يوميات في الأسر الإسرائيلي:

عين بطل إشكالي على وطن متهرئ
الخميس 2022/09/01

من الإشكاليات التي واجهت النظرية النقديّة وآليات القراءة والتلقي، والأخيرة صارت ميدانًا مفتوحًا لأنواع متعدّدة؛ مسألة تجنيس الأعمال الأدبية [1]، على الرغم من أنّ كل تعريف أجناسي  – كما يقول محمد آيت ميهوب – “يجب أن يتضمن وعيًّا بطابعه الزمني من جهة، وطابعه الحيوي الحركي الفاعل من جهة أخرى” [2]، وهذا راجع إلى طبيعة الأنواع التي تتسم بالميوعة وانفتاح حدودها وهو ما يسمح بتداخلها مع بعضها البعض، فالنوع عند أوستن وارين “جملة من الصناعات الأسلوبية” [3]، إضافة إلى أن عملية التجنيس ليست حكرًا على مؤلف العمل، الذي يعمد في الكثير من الأحيان إلى مراوغة القارئ بوضعه مؤشرا أجناسيا مفتوحا (أو مائعا) على أشكال متنوّعة، فهناك الناشر الذي يخضع لسياسات التسويق والتوزيع، فيقوم هو الآخر باستقطاب القارئ إلى العمل الأدبي بوضع مؤشر جنس رائج حتى ولو كان لا ينتمي إليه، وأحيانًا يلجأ إلى وضع مؤشر جنس مفتوح يُغري به القارئ، ثم يأتي في المرحلة الأخيرة  المتلقي/القارئ الذي يؤطر النص وفقًا لخبراته الأجناسية وثقافته، أو مدى استجابته للنص المنتَج، أو وفق محددات أفق الانتظار كما حددها ياوث وهي تشمل ثلاثة عوامل تتمثل في “المعايير الشائعة عند القراء عن خصائص الجنس، والصلات الضمنية التي تربط النص بآثار سابقة معروفة، وأخيرًا المقابلة بين المتخيّل والواقع، أو بين وظيفة اللغة الإنشائية ووظيفتها العملية” [4]، ومن ثمّ صارت فوضى عارمة في عملية التجنيس في ظل غياب المحددات الفاصلة بين النصوص، فالراوية على سبيل المثال في أحد تعريفاتها هي جنس لا قواعد له (أدوين موير) أو أنها “نوع غير منته” (باختين)، ومن ثمّ فهي قابلة للتداخل مع كافة الأشكال، وهو ما استوعبته الراوية داخل بنيتها، بأن حوت الكثير من الأجناس القريبة منها وغير القريبة، ومع هذا ظلت محتفظة بنوعها الأصلي الرواية.

قد يختلف الأمر – بنسبة ما – في كتابات الذات، التي اجتهد منظروها لضبط حدودها بوضع ميثاق (أو عهد بالتعبير الإنجليزي) يفصل كل ما هو سيري عن غيره، وإن كان يقع تحت دائرة الذات، فلعب الميثاق السيري الذي اقترحه فيليب لوجون، والذي ينص على تطابق الهويات الثلاث: الراوي/الشخصية/المؤلف [5]، في إبعاد أجناس كثيرة من الانتساب إلى دائرة جنس السيرة الذاتية، وإن بدت قريبة من الدائرة مثل “المذكرات واليوميات، والشهادات، ورواية السيرة الذاتية، وكتب الوقائع” [6]، لكن مع هذا التحديد المنضبط، فإن كثيرًا من الكتّاب سعوا إلى كسر هذا الميثاق بأشكال شتى بعضها يأتي عبر مؤشر العنوان، فيؤطرون نصوصهم بأنها رواية وهي تنتسب إلى دائرة رواية السيرة الذاتية، أو يعمدون إلى إغفال اسم العلم وغيرها من حيل في أصلها مغازلة القارئ، وهناك من يؤطر نصه باسم اليوميات وهو يقصد المذكرات، والعكس صحيح.

وفي نص خيري الذهبي (1946 – 2022) “من دمشق إلى حيفا: 300 يوم في إسرائيل” [7]، وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات 2019، تواجهنا إشكالية التجنيس للنوع الأدبي، فمفردة يوميات تحتل مكانة مميزة سواء على مستوى مؤشر عنوان النص الخارجي، أو على مستوى السلسلة الصادرة بعنوان “يوميات عربية”، وأيضًا على مستوى استهلال الناشر، ومع هذا الإلحاح على تصنيف العمل على أنه ينتمي إلى جنس اليوميات، إلا أن قارئ النص، يفاجأ بأن البنية الشكليّة المميزة لليوميات كما هي سائدة في أدبيات اليوميات، والتي تعني تسجيلا دقيقا لليومي والمعيش، مؤرخًا بالزمن والمكان، على نحو ما هو ظاهر – على سبيل المثال – في يوميات تولستوي [8]، حيث نجد تحديدًا دقيقًا لتسجيل حياته اليومية بالتاريخ والمكان، وهو الأمر الغائب في نص خيري الذهبي، الذي يشمل يومياته في الاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني، إلا أن اقتطاعات من السيرة الذاتية تخللت هذه اليوميات، فاندغمت اليوميات في بنية السيرة الذاتية، ولم يعد ذكر اليوميات حاضرًا إلى في الإشارات المتكرّرة برصد جولاته في دمشق بعد العودة، فيلح في استخدام الدوال الزمنية التي تشير أحيانًا إلى لحظات التسجيل، وفي الكثير منها تشير إلى استرجاع المواقف والأحداث، كما هو ظاهر [في اليوم التالي، بعد أسبوع، في تلك السنة، بعد عدة سنوات، في الليلة التي سبقت السفر، قبل بضع سنوات، بعد حوالي الأسبوعين من بدء العام الدراسي]، وغيرها من إشارات زمنية بعضها يسجل الحدث آنيًّا، والبعض الآخر يضرب في الزمن الماضي.

صورة

كما تختلف اليوميات عن سائر كتابات الذات، في أنها فعل يومي بامتياز، يوثّق للحدث، أحيانًا بعبارات موجزة، وأحيانًا أخرى بعبارات وصفيّة مطوّلة تصف ما تخلّل اليوم من أحداث وحوارات ولقاءات وأفعال، يدوّن فيها صاحبها في كل مرة ما وقع له في الفترة القصيرة التي تفصله عن التدوين السابق، ومن ثمّ تعتمد بنية كرونولوجية/تصاعدية في السرد، لا تلتفت إلى الوراء، وإنما تتصاعد بتوالي الأيام وتطوُّر الأحداث. وهذه البنية مختفية تمامًا في يوميات الذهبي باستثناء فترة الاعتقال التي يحرص فيها على رصد كل الأحداث، لحظة بلحظة وإن كان غير معتن بتأطيرها بتاريخ محدّد، بصفة عامة نحن أمام حالة بوح للأنا الموجوعة واستذكار لأحداث مضت سابقة لزمن عودته وبعضها يعود إلى زمن طفولته، في حين أن السيرة الذاتية “تشمل حياة المرء في مجموعها” والأهم أنها تكتب بعد أن يكون قد “انقضى من تلك الحياة شطر كبير”، وهو ما يجعل بنتيها تعتمد زمنًا ماضويًّا، لأن الذات في فعل استعادة. الاختلاف الثاني أن اليوميات تكتب بأسلوب حر، يخلو من التنميق البلاغي واللغوي، فالحالة الشعورية التي تكون عليها الأنا أثناء التسجيل تكون غير معنية بالبحث عن بلاغة أسلوبية أو رصانة لفظية، فهي تأتي كدفقة واحدة، محمّلة بكل ما تشعر به الأنا، لحظة تواصلها مع نفسها الداخلية/أناتها، كنوع من الاسترخاء، وهو ما يعمل على تهدئة النفس بمواجهتها بأناتها وكأنها أشبه بفعل المرآة.

ومع هذه الفروق الشكلية في بنية اليوميات والسيرة الذاتية، إلا أن هذا لا يمنع أن تتسرب اليوميات في بنية السيرة الذاتية، فيعتمد كاتب السيرة على ما دوّنه سابقًا في كتابة سيرته، والعكس تتسرب السيرة الذاتية إلى اليوميات، ولو بدا المؤلف في السيرة حريصًا على إغفال تدوين التاريخ، لكن يحدث التسريب، وتتخلل بنية اليوميات، فكما يقول جان ستاروبينسكي “تأتي اليوميات في هذه الحالة لتفسد على السيرة الذاتية أمرها، فيصبح مؤلف السيرة الذاتية أحيانًا كالعازف على وترين” [9].

هذا التداخل بين اليوميات والسيرة الذاتية، فرضته – في المقام الأول – طبيعة التجربة نفسها، وهي تجربة مريرة بطبيعة الحال، لما حاق بالذات من انكسار على المستوى الشخصي (بالفشل في تحقيق حلمه بدراسة الإخراج السينمائي)، ثم على مستوى الوطن (بحالة التراجع على مستوى الخدمات وتهالك البنية التحتيّة تارة، ثمّ الهزيمة واحتلال جزء من أراضيه تارة ثانية)، وهو ما انتهى بالوقوع في الأسر، لتصبح الذات المهشمة في مواجهة مع ذاتها الحالمة، بأحلامها التي كانت بحجم الأرض والسماء، ومع مواجهة الواقع المرير تتقلّص أو تختزل الأحلام إلى مهمة البحث عن عمل ليسدّ رمقه ورمق أمه، ثم يصبح أعلى طموحها بعد تهاوي الشعارات والخطابات التي تُبشِّر بالنصر، واستعادة الأرض، وصدمة الهزيمة المريعة، أن يفرج عنه باعتباره ضابطَ ارتباط في قوات الطوارئ الدولية، وليس جاسوسًا كما سعى العدو الصهيوني لإيهامه، أو تصوير الموقف، حتى يتلافى الخطأ الذي ارتكبه بأسر ضابط ضمن قوات الطوارئ الدولية.

فالمعاناة التي عاناها بعد العودة بحثًا عن عمل، وما شاهده من صورة مزرية على الأرض لسياسات حزب البعث، والهزيمة التي كان شاهدًا عليها، ثم العدو الذي لم يكن يعرفه، كل هذا يدفع الذات إلى أن تجترّ ماضيها بحثًا عن نقطة النور وبالأحرى عن الخلل أو لماذا يحدث ما يحدث؟ سواء في رحلة تمرده لتحقيق حلمه أو في تمرده على سياسات التدجين التي سلكها حزب البعث، ومن ثمّ تتقاطع اليوميات مع أطوار من حياته الشخصيّة، فثمة اقتطاعات عن حياته في القاهرة التي عاد منها خائبًا بخُفي حُنين، وهو الذي قصدها لدراسة الإخراج السينمائي، وبالمثل فرنسا، وإن لم تأت بصفة مستقلة وإنما جاءت عبر استدعاءات/استرجاعات على طول النص عبر منولوجات تارة، وتداعيات حرّة تارة أخرى، وتوازيات مع مشاهد جديدة تارة ثالثة كما هو في قصة إبراهيم اليهودي، وأيضًا اقتطاعات من طفولته البائسة وحياته مع أمه، وأهم طور – من حياته – شغلته اليوميات، هو عودته إلى دمشق وبدء رحلته في البحث عن العمل، ما بين الحسكة وأماكن أخرى، وثمة طور يتعلّق بفترة تجنيده كضابط ارتباط في الجيش السوري يعمل مع قوات حفظ السلام، ثم يأتي الطور الأخير والذي كشف عن صورة من صور المثقف الحقيقي الثوري المتشبع بالأفكار الثورية والمؤمن بقضيته، دون التنازل عن مبادئه التي يفرضها أولا ولاؤه للوطن، وثانيًّا تمثُّله لقيم المثقف العضوي – بتعبير جرامشي – الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، ومن ثمّ لا ينعزل في برجه العاجي، ويعتقد أنه أعلى من الناس، بل يسعى لتغيير المجتمع بأفكاره وكتاباته.

عين على الداخل

يستغرق الذهبي الجزء الأكبر من اليوميات وفقًا لتمثّله لنموذج المثقف العضوي، في تفكيك أيديولوجيا البعث، تارة عبر صور صريحة مزرية لواقع سوريا تحت حكم البعث، أثناء رحلته للبحث عن عمل بعد عودته من مصر، فاكتشف أنه لم يتغير شيء من سوريا التي تركها قبل خمس سنوات “ماعدا الحفر الواسعة عمدًا والمقوّاة بأنابيب مجاري واسعة من الإسمنت في الشوارع، فضّل الناس استخدامها مكبًّا للزبالة بدلا من تركها مهجورة، رموا فيه فضلات منازلهم” (ص 13)، أهم شيء اتسمت به دمشق هو ازدياد البطالة التي “قد أمسكت في خناق السوريين في أواخر الستينات”، وعندما يحالفه الحظ بالعمل كمدرس في الحسكة، يصف بشاعة الطرق والاستراحات التي لم تكن آدمية بالمرة بل بعيدة عن كل خيال “فلم تكن مبنية من الإسمنت، أو من الطين، بل من أغصان الشجر اليابسة مع أغصانها الصغيرة وأوراقها المخشخشة، وبقايا البطاطين، وبقايا خيام الجيش التي طارت عن معسكرها حتى عثر عليها بعضهم” (ص 33)، بل إن المدينة نفسها الحسكة كما يصفها “متواضعة في كلّ شيء، متواضعة العمارة، ومتواضعة الأثاث، ومتواضعة الجوار”.

مثل هذه الصور البشعة والمقززة تنتشر على طول خط اليوميات، في إشارة إلى حالة الإهمال وعدم المبالاة من الحزب، لتطوير البنية التحتيّة للدولة، وانشغاله بسياسات القمع والترهيب، وهو ما عكسته مدينة الحسكة وأهلها، فهي “مدينة لمهاجرين مذعورين من القتل والقتلة الذين طردوهم من مرابع طفولتهم وقبور أهاليهم، فنجوا، وما صدقوا أن نجوا من الذبح والاغتصاب وقتل الأطفال أمام عيون والديهم، فصنعوا بيوتًا ناقصة من كل شيء إلا للخائفين من المطاردة والمطاردين” (ص 37). ولا يختلف الأمر في “جملة” القرية (المخفر الوحشي) التي ينتقل إليها للعمل مع قوات الارتباط الدولية على خط الهدنة بين سوريا وإسرائيل، فهي كما يقول “قرية في حوران، نسيها حتى جيرانها لبعدها عن مظاهر الحضارة كلها التي وصل إليها الإنسان منذ القرن التاسع عشر” (ص 68).

في مقابل حالة الإهمال التي توليها الدولة وأذرعها لقطاعات عريضة كالزراعة والصناعة والتعليم وغيرها، فثمة جهود فردية يقف أمامها بالانبهار والإدهاش كصورة نقيضة تكشف سياسات السُّلْطة الحاكمة، فعندما انتقل إلى مخفر جملة، هناك يلتقي بالفلاح الذي زاره فجأة، وبعدما يحدث التعارف بينهما، يذهب معه إلى مزرعته، فيفاجأ بما يرى “فهذا الفلاح المتواضع في ثيابه قد استطاع إنشاء مزرعة جميلة جدًا، وناجحة جدًّا، ولا مثيل لها في القرية، أو على الطريق إليها” (ص 70). هذا المشهد يأتي كتأكيد لإرادة السوري الذي إذا أراد شيئًا فعله، ونجح نجاحًا باهرًا، وهو ما يتكرّر مع صديقه عمر بواسير الذي بعد أن خرج من الوحدة، هاجر إلى فرنسا، وتزوج فرنسية، وعمل مبرمجًا في شركة كمبيوتر، وقد استعانت به الدولة السورية ليبرمج كومبيوتراتها كفرنسي مُرسل من الشركة التي يعمل لديها.

وتارة أخرى عبر صور صريحة، تعكس لنتائج هذه الأيديولوجيا القمعيّة المفروضة على المؤسسات التي عمل بها، من قبل أذرع الدولة الأيديولوجية (الشرطة والمخابرات)، سواء في التدريس أو في الجيش، فيكشف عن خلل جسيم في البنية الفكرية الحاكمة، ليس فقط في اعتمادها على الخلصاء من كتاب التقارير، وحالات الاستقطاب للأشخاص، ليقعوا في دائرة السلطة دون محاولة للفكاك منها، بغية الحصول على منافع شخصيّة، التي هي بمثابة ذهب المعزّ خوفًا من سيفه، وإنما في إدارة السلطة نفسها، التي أهملت كل شيء في سبيل تحقيق هدف وحيد، وهو الاستحواذ على السلطة، وضمان عدم الانشقاق عليها.

ترسم اليوميات صورة مزرية لحالة العنف المادي والمعنوي التي مارسته السلطة على كل المناهضين لسياستها (على اختلاف أيديولوجياتهم: دينية: إخوان مسلمين، سياسية: شيوعيون)، وهو ما دفع بتشويه الشخصية السورية في معظمها، وجعلها شخصية منبطحة للسلطة، فعل المقاومة أشبه بمستحيل من المستحيلات، كما تركز على جذور هذه المسألة “التي مكّنت مجموعة صغيرة من العسكريين من تبديل عقيدة الجيش الوطني السوري ليلعب بدلاً من دوره الأصلي المتمثل في حماية البلاد، دور الأداة الطيعة الغاشمة والعمياء في قمع الشعب، وحراسة نظام فاشي على الطريقة اللاتينية” وهو ما يظهر بجلاء إبّان حرب تشرين؛ إذْ كشفت الحرب عن ضعف هذا الجيش، وعدم قدرته الدفاعية؛ لاعتماده على عناصر غير مدربة، وغير صالحة للقيام بالمهام القتالية، كما في صور الطيارين الحاصلين على الثانوية.

الجولات التي قام بها الذهبي بعد عودته للبحث عن عمل، تكشف – دون عمد – حالة من الموت الإكلينيكي للحياة تحت حكم البعث، فسوريا صارت إلى موات، لا فقط في حالة استسلام الناس، ورضوخهم لسياسات الحزب، وإنما في تردّي الخدمات، وشيوع الوشايات بين العاملين من أجل تحقيق مكاسب صغيرة (منافع شخصيّة)، فصورة مدير مدرسة المنصور الذي بدأ رحلته التدريسية فيها، نموذج صارخ لما صارت عليه الدولة السورية؛ فالمدير الذي كان رجلاً عاميًا كما يصفه في أول يوم له، يخطب خطابًا مرتجلاً، عبارة عن ثرثرة مختلطة بتهديدات البعث لمن لا يسمع ويطيع، يكشف عن نماذج مماثلة في الكثير من المواقع في مؤسسات الدولة، لسياسة الدولة البعثية في اختيار موظفيها، فهم لا يعتمدون على الكفاءات، وإنما على الولاءات، فكما يقول “إن اختيار أغلب البعثيين للمناصب القيادية، يُوجب عليهم أن يكونوا من كتاب التقارير بزملائهم، ومن أعضاء الحزب الموثوقين” (ص 22 – 23).

سياسية البعث تتجلّى أنكى صورها في حالة الإقصاء والإبعاد للمختلِف في الديانة والعقيدة، فصورة إبراهيم الطالب اليهودي المنزوي في الصف، وحالة التنمّر التي مارسها عليه زملاؤه من الطلاب صغار السن، تكشف كيف نجحت هذه السياسة في الوصول إلى شرائح وطوائف مختلفة من الشعب وأتت ثمارها؛ فالعمر ليس معيارًا لتبنّي مثل هذه السياسات والترويج لها والدفاع عنها، وهو ما سعى الذهبي في أول يوم دراسي له أن يقوّضه ويفكّك هذه النظرة الإقصائيّة الرافضة للآخر بخطاب وإن بدا رومانسيًّا إلا أنه عاكس لدور المثقف النهضوي، في إزالة الخلل وإصلاحه، فجاء خطابه الذي هو في الأصل خطاب حماية للصبي إبراهيم من ممارسات العنف والتنمّر التي انغرست لا إراديًّا في نفوس أطفال بريئة جراء خطابات الكراهية والعنصرية التي يؤججها النظام في نفوس الشعب بكافة طوائفه، عاكسًا لأيديولوجيا ترفض العنف بكافة صوره، الماديّة والمعنويّة، وكذلك عاكسة لانفتاح العقلية وعدم جمودها فـ”الدين لله والوطن للجميع”، كما أراد أن يُعزّزها في نفوس الطلاب أثناء خطابه الرومانسي.

المثقف النهضوي

صورة

هذا المشهد على قصره ذو دلالات متعدّدة، تكشف عن سياسة الحزب في التحريض واستغلاله فزاعة الدين، لإحداث شروخ وانقسامات في النسيج الوطني، والأهم قصور دور المؤسسات التعليمية في القيام بأدوارها التربوية قبل التعليميّة، فصارت هذه المؤسسات بفضل هؤلاء الرجال المختارين لا حسب الكفاءات وإنما حسب الولاءات، مفرخة لتنشئة إرهابيين ومتطرفين كما حدث مع العملاق الأصهب، الذي كان متشدّدًا للدين، ثمّ في تحوّل مفاجئ انتسب إلى حزب البعث، وصار يدافع عن سياسته في عمى، إلى درجة أنه صعد المنبر ذات مرة، وسبّ النبي والدين الإسلامي فهاج عليه المصلون فتمّ القبض عليه، ودخل السجن، وبعد الحكم عليه للإساءة إلى الدين، قام بالانتحار. وهو ما سعى المثقف لعلاجه بهذا الخطاب الرومانسي. وهذه هي السياسة.

فكرة التعصُّب التي مارسها طلاب ثانوية القديس فنسان أو المنصور (بعد التأميم)، كانت لها تبعاتها أو آثارها في مؤسسات أخرى، وكانت تظهر عبر صور متعدّدة، أبرزها ما واجهه أثناء دراسته في كلية التربيّة، فطلاب كلية اللغة العربيّة، كانوا يرونه “أدني منهم علمًا وتعلمًا”؛ لأنه قادم من مصر، ولكن أبشع هذه الصّور كانت في حالة التشدّد والتزمت برفض الاختلاط بين الشبان والشابات أثناء الدراسة، إذ كان أنصار هذا الاتجاه يعلنون “أن الاختلاط مناف للدين والشرف” (ص 24).

تتوالى المشاهد الكاشفة لسياسة البعث المخرّبة للنفوس قبل العقول، والتي تعتمد اعتمادًا كليًّا على الشكل دون المضمون، ففي مشهد تصحيح أوراق طلاب الثانوية، وقدوم الوزير كي يطمئن على النتيجة، وما إن عَرِف نسبة النجاح الحقيقية (المتدنيّة) حتى ثار ثورة عارمة؛ ثورته لم تكن حرصًا على السياسة التعليمية، أو تحرّي الدقة في التصحيح والرصد، وإنما كانت دفاعًا عن سياسة الحزب، وخشيته أن تتشوّه صورته بعد الثورة، بهذه النتيجة الهزلية، فلم تهدأ ثورته إلا بعد أن تمّ تعديل نسبة النجاح المطلوبة. فهؤلاء في نظره هم أعداء الثورة، وعملاء الرجعية. ويجاوره في هذا المشهد مشهد حالة التغاضي عن الغش في لجان الثانوية للطلاب القادمين من العراق.

تكشف اليوميات عن صورة المتمرد، وهي السمة التي سيكون لها دور كبير أثناء اعتقاله، فجذور التمرد تمتد إلى طفولته، ورفضه الانصياع إلى قرار الأب بالتسجيل في كلية الشريعة، أو كلية الآداب فرع اللغة العربية في جامعة دمشق، وصمم أن يغادر ويذهب إلى مصر لتعليم الإخراج السينمائي. بذرة التمرد التي أخذت تكبر معه، ولازمته طيلة حياته، فما إن طرد من مصر لرفض إدارة المعهد الطلاب من الشرقيين على نحو ما أخبرهم مدير المعهد حسن فهمي والد الفنانة فريدة فهمي، حتى سافر إلى فرنسا ليلتحق بالـ”إيديك” معهد دراسة السينما، وأجبر نفسه على أعمال شاقة، إلا أنه انصاع لنداء الحب مع “ذسبينا” (الفتاة البوهيمية) التي كان حُلمها السفر والرحلات، فاستجاب لها وتخلّى عن حلمه في دراسة السينما، فهذه البذرة كان لها مردودها في رفض التعنت الذي عاملته (هم) به قوات الاحتلال في المعتقل، وراح يدافع عن حقه وحقوق الأسرى، شاهرًا في وجوههم ميثاق الأمم المتحدة، وطورًا آخر في رفضه أن يكون حمامة السلام كما أراده الضابط الإسرائيلي، على الرغم من الضغوط التي مورست عليه، وقبله رفضه الالتجاء إلى الخرافات داخل السجن، على نحو ما أشاع أحد زملائه بأن قراءة الصمدية ثلاثة آلاف مرة، تفتح أبواب السجون، وهو ما فتح عليه باب عداء ولو مستتر.

أهم مشهد يبرز صورة المثقف العضوي أو النهضوي، المشارك في البناء، والدعوة إلى الإصلاح تتمثّل في صورة الكتاب الذي قام بتأليفه، راصدًا فساد تجربة الإصلاح الزراعي التي اتّبعها حزب البعث، مقارنة بالتجربة الأولى في عصر الإقطاع، والذي “مكّن الدولة السورية لأربعين سنة من التفاخر بالميزان التجاري الرابح” في مقابل التجربة الجديدة التي فرضها حزب البعث والتي كان من نتائجها “انسحاب المصنعين الزراعيين من سوريا مع ثرواتهم وخبراتهم خارج البلاد” (ص 47). توزيع الأراضي الذي قام به الحزب على المحظوظين من عمال تلك الأراضي، خلقت منهم طبقة جديدة، طبقة محظوظة بقربها من الحزب، فهو الحزب الذي جعلهم “من الملاكين وجعلهم يشعرون بالتميز على من لا يملكون أرضًا أو مالاً، ولكنهم يملكون الرغبة في الربح السريع” (ص 48). تجربة الكتاب المفقود الذي ألفه بعنوان “بين تجربة التصنيع الزراعي في شمال سوريا والكيبوتز الإسرائيلي في فلسطين” لها دلالتان؛ الأولى كاشفة عن شخصية المثقف النهضوي الذي يؤرقه الهمّ العام وينغمس فيه بغية حلّ مشاكله، والدلالة الثانية كاشفة لآليات الدولة القمعية التي تصادر كل فكر حرّ خلّاق، فالكتاب بعد أن قبلت به دار النشر، رفضته، وعند إعادته فُقد، في دلالة إلى قوة الدولة المخابراتيّة.

تعتبر يوميات الذهبي سجلًا تاريخيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وأنثروبولوجيًّا لفترة تاريخيّة مهمّة من تاريخ سوريا لها انعكاساتها على حاضر سوريا الآن، بل ولو شئنا الدقة تُفسِّر الكثير من التساؤلات عمّا يحدث منذ وقائع الثورة السورية وانتكاساتها، وحالة اللجوء والهجرة التي وجد فيها الكثير من الشعب الخلاص (أو البديل) من قيود كثيرة، فإلى جانب الوضع الاقتصادي المنهار، والسياسي المشبّع بأيديولوجيا الحزب، والحربي المنكسر، فإنه يرصد عبر مشاهد دالة حالة التكوين الاجتماعي للمجتمع، فيستعرض لحالات الهجرة التي حدثت، وتأثيرها على ديموغرافية الدولة بما سببته من عنوسة تعرضت لها فتيات الحسكة بسبب هجرة الشباب إلى العاصمة وأماكن أخري للزواج، بسبب الحالة الاقتصادية وتكاليف الزواج حسب التقليد الريفي في ماردين أو في طور عابدين، فيقوم كاهن كنيسة السريان الكاثوليك بلعب دور محوري لتميزه بعقلية متحرّرة فكريًّا، في حلّ هذه المشكلة.

مدرسة هنانو

ولئن كان الذهبي في القسم الأول يفكّك أيديولوجيا البعث على المستوى الفكري والاجتماعي والاقتصادي، وهو ما كانت له نتائجه في حالة الركود التي عاشتها البلاد، وما صحبها من إهمال في كافة المرافق، وهيمنة طبقة جديدة على مفاصل الاقتصاد نشأت بحماية من الحزب بصفتهم أصحاب الولاء، فإنه في الجزء الخاص بفترة تجنيده في الجيش يفكّك منظومة الجيش والعقيدة القتالية التي نشأت في ظل هذه التوجهات البعثية، التي جعلت الجنود يكون ولاؤهم للأشخاص على حساب الأوطان والدفاع عنها. فيرصد منذ لحظة التحاقه بمدرسة هنانو، حالة التعبئة بالخطابات الجبهوية، التي تبثها القيادات المنتمية لحزب البعث، في مقابل إغفال مشاكل سوريا (الحقيقية)، والتحريض على الاشتباك مع العدو الصهيوني في الخطابات الثورية التي تلقى أثناء تمارين الصباح اليومية في فترة التدريبات، وإحلال فلسطين إلى الواجهة.

ففي هذه الفترة التي كان من المفترض أن يتعلّم فيها الانضباط العسكري، والتدريب على السلاح، لم يتعلم فيها سوى “وقفة الاستعداد”، اكتشف سوريا التي لا يعرفها “سوريا الريف المظلوم”، ففيها تعرّف على جوهر الدولة العسكرية المملوكية السورية، وما تنتهجه من عنصرية وفصل بين أبناء الوطن الواحد، بسبب سياسية التوصية، لمن ينتمون إلى الحزب والمواليين لسياساته. فالقيادة العسكرية لا تكترث إلا “لمجموعتها وعصبيتها، وبين أصحاب الحظوة” (ص 59). والأهم أنه يكتشف أن المسؤولين على النظام والدفاع عنه هم الذين يخرقون النظام، ويتحرشون بالشعب كما حدث في مدرسة المدرعات، حيث “تحرشت مجموعة من غوغاء سرايا الدفاع بامرأة عابرة، فهاج متحمسون من شبان الشارع، ومنعوهم من الخروج عن الانضباط، والأدب، فضربهم العناصر، واستدعوا كل لابسي الثياب المبرقعة (الزي الخاص لسرايا الدفاع)، وقطعوا الطريق، وكسروا المحلات التجارية.. وقبضوا على بعض المعتدين على المواطنين، وحملوهم في سيارات الشرطة.. حيث اعتقلوهم في السجن تمهيدًا لمحاكمتهم” (ص 66)، المشهد لم ينته عند هذه الصورة، بل امتداده يكشف عن صراع السلطة – السلطة داخل الأسرة الحاكمة، وهو ما يعني التفكك ليس على مستوى الخارج، فالتفكك داخل بنية الحكم، وهو ما ستكون له تبعاته على مستقبل سوريا كلها فيما بعد، فبعض الهاربين من الاعتقال “مضوا إلى ثكنة سرايا الدفاع، حيث أبلغوا السيد رفعت الأسد شقيق رئيس الجمهورية بما حصل، فأمر دورياته المحمولة على دبابات، فهاجمت سجن الشرطة العسكرية، وكسرت أبوابه، وانتزعت المعتقلين المشاغبين، ثم أطلقوا كميات هائلة من الرصاص، يتحدون من يفكر في مهاجمتهم واعتقالهم في قادم الأيام” (ص 66). هذا الفعل دلالته تتجاوز الانتصار للمظلومين، إلى أن هناك قوة تجابه قوة، ولكل قوة لها عناصرها الموالية لها، والقادرة على الرد بنفس الآلية والخشونة.

شاهد على الهزيمة

صورة

في كل مكان داخل وحدات الجيش كان الاكتشاف المميز له؛ اكتشاف التمييز الصريح (العنصرية) بين السوريين، وبعد انتهاء الشهور التدريبية له في معسكر طارق بن زياد، حيث تعلّم المشية النظاميّة، والاستعراض العسكري، عاد إلى دمشق حيث مدرسة المدرعات لاستكمال دورة تدريبية هناك. ومنها إلى مخفر جملة في الجولان. وعندما تحدُث الكارثة؛ أي العدوان، وسقوط الطيران، يُصاب بحالة من الدهشة لما يحدث، فالحرب المنتظرة، التي تحدثتْ عنها “كتب الآباء والأجداد، أو الحرب المشتهاة، كانت عبثية” (ص 95)، والجيش الذي كان يتصوّره قادرًا على التصدّي لجيش العدو، لا وجود له، وتسقط طائراته تلو الأخرى، وتحترق دباباته بمن فيها، وهو ما يكشف عن الفساد في الجيش، حيث الجنود وقادة الطائرات غير مؤهلين لمهاهم، بل في واقع مؤسف يسقط الجنود طائراتهم لا طائرات العدو.

كان موقعه في المخفر أشبه بشاهد عيان على هزيمة كبرى، وسقوط أحلام عريضة لجيل كامل، كان يأمل في الثأر للكرامة والشرف والأرض، وبعد أيام قليلة يحدث الأسر؛ الأسر الذي يكشف تواطؤ قوات الأمم المتحدة، وتسليمه إلى القوات الإسرائيليّة، فتبدأ رحلة مؤسفة ومضنية مع الأسر، كاشفًا عن تشوهات النفوس، وحالة الخواء الفكري التي جعلت مجموعة من الأسرى على اختلاف رتبهم ومكانتهم العلمية (دكتور/مهندس/وآخرين) يلوذون بأفكار أهل الخطوة، من أجل الخلاص، فالحلول العلمية قد تلاشت، ولم يعد أمامهم ملاذ إلا الالتجاء إلى الخوارق والمعجزات وقوانين السماء.

حالة الاجترار الجنائزي لوقائع الهزيمة وسقوط الحُلم، بقدر ما هي تصف حالة الضعف والتهاوي في صفوف القوات السورية، في تناقض تام مع الشعارات الحماسيّة من قبيل: “خسئ العدو حين اعتقد أن سورية قد هزمت حين سرقوا الجولان منها، ناسيا أن حلمه الكبير في هزيمة الثورة لم يتحقق فثورة البعث باقية وإلى الأبد”، والأهم سقوط هيبة الدولة السورية في الدفاع عن جنودها الأسرى، والمطالبة باستردادهم بل والتعويض، وفي الوقت ذاته تكشف عن مثقف ثوري أُجهضت أحلامه وآماله أمام عينيه، حالة قتل معنوي لذاته، ومن ثمّ جاء السّرد أشبه بمنولوج حزين، لذا لا نستغرب ثورته على المغاربة الماروكان والعراقيين، الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي، وقام بإعطائهم محاضرات عن التبشيرية. وهو في الأسر كان ثمة صراع بينه وبين الضابط حول إعادة تعريف اليهودي بعيدًا عن المحفوظات التي حفظوها من “قومية وأغنيات” عبدالناصر و”عنتريات” حزب البعث. كان الضابط “نهاري” يسعى لمعرفة صورة اليهودي وفي نفس الوقت يعمل على محو الصورة القديمة، لكن المثقف الثوري رافض لكل الحيل والضغوط بالتعاون بأيّ شكل من الأشكال، فراحت الذاكرة تستدعي صور القرى المهجّرة والدماء المسكوبة والطفل المهدّد بالقتل واليهودي يستحثه بألا يخاف وهو شاهر سكينه أمامه، كتأكيد لصورة اليهودي (الحقيقية) في مخيلته، المتمثلة في اغتصاب فلسطين على يد الإشكناز الغربيين، ومن جانب ثانٍ كحيلة ينجو منها من السقوط في فخ المراوغة، ويستجيب لأسئلة المحقق البروفيسور غيدو.

محاولات الضابط “نهاري” لمعرفة رؤية الجيل الجديد وخاصة المثقفين للحرب كان غرضها الاطمئنان على ضعف الإرادة العربية، ويأس الأجيال الجديدة التي سئمت الحرب، فسياستهم هي تمكين العسكريين من ركوب ظهر العرب المطالبين بالتحرير. أثناء التحقيق معه في سجن عتليت تظهر سياسة الاستفزاز، وتلفيق الاتهامات الكاذبة التي يُمارسها أفراد جيش الاحتلال، كورقة ضغط عليه، ولكن شخصية الثوري تأْبى أن تنصاع لهذه السياسة، فلم تجد نفعًا، ويصرّ على موقفه بأنه ضابط ارتباط يعمل في قوات الطوارئ الدولية، وليس ضابطَ مخابرات يتجسس على أصدقائه كما حاولوا أن يوهموه باختلاق اعتراف وهمي من شريك له مخترع. ومن ثم ظهرت سياستهم الحقيقية في التعذيب البشع الذي مورس عليه، حيث إنزال الإنسان إلى مرتبة الحيوان. كما كشف له وجوده في سجني عتليت ومجدو عن العنصرية الإسرائيليّة التي لا تقف عند حدود تعاملهم مع العرب، بل أيضًا ثمة عنصرية مع اليهود الشرقيين؛ فالوظائف الدنيا مثل الحارس والكنّاس وغيرها هي من نصيب اليهود الشرقيين بينما يتمتع اليهود الغربيون بالوظائف العُليا.

تنتهي يوميات – سيرة الذهبي بعودته إلى دمشق، بعد الإفراج عنه من المعتقل بعد 10 شهور إثر صفقة لتبادل السجناء بين السوريين والإسرائيليين، ومع آخر مشهد تسعى الإمبريالية الصهيونية لاستغلال المشهد لصالحها، بأن تلتقط له صورة وهو يتبادل التحية مع الجنرال غانوت في مطار بن غوريون، إلا أن شخصيته الأبيّة، وذكاءه يفوّت عليهم الفرصة بأن يظهر عبر صور الصحافة العالمية وهو يحيّي فيها إسرائيل على حُسن ضيافتها، فلم يرد التحية سوى بأن أحنى رأسه ردًا على التحية.

ومع الإباء والعزة والإرادة الحرّة وقوة الشخصية التي ظهر بها أثناء فترة الاعتقال، فإنّ اللعنة الوحيدة التي طاردته كما قال الكولونيل، وكانت أشبه بنبوءة ليس للذهبي وحده، وإنما لكل الذين يؤرقهم وطنهم “نحن لن نعاقبك هنا في إسرائيل، ولكنهم حكامك ورؤساؤك من سيحاكمونك ويعاقبونك بالنيابة عنّا”، وكأنها لعنة أصابت الجميع بلا استثناء.

في الأخير، نحن أمام نص على الرغم من أنه تجربة شخصية عانى صاحبها سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وكانت ثالثة الأثافي الوقوع في الأسر لدى جيش الاحتلال، إلا أنها كشفت عن جوهر المثقف الحقيقي، ودوره المنوط به بعيدًا عن الشعارات، في خدمة مجتمعه، والدفاع عنه، حتى في أشد لحظات الضعف والاستسلام، كما كانت رؤية مبصرة على واقع مجتمع، كان أسيرًا لسياسات براغماتية، لم يكن همها إلا خدمة مصالحها، دون التفكير في مشاكل الجماهير الغفيرة، التي صارت أداة طيعة في تحقيق أحلامها، ونفوذها وسطوتها، دون أن تنال شيئًا “من ذهب المعزّ” سوى العقاب بكافة أشكاله وصنوفه.

الهوامش:

[1] للمزيد من التفاصيل حول الأطروحات التي تناولت هذه المسألة، يمكن الرجوع إلى: رشيد يحياوي “مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية”، دار إفريقيا الشرق، المغرب، ط ثانية، 1994.

[2] محمد آيت ميهوب: “الرواية السير ذاتية في الأدب العربي المعاصر”، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الأردن، ط أولى، 2016، ص 31.

[3] أوستن وارين، ورينيه ويليك: “نظرية الأدب”، ترجمة: محيي الدين صبحي، مراجعة حسام الخطيب، دمشق، د.ت، ص 308.

[4] هانس روبيرت ياوس: “جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي”، تقديم وترجمة: رشيد بنحدو، منشورات الاختلاف، ومنشورات ضفاف، دار الأمان، كلمة،تونس – الرباط – الجزائر، ط أولى، 2016، ص 55.

[5] فيليب لوجون: “السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي” ترجمة وتقديم: عمر حلّي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط أولى 1994، ص 29.

[6] يشير جورج ماي في “السيرة الذاتية” إلى التداخلات بين السيرة الذاتية والأجناس القريبة منها كالمذكرات، وكتب الوقائع، واليوميات الخاصة، والسيرة، والرواية، وإن كان يبدي فروقًا ملحوظة بين الأجناس، وأحيانًا يشير إلى انعدام الحدود الفاصلة بين الجنسين، على نحو ما رأى في تفرقته بين السيرة الذاتية والمذكرات فيقول “يندر ألا تطفو على سطح ذاكرة (أي مؤلف السيرة الذاتية) الأحداث العامة التي كان عاشها، بحيث يضطلع أحيانًا فيما يكتب بدور المدوّن لتلك الأحداث، وإن لم يكن متعمدًا” (ص 191)، ومرة ثانية يشير إلى تسرب بعض الأجناس داخل السيرة الذاتية على نحو اليوميات الخاصة، حيث تستعير السيرة الذاتية اليوميات الخاصة، راجع: جورج ماي: “السيرة الذاتية”، تعريب: محمد القاضي، وعبدالله صولة، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017، ص 223.

[7] الصادر عن دار المتوسط – إيطاليا 2019، وكل الاقتباسات الواردة في المتن، من ذات الإصدار.

[8] راجع يوميات تولستوي، 6 مجلدات، ترجمة يوسف نبيل، صادرة عن دار آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. [9]  راجع جورج ماي: “السيرة الذاتية”، مرجع سابق، ص229.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.