يحدّثونك عن الأمل
يولد الشاعر مراراً. في كل قصيدة له مولد، ومع كل قصيدة هناك خبرة فنية جديدة تصدر عن خبرة شعورية مختلفة. هذا الاختلاف من قصيدة إلى أخرى لا يسمح لنا بأن نصدر أحكاماً نقدية نجازف بتعميمها على قصائد الشاعر. هناك بالضرورة قاموس لغوي مشترك يجمع بين قصائد الشاعر، وكذلك سمات وميزات خاصة في علاقة الشاعر مع اللغة وفي تراكيبه الشعرية. لكن هذا لا يمكن إجمال وصفه وتحديده في جملة قطعية تقولها القراءة ويقولها النقد. الشعر سؤال. والقراءة لابد أن تكون سؤالاً.
***
قصيدة الشاعر اقتراح جمالي خاص، وهي حتى عندما تبلغ في كتابتها درجةَ الضرورة بالنسبة إلى شاعرها، ليس شرطاً لها أن تتحول إلى ضرورة بالنسبة إلى كل قارئ. يمكن أن تؤخذ ويمكن أن تترك. لعل قدر القصيدة كامن في مدى قدرتها على خلق زمنها الشعري المجترح من الزمن الكلي.
***
قدر القصيدة أن تنفصل عن الفاني؛ شاعرها، ليمكنها أن تتحرر من مصيره المحتوم. ليمكنها أن تكون معجزة الفراشة التي حررت جناحها من اليرقة المنطفئة.
***
ما السبب الجوهري الذي يجعل الشاعر العربي مهجوساً بفكرة أن يكون نجماً في فضاء احتكرت الشهرة فيه خلائق كثرتهم من المسوخ؟ أهو الجهل بحقيقة الشعر، أم الشك في قيمة ما لا يظهر في الضوء؟
II
كيف حدث أن اختفى الناقد الذوّاقة عاشق الجمال، وحل محله الناقد النرجسي المتعالي، المعتدّ بأدواته، فتارة يثني على النص ثناء العارف المحيط بأسرار الشعر، ولا وجود لها من دون وجوده، وتارة أخرى يؤدب النص بمسطرة المنهج.
وفي الحالتين، نحن بإزاء الناقد المتسلط على حرية الجمال بأغلال الأحكام، وقد ملَّكه مجتمع الثقافة المأزومة، وصحافتها السيّارة، سلطة المعرفة وسلطة الكلام.
***
نام الشعراء في بلاد واسيقظوا في بلاد أين منها بلاد أليس ذات العجائب. يتلفتون حولهم بأبصار مشدوهة، فما يرونه من صور صادمة أقوى من كل ما يمكن أن تبتكره مخيلاتهم.
تحدثوا عن انتمائهم إلى المستقبل فإذا بالحاضر أكثر غرابة من كل ماضٍ، ولا يمكن لمخيلة، مهما شطحت في الغرابة، أن تتصوره. ولم يبق أمام الشعراء غير أن يتقهقروا نحو حدائق الماضي التي أبهجت أسلافهم، هرباً من حاضر لا يعدهم بما هو أقل من الشرور.
***
يتحسر الشعراء على ذلك النوع من النقاد الذي وصفه أنسي الحاج بأنه "يسبح في الكره كما تسبح السمكة في الماء".. على الأقلّ كان ذاك يملك عاطفة الكره.. بينما الناقد الأدبي الرائج اليوم هو ذاك الذي يكتب الرطانة من دونما عاطفة، فهو "موضوعي"، مدّاح ومديحه بارد، وهجّاء وهجاؤه بارد، وفي الحالتين نقده يفتقر إلى حجّة. نجم صحائف تشبه الأغلال ويقينه أناه المتعملقة.
***
وناقد مدلل إذا ما أمعنت النظر في مقالته عن شاعر ذكّرتك بسابقتها عن شاعر آخر، وإذا ما قارنت بين المقالتين، وجدتهما ثالثة أعادت إلى ذاكرتك غيرها أسبق عليها قيلت في شاعر آخر.
مأثرة هذا الناقد في قدرته على أن يجد في شعر شاعر ما لا تستطيع حتى الجنّ أن تجده في هذا الشعر.
III
سنة أخرى ويطوي العرب وراءهم عقداً من الزمن لم يسبق أن عرفوا له مثيلا. عقد عاصف وأيام مروعة؛ لا تكفي لغتهم ولا غيرها من لغات الارض لوصف ما أنزل الطغيان ومعه حلفه الخارجي بأهل العربية من كوارث وآلام، وما شهدوه من فظائع مهولة، من فتك بالبشر وإتلاف للزرع وقتل للحيوان، وتهديم للبنيان، ومسح من الوجود لآثار الحضارة التي تركها الأسلاف.
تحيل الوقائع الفاجعة أيام العرب إلى قطرات هاربة في نهر هارب يسمونه الزمن.
فما الجديد بين يوم مضى ويوم يطرق الباب، وفي توالي الأيام وتعاقب الحوادث، وبينما الجشع والجريمة ينشران بيارقهما في أربع جهات الأرض، ما الجديد تحت الشمس، سوى الجشع والجريمة؟
رأينا ورأى العالم أجمع كيف يمكن لآلات الدمار أن تمسح مدناً بأكملها عن وجه الأرض، وأن تدفن البشر، على الهواء مباشرة، في أنقاض بيوتهم، وأن لا تبقي من أشكال الحياة حتى الأثر بعد العين. ومن يفعل هذا؟ الحُماة أنفسهم! من قدموا أنفسهم على أنهم حُماة الديار، فإذا بهم أبالسة أقسى على أهلها من عدوّ مبين.
كم مرة سنملأ الورق بمثل هذا الوصف؟ وهل بقي في الكلمات معنى وفي الصرخة جدوى، أم هي دموع قوم لا مصير آخر ينتظرهم سوى الهلاك؟
***
سنة أخرى، ويضيف الانهيار إلى المشهد هاوية جديدة تبتلع ما تداعى وما تهدم تحت ضربات ماحقة من قدر ماحق، ليكون في وسع الطغيان أن يعدد مآثره، بينما تكمل الفاجعة فينا صورتها، فلا عودة لمن تركوا مفاتيح البيوت في عهدة جيران جُرفوا هم وبيوتهم، وباتو طعاما للنسيان. ولا نهاية للحكاية لمن انتظروا نهاية الحكاية.
***
نحن في ألف ليلة وليلة من الجحيم، كل ليلة تفضي إلى أخرى، ظلمة تترعرع في كنف ظلمة، وجحيم يتشقق عن جحيم.
ويحدثونك عن الأمل..
قل إن يأساً يفجّر في العقل سؤالاً وفي الوجدان طاقة تترجم السؤال إلى إرادة حرّة، لَهو خير ألف مرة من أمل كاذب.
فليبتكر كل منا صيغة للأمل، ولأهَب أنه أفق لعابر، وضوء في آخر النفق لأسير.
لندن في يناير 2019