ومضات بوينس أيرس
تأتيني صور من تلك الطفولة في بوينس أيرس، تلك المدينة-الميناء الهائلة، الرمادية والضبابية شتاءً وكثيرة الناموس في حرّ صيفها الدبق، ذلك لأنها رطبة على مدار السنة لموقعها عند مصبّ نهر لا بلاتا، أعرض أنهار العالم، في المحيط الأطلسي.
أذكر تلك المياه العكرة الضاربة إلى لون الطمي الأصفر، حسب الإضاءة، فقد تستحيل رمادًا شبه قاتم أحيانًا. وجدت لونًا مشابهًا في بحر كوريا الجنوبية الذي يسمّونه «البحر الأصفر».
كما أذكر، في يوم صيف حار، ولعلّني كنت في الثامنة أو التاسعة من العمر، كنا عائدين على متن سيارة جار لنا (والدي كان نزقًا وأدرك، بعد تجربة قصيرة لامتلاكه سيارة، بأن من الأفضل أن يسوق شخص آخر) بعد قضاء النهار على ذلك الشاطئ الجنوبي من العاصمة ذات المياه العكرة، كان الازدحام هائلاً وقافلة السيارات التي تنوي الدخول إلى المدينة تتحرّك ببطء شديد. كنت جالسًا في الخلف بجانب النافذة اليسرى وقد هبط الظلام وتوقّفت السيارة عندما شهدت مقابل وجهي، الذي كان يطلّ محاولاً التنفّس، مشاداة بين ثلاثة رجال. رأيت بجلاء (كان لا يبعد عنّي أكثر من متر واحد) كيف أخرج أحدهم مسدسًا وأطلق النار على صدر غريمه. لا أنسى كيف سقط الرجل.. وتحرّكت السيارة.
في السيّارة إياها، والسائق ذاته الذي لا يمكن مقارنته بفانخيو (بطل العالم في سباق السيارات آنذاك والأرجنتيني الجنسية) حدث في مناسبة أخرى أن توقّفت السيارة فوق سكة القطار ونحن نعبرها. حدث ذلك ونحن نسمع صافرة القطار القادم ترتفع، لكن المحرّك لا يدور والحواجز الآلية بدأت تنخفض.. أدرك سائق السيارة التي خلفنا الخطر المحدق فدفع سيارته وصدمنا من الخلف إلى أن خرجنا من فوق السكّة. لكن حماقة سائقنا جعلته يتوقف وهمّ بالخروج من السيارة لمعرفة العطل عندما صدمنا السائق من خلفنا بشدّة أكبر. خرج سائقنا ليحتجّ بكثير من النزق وصارخًا: لماذا تدفعنا وقد خرجنا من فوق السكة!؟ فأجابه الآخر بوجه كالح، أذكره، والقطار يمرّ مسرعًا من خلف سيارته: أجل، سيارتك خرجت، لكن سيارتي كانت فوق السكّة.
تمّ تقديم الاعتذار اللازم.
من تراه ذلك الشخص الذي أنقذني وأهلي آنذاك؟
أحاول تذكّر ماهية اللغة السائدة في البيت. لا شك أنها كانت خليطًا عجائبيًا، فوالدتي لم تكن تعرف من العربية سوى مفردات معدودة وكانت تخاطبنا بأسبانية بديعة (تلك التي تستخدمها إلى اليوم)، وداومت على ذلك في سوريا، ما ساعدنا على المحافظة على اللغة الأمّ، بالإضافة إلى تلك الكتب والمجلاّت التي جلبتها معها وباتت شبه مندثرة لكثرة التعامل معها. وكان لوالدي لكنة المهاجر العربي، لكنني شبه واثق من أنّه كان يسبّ ويصرخ بالعربية كلما أقدمنا، أنا أو أخي عمر، على ما لا يرضيه. ما كنّا نفهم ما يقول صراخه، لكن اللهجة كانت بيّنة ومقنعة. وللحقّ، لأنني أذكر، كان يكرّر المفردة الأسبانية «كاراخو» (وهي كلمة تستخدم للتعبير عن الغضب، وهي غير موجودة في القواميس الأسبانية. لعلّها من لغة أهل البلاد الأصليين) ويدسّها في تعابير غضبه، واستمرّ على ذلك في سوريا.
أذكر أنني كنت أشعر نفسي، في الشارع، مع أترابي، في المدرسة.. مغايرًا للجميع.. أنني مختلف عنهم في أمور لم أك أعيها بعد، ولعلّ ذلك الإحساس هو الذي دفعني إلى التستّر بالصمت، ممّا جعلني الحاضر الغائب دومًا.
لكنني كنت هناك، ولم أكفّ عن التهام ما حولي ككل الأطفال المستغرقين في اكتشاف هذا العالم البائس.
أسرّت لي أمّي بعد سنوات كثيرة، تتجاوز الأربعين، بأن أخي عمر كان رضيعًا عندما حملت بي. كانت في العشرين من عمرها وما من أمّ أو عمّة أو خالة أو قريبة لها أو لزوجها تمدّ لها يد العون والنصيحة. المرأة الوحيدة التي أذكر مرورها بالبيت والتي طالما اعتنت بي وبإخوتي كانت «تيا» (عمّة أو خالة) فوطمِه، أي فاطمة بإحدى لهجات يبرود. لكن خبرتها كانت محدودة لأنها لم تنجب قطّ. ما زالت حيّة تعنى بنباتات بيتها الخارقة وقد تجاوزت التسعين، تحبنا ونحبها جميعًا. هي التي علّمتني أهمية مخاطبة النباتات لتستجيب لنا رضيّة.
لذا، تابعت أمّي البوح، حاولت إجهاضي بكل الوسائل المتيسّرة والتي كانت تتسقّطها لدى كل أنثى تفترضها خبيرة في هذا الشأن. جرّبت حمّامات الخردل الحارق والقفز من أماكن مرتفعة وغيرها من الوسائل التي لم تسترسل في سردها.
لكنني تشبّثت، على ما يبدو، ولم أرض سوى الميلاد نهاية. وإن كان، على العموم، بداية.
هذا يدلّنا إلى أنني كنت أحمق حتى وأنا في رحم أمّي!
لعلّه سبب الحضور الغائب الذي التصق بي إلى اليوم.
لم أسألها ما إذا كان والدي على علم بمحاولاتها.. من قبيل الفضول، لا غير. على أيّ حال ذلك لا يغيّر شيئًا.
ذكريات كثيرة تتداعى إلى الذهن. سجّلت بعضها في «الخواطر» على ما أذكر، كبعض تفاصيل الدار التي كنا نقطنها.. والجيران.
أمّا كيف كنت أتفهّم كوني مغايرًا، والواقع أن كلمة «تفهّم» ليست الأنسب.. لنقل أنني كنت أستشعر ذلك الانتماء الآخر. أحاديث والدي لي ولأخي عمر (ولدت مريم بعدي بأربع سنوات وتبعها فؤاد) عن ميزات وامتيازات سوريا، وكيف أن كل شيء هناك أجمل وأطيب. فإذا كنا نأكل المشمش يستخفّ قائلاً: هذا ليس مشمشًا، هذا زبالة! ثم يجمع يديه جاعلاً فراغًا بينهما يناسب لاحتواء تفاحة كبيرة ويتابع: هكذا هو المشمش في يبرود!..
الحبّ والشوق يعمي أحيانًا، وهذا أمر طبيعي.
ثم وجود الكتب المطبوعة برسوم عجيبة لا نفقه منها شيئًا. سرعان ما حاول والدي تعريفنا بلغته. كان مهاجرو يبرود، وكان في حيّنا تجمّع لا بأس به منهم، قد أسّسوا «الجمعية اليبرودية» التي مازالت قائمة، وكان والدي من الناشطين فيها. كان مقرّها في شارع «ألبرتي» الموازي لشارعنا، على مسافة لا تتجاوز المئتي متر عن بيتنا. اجتمعوا وقرّروا التعاقد مع معلّم للغة العربية. أذكر أن كنيته كانت «عبّود»، سمين، كبير (ربما لأنني كنت صغيرًا) أصلع.. وكان من جبل لبنان.
عددنا، الطلبة، ما كان يتجاوز أصابع اليدين، وكان لا يحضر أكثر من النصف، بالتناوب.. فليس من السهل على أطفال يؤمّون المدارس صباحًا، وأحيانًا عصرًا، احتمال ساعة أخرى مساءً تحرمهم من اللعب مع أترابهم في الشارع.
المهمّ، كانت المحاولة فاشلة تمامًا، فالسيد عبّود كان يكثر من تشبيه الغالبية بالحمير، وكان يهوى القول: هاك صفر قدّ رأسك يا حمار! ويرسم شكل الصفر على كامل الصفحة. كان رودولفو عدول الأكثر حظًّا بتلك الأصفار. صار فيما بعد من رفاقنا في دمشق، إلى أن قرّر العودة إلى الأرجنتين. فهذا ما حصل لغالبية أبناء المغتربين الذين قرّروا العودة إلى «الوطن» مع أبناء تجاوزوا العاشرة من عمرهم. معظمهم لم يحتملوا التغيير.. ما عدا ندرة.. أنا منهم.
تقاطروا عائدين، بمن فيهم شقيقي عمر، رفيق الطفولة والمراهقة.
ثمة عائلات عادت برمّتها، لكنّ والدي لم يقو على الاعتراف بالإخفاق. وهناك رفاق انتظروا وفاة الوالد (كآل جمعة، من بلدة الضمير) ليعودوا كومة واحدة مصطحبين معهم الوالدة المغلوبة على أمرها (باستثناء أنثى منهم كانت قد تزوجت قريبًا لها).
اللافت للنظر أن غالبية ذلك الرعيل من أبناء المغتربين العائدين لم يتمّوا أيّ دراسات. بمجرّد عودتهم إلى مسقط الرأس توجّهوا إلى الأعمال. منهم من نجح بفضل الفساد، كآل جمعة السالف ذكرهم، والغالبية ما زالوا يسكنون أحياء الفاقة.
الطريف أن إحدى بنات آل جمعة، وكنت معجبًا بها وربما عاشقًا، على الرغم من أنها كانت تكبرني بعدة سنوات.. لكنني كنت أحاول الدنوّ منها، ولأنها كانت تملّ حبيسة البيت وجدت متنفّسًا في محاولة تعلّم وممارسة بعض الرسم فطلبت مني مساعدتها. وهكذا كان، ثم أدخلتها في أجواء هواة التشكيل (في السادسة عشرة كنت من المواظبين على مركز توفيق طارق وكنت أشارك في نشاطات جمعية «أصدقاء الفن»).
نعود إلى الطرفة: تلك المرأة الجذّابة أصبحت زوجة الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم، سيء الذكر للخراب الذي سبّبه لذلك البلد، واليبرودي الأصل.
صادفت مرّة مقابلة معها مرفقة بالصور. كانت قد فقدت ألق الجمال البعيد بسبب تكرار عمليات تجميل ما أظنها كانت بحاجة إليها. كدت لا أتعرّف عليها. صرّحت أنها خرّيجة كلية الفنون الجميلة! فابتسمت مفكرًا: ربما كليّتي!
طبعًا، لا يليق بزوجة رئيس أن تكون بدون دراسات عليا، ما لم نقل قريبة من الأمّية. لكنني لا ألومها، فنحن نعيش في عالم لو شاء «الخالق» أن يجعله بهذا القدر من التلفيق والكذب والنفاق لعجز عن ذلك.
لكنني أشكر المصادفات التي أبعدت آل جمعة من طريقي، فجميعهم باتوا مضربًا للمثل في الفساد والنهب بمساعدة صهرهم الفاسد.
ما من حدود أو قوميات أو معتقدات في مدرسة الفساد العالمية.
وقد زاد حبّي وإعجابي بأخي عمر، الذي بقي على علاقة شبه يومية مع تلك الجماعة إذ عادوا إلى الأرجنتين في الفترة ذاتها (سنة 1970)، وكان يلتقي كثيرًا في بيت العائلة المرشّح للرئاسة عن الحزب البيروني كارلوس المذكور. وعندما فاز في الانتخابات سارع أخي إلى الانتساب للحزب الراديكالي المعارض، لأنه أدرك أنه قد يصيب نتفًا من النهب الذي كان يعرف أنهم مقدمون عليه، وأنه سينتهي ملطّخًا.. ففضّل الابتعاد عنهم جميعًا ليبقى فقيرًا، نظيف السيرة والشرف، في بلدة نائية على سفح جبال الآنديس، تفصله عن عاصمة الفساد 1500 كلم.
ما زال يعمل بالنجارة (على قدّ الحال) في تلك الجغرافيا البعيدة.
كثيرًا ما يتساءل المرء: ماذا كان ليحدث لو..؟
لأنني تساءلت: ماذا كان ليحدث لو رافقت أخي في رحلة العودة تلك؟ فلا يأتيني سوى جواب واحد مبنيّ على ثقة وقناعة شبه مطلقتين: لكنت يا ولد بين الثلاثين ألفًا من اليساريين الذين قضوا في السبعينات إبّان الحكم العسكري المدعوم من قبل اليمين المتطرّف، الكنيسة والراعي المعتاد: الولايات المتحدة الأميركية التي كانت قد انتهت لتوها من قتل سلفادور أليندي في تشيلي المجاورة وأوصلت المجرم بينوتشيه إلى السلطة.
ومن يدري؟ ربما كنت لأنضمّ لحركة «توباماروس» اليسارية التي كانت تستلهم رؤى الأرجنتيني تشي غيفارا، لأنتهي، كما انتهوا، قتلى منثورين في غابات الشمال الشرقي وبقية الجغرافيا الأرجنتينية.
لا أنسى فتاة أرجنتينية جميلة وذكيّة من مدينة كوردوبا، عرجت على بيت حماي في باريس لبضعة أيام في طريق عودتها إلى بلدها بعد إقامة غير معلنة وقصيرة في ألمانيا الشرقية (تسميتها بالديمقراطية غير دقيق بالمطلق).
حدث الانقلاب بعد أوبتها بقليل وتوالت جرائم «الاختفاء». ما عدنا نعرف عنها شيئا. أنا شبه واثق أنها بين المفقودين.
كان نصيب النساء، وبخاصة الجميلات منهن الأكثر فظاعة، فالاغتصاب الجماعي كان «طبيعيًا» والتعذيب الجسدي «عاديًا» (كإدخال جرذون حيّ وهلع في الرحم ليمزّقه بأظافره وهو يحاول الخروج منه).. قبل رميهن أحياء من الطائرة المحلّقة فوق المحيط الأطلسي.
الخطف، التعذيب والقتل (الذي يسمّونه اختفاء) كانت سياسة العسكر. عقول العسكرتاريا لا تصل إلى غير هذا.
ودام الأمر سنوات.
هكذا جرى «إخفاء» اثنين من أبرز كتّاب الأرجنتين آنذاك: هارولدو كونتي (ترجمت له قصة) ورودولفو والش، ويقال إن نهاية المغنّي الشعبي الشهير ذي الأصول السورية خورخي كفروني كانت على يد تلك العصابات.
صحيح ما يقوله الفيلسوف الأسباني أورتيغا إي غاسيت « أنا هو أنا مضافًا إليّ شروطي».
لو عدت في سنة سبعين إلى مسقط رأسي لعدت إليه شيوعيًا. تمسّكت، وما زلت، بالجدلية في السابعة عشرة.. بعد المرور بمرحلة التديّن التي لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر.
كان بحثي عن الحقيقة في المراهقة شرسًا بالفعل.
لا أستطيع شكر أيّ طرف لـ»إنقاذي». لعلّه الارتباط والتمسّك بجذور الوالد، وبخاصة الثقافية منها، واستغراقي الوله في محاولة الإبداع. ولا ريب في أن للوالد دورًا هامًا في تقديم أرضية التمسّك. فقد تسنّى لي بفضله، وأنا في الثامنة من عمري، أن «أتذوّق» القنابل المسيّلة للدموع.
ذلك لأن بعض أبناء الجالية العربية في بوينس أيرس قرّروا الخروج بتظاهرة احتجاج وإدانة للعدوان الثلاثي على مصر سنة 56، فقرّر الوالد أن نصحبه أنا وعمر. ما كان متوقعًا أن تواجه التظاهرة السلمية بذلك العنف. فرّقت السلطات الحشد بتلك القنابل وبالعصيّ.
أذكر كيف كنا نلجأ إلى مداخل البنايات ونقرفص وفي عيوننا نيران مندلعة تكاد تمنعنا من الرؤية.
عدنا ثلاثتنا إلى البيت بعيون حمراء ومحتقنة. لكنني ما زلت أفتخر إلى اليوم بأنني شاركت في الدفاع عن حقوق ما يسمّونه «الوطن» منذ نعومة أظفاري، كما يقال.
أصرّ على اجتناب استخدام مفردة «الوطن» بدون هلالين، لأن الحياة علّمتني أن من المحال أن يكون المقصود جغرافيا بحدود مرسومة، ثم أن «وطني» هو الرصيف الذي أمشي عليه بكرامة، أينما كان. وليست هذه شروط «الوطن العربي» اليوم، من المحيط إلى الخليج ودون استثناء.
لذلك ما زلت وسأبقى مدافعًا عن حقّه في الكرامة، فهو لن يتجاوز تخلّفه بدونها، وبإصلاح مفهوم الشرف الذي ساهم ويساهم المتأسلمون بتشويهه بالتعاون مع الطغاة المتسلّطين على الشعب.
لوحة: فادي يازجي
ما زادت العمائم وقلنسوات الخوارنة في بلد إلاّ واستفحل التخلّف والعنف فيه. رؤية استعراضية للتاريخ تقنعنا بذلك.
كما يرينا التاريخ أن حكم «وكلاء الله على الأرض» سرعان ما يهوي في الفساد والتفسّخ. أما كانت هذه نهاية التاريخ القصير لكل من المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس؟ فكيف يثق الناس بمن يتوّجون رؤوسهم بالعمائم؟
عودًا إلى صور الطفولة البعيدة تلك.
دار الحضانة تلك التي أودعنا فيها الوالدان أنا وعمر، في مبنى تبدّى لي آنذاك هائلاً. لعلّه كان قصرًا لعائلة ثرية استحال روضة للأطفال.
اللعب صباحًا مع بعض الرسم، ثم تناول الطعام فالقيلولة الإجبارية. عشرات الأسرّة الصغيرة (من النوع الذي يُطوى) في قاعة كبيرة مرتفعة السقف جدًّا.. والنوافذ التي تكاد لا تنتهي.
أذكر أنني ما كنت أنام، ربما عمر، وكنت أقضي ذلك الوقت مستلقيًا، فالمراقبة لا تسمح بالتحرّك، متأمّلاً السقف وما تيسّر لي من موقعي.
لم يطل المقام في دار حضانة الأغنياء تلك، لأنها كانت تبعد عن بيتنا وكان نقلنا إليها ومنها مرهقًا ومربكًا لوالديّ.
في يوم مغادرتنا قالت إحدى المربّيات لوالدي، وكانت تقصدني، «إنه يحبّ الرسم فاهتمّوا بالأمر».
يبدو أن ذلك الرأي دفع والدي إلى تسجيلي فيما بعد في أكاديمية للفنون وأنا في السابعة من عمري. سبق لي أن تطرّقت لهذا في مكتوب سابق.
قبل ذلك كان شقيقي عمر قد دخل المدرسة، وكان لا بدّ لي من الانتظار سنة ليحقّ لي.
ربما بسبب من الملل أو من قبيل اللعب، كنت أجلس معه لمراجعة الدروس. ما كان يفعل عن رضى بل بضغط من الوالدة التي كانت تراقب دراسته.
وهكذا، عندما حان وقت انضمامي للمدرسة قالت والدتي للوالد الذي أخذني ليسجّلني إنني أعرف جيدًا منهاج الصف الأول. حكى والدي ذلك لمسؤولي المدرسة (وكانت حكومية ولكن غير متخلّفة كمدارسنا!)، فقاموا بامتحاني وبدأت حياتي الدراسية من الصفّ الثاني، بجانب أخي عمر.
ربما حدث في تلك السنة، أذكر أنني أحببت طفلة كانت تجلس خلفي، كان اسمها أدريانا وكانت سمراء، لأنني لا أعشق سوى السمراوات.. ولأنّني مِعْشاق! (على وزن مِزْواج، وكلا المفردتين لا يتضمّنهما القاموس، لكنهما مفهومتان وأنا أهوى التجديد).
نُقلنا في السنة التالية لمدرسة أخرى فانقطع ذلك الحب الأول.
في خمس سنوات من الدراسة مررت وأخي في أربع مدارس مختلفة. لم أفهم قطّ سبب ذلك.
في المدرسة الأخيرة أحببت إحدى المدرّسات. كانت تحلق شعرها قصيرًا كالصبيان، وكان شديد السواد مشابًا ببعض الشيب. هيفاء القدّ وفي نظرتها شيء ما غامض.. وكأنها ليست هنا.. مثلما كان يحدث لي. لعلّني أحببتها لهذا.
المرة الوحيدة التي تعرّضت فيها لمعاتبة وتعنيف في تلك المدرسة الأخيرة كان في يوم شتائي بارد، رطب وعلى شيء من الضبابية. أذكر البرودة في الركبتين، لأن التقليد آنذاك كان إلباس الأطفال السراويل القصيرة، تحت بدلة المدرسة ناصعة البياض. الجوارب كانت تحمي الجزء الأسفل من الساق.. أمّا الركبتان..
لعلّ النسوة اعتدن تلقّف لسعة البرد في الركب.
توجّهت مع أخي مشيًا، جري العادة، عندما لاحظت بالقرب من المدرسة رجلاً أشيب ملتح يجلس على كرسي من النوع الذي يُطوى وأمامه حامل لوحات «سفري» خفيف، يستعدّ لتصوير منظور الشارع بالألوان الزيتية.. فتوقّفت أرقبه بينما تابع عمر طريقه.
دخلت المدرسة متأخرًا ذلك اليوم، ولذا كانت المعاتبة.
أذكر أنني حاولت تقليد ذلك الرجل الأشيب مرارًا فكنت أعبر الشارع لأجلس في الرصيف المقابل لبيتنا وأحاول رسم ما أراه.
أذكر بجلاء كافة تفاصيل واجهة البيت.
كانت السوسة قد بدأت تتغلغل.. تلك التي أحاول إزاحتها الآن.
من «رسالة في التذكّر». غير منشورة.