملموس، فما تعرفه الساحات العربية من تحولات زلزالية متسارعة، وما يمر به العالم من تجارب كونية تمتحن مصائر الجنس البشري، كل ذلك يربك الإدراك، ويسبب انحسار البصر والبصيرة، ويدفع نحو التراجع الذي بدونه لا يمكن للوعي استعادة توازنه، والتقاط الشظايا المتناثرة، وإعادة تجميعها في مجال الرؤية، واللواذ بالصمت، أو ببعض منه، هو موقف شعري شريطة ألا يؤول إلى انتكاس أو تبرير يعصف بما يتعين على الشاعر أن يسجله من مواقف في الأوقات الصعبة التي تعبر منها جماعته. فجدل التاريخ يعبر من هذه المضايق والوديان التي لا ينتبه إليها، ولا يجيد السير فيها والنفاذ منها سوى من كان على مذهب الغاوين الحالمين الرّائين.