وماذا بعد أن يصبح الإنسان مشاعًا؟
ازدهرت في أيامنا الراهنة مقولة “المابعديات” فكثر الحديث عن “ما بعد الحداثة”، وعن “ما بعد العولمة”، وعن” ما بعد العلمانية”، وعن “ما بعد الكولونيالية”.. إلى آخر هذه “المابعديات” التي تنبهنا بأننا أمام عصر جديد فعليًا، عصر يتجاوز كل أطروحات الماضي البعيد والقريب ويجعلنا وجهًا لوجه أمام إشكاليات جديدة عويصة تتجاوز تلك الحمولات النقدية التي تسلّحنا بها عبر مقولات العصور الماضية، وتتطلب منا استحداث آليات جديدة للمواجهة. وتعد مقولة “ما بعد الخصوصية” (The post Privacy) إحدى المقولات المهمة التي فرضت نفسها على واقعنا الثقافي والعملي مستهدفة معالجتها والنظر إليها عبر أبعاد فلسفية وأنثروبولوجية واجتماعية ونفسية حتى نستطيع أن نقف على أبعادها ومراميها وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية المحتملة على الفرد والمجتمع.
لما كان من الضروري لفهم مصطلح “ما بعد الخصوصية” الوقوف على حقيقة وهوية مصطلح “الخصوصية” المتجاوز ومعرفة ما له وما عليه. ومن ثم فإنه قد تم تعريف الخصوصية بأنها “قدرة الفرد أو الأشخاص على عزل أنفسهم أو معلومات عنهم عن مجال الآخرين المعرفي، وبذلك فإنهم يعبّرون عن أنفسهم بطريقة انتقائية ومختارة”. أي إنَّ الأفراد يحفظون كل ما يخصهم من معلومات في سرية تامة بحيث لا يمكن لأحد أن يطّلع عليها، إلا ما يريد هذا الشخص أن يفصح عنه طواعية من خلال إفساح مساحة معلوماتية لما يريد أن يعرفه عنه الآخرون.
والخصوصية في الأصل موقف دفاعي يتحصن بداخله الأفراد والمؤسسات حتى لا يقوم المنافسون والخصوم والأعداء باستغلال المعلومات المتاحة واستخدامها في إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بالخصم. فلكل فرد ومؤسسة الحق في المحافظة على خصوصيته بمعزل عن الآخرين. هكذا يقول عصر الخصوصية الكائن تحت السماوات المنغلقة.
ولما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًا لا يعيش بمفرده، بل يعيش ويتعايش ويتعامل مع الآخرين بكل أشكال التعامل، وهذا التعامل يتطلب أن يعرف كل طرف المعلومات الكافية عن الطرف الآخر فكان لا بد أن يفصح الإنسان عن بعض المعلومات ويتنازل طواعية عن بعض الخصوصيات التي يحتاجها الطرف الآخر عن شريكه، وذلك لتحقيق مصالح مشتركة، ولذلك تختلف كمية وحجم هذه المعلومات الخصوصية حسب طبيعة التعامل؛ فالصداقة غير الزواج، والزواج غير الزمالة في العمل، والزمالة في العمل تختلف عن المشاركة في المشاريع والشركات الخاصة… إلخ.
كما أن القوانين الخاصة بكل دولة في الوقت الذي تحرص فيه على عدم انتهاك الخصوصيات وتضع محاذير قانونية لعدم انتهاك هذه الخصوصيات فيما يُعرف بالحق في الخصوصية الذي يعد حقًا من حقوق الإنسان وعنصرا في معظم التقاليد القانونية يدين اتخاذ إجراءات يمكن أن تهدد خصوصية الأفراد، إلا أن هناك في أعراف هذه الدول قوانين أخرى تحد من هذه الخصوصية بطريقة أو بأخرى، ومن قبيل ذلك القوانين المتعلقة بالضرائب والتي عادة ما تتطلب مشاركة معلومات عن الدخل الشخصي أو الأرباح العائدة من الممتلكات أو المشاريع الربحية، كما أن هناك بعض القوانين الموجودة في العديد من الدول تنص على ضرورة الإفصاح عن معلومات تعد خاصة في عرف العديد من الدول أو الثقافات الأخرى.
وتعد المعلومات التي تعبر عن الخصوصية هي تلك المعلومات التي غالبا ما تعدّ محمولا للموضوعات التالية أو كل ما يتعلق بها: الحياة العائلية، الحالة الصحية، الرعاية الطبية، المحادثات الهاتفية، الذمة المالية، الآراء السياسية، المعتقدات الدينية، موطن الشخص ومحل إقامته، وحرمة مسكنه، وحرمة مراسلاته، واسمه، وصورته، وحرمة جسمه، وحياته المهنية والوظيفية، وقضاء أوقات فراغه. وبناء عليه تصبح الخصوصية هي القدرة على السيطرة على تلك البيانات الشخصية التي لا شركة للغير فيها.
ومن معرفة مصطلح الخصوصية يمكننا الوصول إلى تحديد لمصطلح “ما بعد الخصوصية” والذي يشير إلى السيولة المعلوماتية التي تتوفر عن الأشخاص والمؤسسات عبر التقنيات الجديدة، ومن أهمها الشبكة العنكبوتية، التي تتيح قدرًا كافيًا ومعقولًا من المعلومات بمجرد ضغطة زر. أي إن الأنا أصبح عاريًا أمام الآخر، ولم يعد بمقدوره أن يستر حقيقته وخصوصياته عن أعين الآخرين. فعصر ما بعد الخصوصية يعني انتهاء عصر الملثمين فلم يعد لهم وجود.
ومن ثم يتم تهافت مفهوم انتهاك الخصوصية الذي يعني الاطّلاع على خصوصيات الآخرين دون علمهم، فالمعلومات متاحة للجميع، وقد تنازل أصحابها عنها طواعية، ويستطيع كل إنسان الدخول عليها دون محاسبة من أحد. ولهذا المفهوم أشكال متعددة منها الاطّلاع على كل بياناته الشخصية أو متابعة المواقع التي يزورها المستهدف على شبكة الإنترنت أو السلع التي تشد انتباهه لمعرفة سلوكه الاستهلاكي، ومحاولة معرفة ملفاته الشخصية التي توجد بجهازه مثل الصور الشخصية أو أوراق العمل أو غير ذلك مما يدخل في إطار الخصوصية.
والجدير بالذكر أن مواقع التواصل الاجتماعي – كالفيسبوك على سبيل المثال – تحمل الكثير من البيانات الحقيقية لأصحابها كالاسم الحقيقي والصور الحقيقية والانتماءات السياسية والأيديولوجية، والمهنة والحالة الاجتماعية والنوع ومكان الدراسة، والتي تكون متاحة للدخول عليها من أيّ فرد. ومن ثم يمكننا القول إن مفهوم الخصوصية التقليدية قد تهاوى بشكل صريح، وأن عصرنا الراهن قد تجاوز مفهوم الخصوصية إلى ما بعد الخصوصية؛ حيث أصبح الإنسان مشاعا وكلاّ مباحًا، فكل المعلومات الخاصة به أصبحت متاحة أمام الجميع أمام الأفراد والأشخاص والحكومات، وغاية ما يمكن أن يطالب به الموجودون على مواقع التواصل الاجتماعي أن يحصلوا على تنبيه (Notification) إذا ما حاول أحدهم معرفة معلوماته الموجودة على حسابه الإلكتروني.
عصر الشفافية وما بعد الخصوصية
مما سبق يمكننا القول بأن الخصوصية قد تلاشت إلى حد بعيد منذ أكثر من عقد، ودخلت البشرية منذ بدايات الألفية الثالثة مرحلة جديدة من الانفتاح المعلوماتي المتزايد على جميع مستويات المجتمع؛ وهو ما يمكن أن نطلق عليه عصر الشفافية بامتياز؛ وهو العصر الذي قالت عنه نوفا سبيفاك (Nova Spivack) في مقالتها “عالم ما بعد الخصوصية” The Post-PrivacyWorld) ) إنه العصر الذي أصبح فيه الحفاظ على الأسرار أكثر صعوبة، وبالتالي ينتقل التركيز من الحفاظ على الخصوصية إلى كيفية التصرف عندما يمكن اكتشاف كل شيء (من المعلومات الشخصية إلى أسرار الدولة) إذا تم تحديد ما يكفي.
وهنا تتحدد إشكالية عصر ما بعد الخصوصية من خلال السؤال المحوري والجوهري، وهو: كيف يمكننا أن نتصرف أمام انكشاف كل الخصوصيات أمام الآخر؟ أي كيف يمكن للإنسان اليوم أن يتصرف وقد أصبح مشاعًا، ليس لديه ما يمكن أن يخفيه؟ فكل شيء معروف من الجميع ومكشوف للكل، وليس بإمكانه أن يعود إلى الوراء، فالعودة مستحيلة؛ لأن خيوط اللعبة كاملة ليست بيده، إن رفضها هو لن يرفضها الآخر، وإن أهملها سيتم تجاوزه ويصبح نسيًا منسيًا، ويصير مثل من يترك عالم المدينة ليعيش في عالم الكهوف والمغارات ويستر جسده بجلود الحيوانات متجاهلا كل ما تم إنتاجه على مدار عصور طويلة من الأقمشة والمنسوجات.
وفي ظل العودة المستحيلة لعصور الخصوصية الماضية يصبح العيش في عالم الشفافية ضرورة ونتيجة في الوقت نفسه لسباق التسلح الذي لا يمكن وقفه في أدوات الاتصالات وقدرات التنقيب عن البيانات، والتي ترجع بدورها إلى التقدم المستمر، والذي يمكن التعبير عنه حسب قانون مور الذي ينص على أنه “تزداد تكلفة حفظ الأسرار بشكل عكسي إلى انخفاض تكلفة الحوسبة”. ولذلك ليس أمامنا بدٌّ من التكيف مع هذه الحقيقة، وكما تقول سبيفاك “تبقى المقاومة عقيمة”.
مزايا عصر ما بعد الخصوصية
لا شك أننا للوهلة الأولى سنعتقد أنه ليس هناك مزايا يمكن أن يتضمنها عصر ما بعد الخصوصية، ذلك العالم الكاشف للجميع، فلا توجد هناك سواتر من الممكن أن تستر ما تعمّد الإنسان أن يخفيه، فالإنسان دائما يكره أن يرى نفسه عاريًا مكشوفًا. ولا شك أن هذه رؤية متعجلة تحكم على العصر الراهن بأحكام العصور السالفة التي تم تجاوزها كليًا. ومن ثم يمكننا أن نرصد لبعض هذه المزايا لعصر ما بعد الخصوصية، أهمها:
- توفير كافة المبالغ المالية والجهود البشرية المبذولة للحفاظ على الخصوصية.
- سهولة معرفة الآخر والتعامل معه بقدر عال من الشفافية.
- تضاؤل نسبة الغش والخداع إلى أدنى مستوياتها.
- توافر فرص واسعة للتلاقي والتعارف وعقد الصداقات وعلاقات العمل والتسويق للمنتجات وغيرها.
- اختفاء عادة التلصص على خصوصيات الآخرين، فلا خصوصية هناك يمكن التلصص عليها، ويصبح الأفراد والمؤسسات أكثر انفتاحًا.
- الشفافية تسهّل الوعي والاكتشاف والنقاش والابتكار والتعلم والتعاون والتطور.
- زيادة الشفافية تجلب المزيد من المساءلة، مما يعمل في الواقع على منع ارتكاب أيّ مخالفات في المقام الأول، ومن ثم يتم تحسين كل شيء.
ومن ثم يصبح العالم الأكثر شفافية لديه قدرة أكثر في أن يكون أفضل من عالم الخصوصية المفرطة والسرية. فعندما يكون لدى الأفراد والمنظمات توقعات بأن كل شيء يمكن اكتشافه، وأن لا مجال هناك لإخفاء المخالفات، فإنهم في الواقع يكونون أكثر حذراً ودأبًا على العمل وحرصًا على الجودة والإتقان. ولذلك يمكننا القول مع نوفا سبيفاك “إن الشفافية تحسّن الأعمال وأداء الحكومة والمجتمع ككل”.
إذن يجب على الجميع في عصر ما بعد الخصوصية عدم محاولة إخفاء الأسرار فتلك محاولة بات مقضيا عليها بالفشل بعد أن تمت ميكنة كافة المعلومات الخاصة بالفرد على أجهزة الحاسوب المتصلة بالشبكة العنكبوتية، فالبيانات الشخصية صارت مميكنة ومتاحة في السجلات المدنية، والبيانات المالية كذلك في البنوك بل والبيانات الصحية الخاصة بكل شخص فقد تمت ميكنة تاريخه المرضي وكل ما يتعلق بصحته العامة وجيناته الوراثية. ولذلك يكون التصرف الأمثل كما تقول نوفا سبيفاك أنه “بدلاً من محاولة إخفاء الأسرار، يجب أن نركز اهتمامنا على كيفية مشاركتها، شارك أكثر بدلاً من أقل، لكن قم بذلك بشكل أكثر مسؤولية”.
مخاطر عصر الشفافية وكيفية تجنبها
لا شك أن هناك خطورة جراء إتاحة المعلومات الخاصة بشخص ما وخاصة عندما يتم استخدام هذه المعلومات بشكل غير لائق. فلا شك أن استباحة الحياة الخاصة لشخص ما من قبل آخرين قد تسبب له بعض الأضرار، ومن ثم وجب علينا أن نضع استراتيجية واضحة تحمى الفرد من الاستعمال غير اللائق لمعلوماته في عصر السيولة المعرفية، ولعل أهمها على الإطلاق هي عدم السماح للأشخاص الملثمين بالتواجد وسط أفراد مجتمع لا يخفي شيئا، ومنا هنا يتوجب على مصممي مواقع التواصل الاجتماعي عدم السماح لأيّ شخص من الولوج إليها إلا بعد أن يكتب بياناته صحيحة، وليست بيانات وهمية. ويتم التأكد من ذلك بربط اسم صاحب الحساب برقمه القومي أولًا، وبرقم هاتفه الجوال ثانيًا، وهذه تقنية سهلة وممكنة بقليل من الجهد، حتى يكون الجميع مكشوفًا أمام الجميع ولا وجود للملثمين الأشرار.
ونختتم هذا المقال بضرورة التأكيد على الدعوة الصريحة للجميع بعدم التلثم في عصر تجاوز مفهوم الخصوصية الكلاسيكي؛ إذ يجب أن نتحرك جميعًا نحو صناعة عالم يتحلى بأكبر قدر من الشفافية على جميع المستويات من الفرد إلى المؤسسات إلى الحكومات، ويجب أن يكون السؤال الأجدر بشغل مساحة كبيرة من تفكيرنا اليوم، هو: كيف يمكننا تحقيق اتحاد عالمي أكثر شفافية بلا وجود أدنى خطورة ممكنة على الفرد أو المؤسسات أو الحكومات أو الدول؟ فهذا هو السؤال الأهم.