يومُك هو عمرُك
يقول النفّري، الصوفيّ العربيّ قليل الشهرة منذ ألف عام، إن “في الدّواء عيناً من الدّاء”. خلال السنة الأخيرة عكفتُ على ترجمته إلى الفارسية والإنكليزية مع الشاعرة والمترجمة العربية الإيرانية المتميزة، مريم حيدري، التي تعيش في طهران. عندما تراجع الأميركيون عن الاتفاق النوويّ الإيراني، وبدلاً من ذلك عزّزوا عقوباتهم الاقتصادية، كانت مريم من الأوائل الذين شعروا بالعبء، هي التي خضعت لعملية زرع الكبد قبل أربع سنوات؛ فبين عشية وضحاها ارتفعت تكلفة أدويتها عشرة أضعاف. والآن، مع بدء الوباء المنتشر بسرعة والذي حولّ إيران إلى أحد المحاور الرئيسية للمرض، كان ينبغي لحياتها أن تنحصر داخل البيت قبل حياة الآخرين بفترة طويلة.
في هذه الأثناء، واصلنا الترجمة من العربية الكلاسيكية الكثيفة بشكل مدهش للنفّري: “يومُك هو عمرُك”. أنا عالقٌ في نيويورك، وأترجم منها، غير قادر على السّفر إلى الوطن في بداية الرّبيع والسّنة الإيرانية الجديدة، ومريم في قفصها في طهران؛ بؤرتا الوباء الذي لا يعرف شيئاً عن العقوبات أو العداء الصارم بين دولتين عنيدتين.
بينما كانت أسابيع المرضِ تمرّ واحداً تلو الآخر، جلستُ وحيداً في “هارلِم”، بلا حول ولا قوة، أتابع على بُعد قارّتين، أخبارَ الأصدقاء وحبيبة سابقة علقت في قبضة الفايروس. كما هو الحال دائماً، تحوّل كلّ شيء له علاقة بإيران إلى أمر سياسي. ولفترة من الزّمن دار المشبوهون المعتادون في وسائل الإعلام في دوّامة نشاط فائق، ملقينَ اللومَ هذه المرّة على إيران من أجل نشر المرض خارج حدودها. قيل إن سوء الإدارة وعدم الشفافية لدى الجمهورية الإسلامية هما الجريمتان الأساسيّتان. وقد لا تكون هذه الاتهامات غيرَ مبرَّرة تماماً.
عموماً كانت القنوات الفضائية المعارضة في أميركا وأوروبا تبدو جذلةً في تصويرها لسوء تدبير النظام الإيراني إزاء فايروس كورونا، ومع كلّ عدد جديد للوفيات يشمت مذيعو التلفاز أكثر بفشل إيران في السيطرة على انتشار الفايروس. لذا، على أعتاب اليوم الذي كان ينبغي أن يكون أجلّ الاحتفالات للإيرانيين ولمدّة أسبوعين، أصيب كلّ شيءٍ بلَكمة مؤلمة. وكيف يمكن الاحتفال على أعقاب اغتيال جنرال عسكري إيراني بارز على يد الأميركان في بغداد، ثمّ الإسقاط الخاطئ لطائرة الركاب في طهران؟ فضلاً عن ذلك، كان ينبغي الآن أن نواجه المقابر الجماعية لقتلى فايروس كورونا والنقص الحادّ في المعدّات والأدوية بسبب العقوبات الاقتصادية.
لا عجبَ إذن أن أتلقّى من أشخاص من أنحاء الشرق الأوسط شعوراً من قبيل “تعرف الآن كيف نشعر!”، بينما يتحول الفايروس إلى تسونامي في اتجاه الغرب – أوروبا أولاً، ثمّ انفجاره في الولايات المتحدة الأميركية، لاسيما نيويورك. صديقتي الأفغانية التي كانت تصارع الحمّى وضيق التنفّس في غرفتها المنعزلة بينما كان ابنها الصبيّ ينتظر خلف بابها لمدة 26 يوماً، كتبتْ “لا يعرف الأميركان ما هو الشعور الذي ينتاب الشخصَ عندما تجمع أشلاء البشر. كنتُ أفعل ذلك طوال حياتي، غالباً ما كان ذلك بفضلهم. آمل أن ينتهي هذا الشيء هنا، وهناك، ثمّ بعد ذلك، نستطيع جميعنا في كلّ مكان أن نكون أكثر إنسانية بقليل تجاه بعضنا البعض. الأفغان أيضاً عليهم أن يقفوا في طوابير الخبز على بُعد ستة أقدام، تماماً كما يفعل الأميركان الآن”.
بالأمس، استسلم والد صديقة أخرى لي للمرض. ليس في طهران، ولا في كابول، ولا في بيروت أو بغداد، بل هنا في نيويورك. أنوي المرور تحت نافذة ريثا في وقت لاحق من اليوم، لألوّح لها. لعلّني أراها هي وأطفالها يردّون التحيةَ عليّ، مع أن النفري في انعطافاته الفريدة والرائعة يقول إن "رؤية الرؤية غيبة".
روائي إيراني أميركي، والنص الإنكليزي كتب لموقع جامعة ميتشغان والترجمة العربية خص بها المؤلف موقع ”الجديد”