يوم حافل من حياة السيد زي

استيقظ اليوم متأخرا أيضا وهو يشعر بطعم غريب في فمه. ظل يحرك لسانه حتى جمع لعابا كثيرا ثم بصقه في المغسلة فرأى ما يشبه الوحل على بياض حوض المغسلة. بصق مرة أخرى فرأى مزيدا من الوحل يخرج من فمه. مد إصبعه ولمس بصاقه فشعر بلزوجة ذرات التراب فيه. استغرب! لم يفهم من أين جاء كل هذا التراب. قرّب رأسه من المرآة وفتح فمه ليتمعن بداخله، لم يجد شيئا غريبا، لكنه لاحظ بعض التراب على شعره وعلى ملابسه. أدار الحنفية ومضمض بالماء حتى نظف فمه وحنجرته. ظل واقفا أمام المرآة وهو يحدق في وجهه دون أن يفعل شيئاً. لاحظ أن الهالات السوداء تحت عينيه أمست أكثر حلكة. فكر في الحلم الذي رآه ليلة أمس وحاول أن يتذكر شيئا منه لكنه لم يفلح. أدار حنفية المغسلة ورمى بعض الماء البارد على وجهه سريعا دون أن يستخدم الصابون ثم عاد إلى الغرفة ليغير ملابسه ويغادر.
من عاداته السيئة أنه لا يستطيع النوم مبكرا رغم ذهابه إلى الفراش قبل العاشرة وإغلاق جفنيه عنوة في انتظار أن يغرق في سبات عميق. وفي ذلك الصباح تحديدا لم يتح له الوقت أن يمشط شعره الكث أو حتى يفرش أسنانه التي بات صفها السفلي أكثر صفارا من الصف العلوي بسبب كثرة الشاي الثقيل الذي اعتاد على شربه مع تدخين السجائر الرخيصة التي باتت تغزو الأسواق في الآونة الأخيرة.
رغم أن السيد زي رجل طويل القامة وهو في منتصف الأربعينات من عمره، إلا أن هزال جسده يجعل من قوامه يبدو أطول بكثير مما هو عليه. من ينظر إلى عينيه يظن للوهلة الأولى بأنهما قد سقطتا في بئر المحجرين، فهناك مسافة شاسعة بين هاتين الكرتين الصغيرتين الغائرتين في عظمتي المحجرين، وبين العظمتين الناتئتين لخديه الذابلين.
كان عليه أن يكون في المدرسة التي كان يدرّس فيها مادة الفن للأطفال قبل الثامنة صباحا. تذكر وجوه الأطفال وأصواتهم المزعجة وقال “أقسم بأن هؤلاء الأطفال خرجوا من دُبر أمهاتهم”. انتبه إلى نفسه يقولها بصوت عال مع ضحكة خبيثة كشفت عن أسنانه الصفراء. قال الجملة نفسها ذات مرة لمدرس مادة الدين الإسلامي، وهو يشكو وقاحة الأطفال، “تعرف مُلا كريم، أقسم بأن هؤلاء الأطفال ولدوا من دُبر أمهاتهم”. لعنه المدرس الذي كان يصر على ارتداء جبة زرقاء طويلة فوق بدلته البُنية الغامقة، بعد أن استغفر ثلاثا في قلبه “ما أوسخ هذا الرجل! لماذا لا يستطيع أن يحفظ هذه الأفكار القذرة لنفسه؟ على الأقل فليقلها في سره”.
سبق أن وبّخه المدير أكثر من مرة بسبب تأخيره المتكرر: “يا أستاذ زي أرجوك أن تعالج أمورك. تتأخر كثيرا ولا أستطيع السماح بذلك بعد الآن”.
كما سبق للسيد زي أن اعتذر أكثر من مرة وهو يُنهي حججه، وهي غالبا ما تكون نفس الحجج، بالجملة ذاتها في كل مرة: “أعتذر يا سيد المدير، هذه آخر مرة أتأخر فيها، أوعدك. أنت تعرف ازدحام الطرق، السيارات أكثر من البشر. أوعدك لن أتأخر بعد الآن”.
شعر بالذل والمهانة في كل مرة تفوّه بهذه الجملة أمام المدير الذي كان قصير القامة مع كرش يشبه بالونا على وشك الانفجار، ولذلك كان سرعان ما يخرج السيد زي إلى باحة المدرسة بعد كل اعتذار مباشرة، ويقول بصوت عال وكأنه يتعارك مع نفسه التي قدمت الاعتذار قبيل دقائق: “لماذا؟ لماذا؟ ماذا يظن نفسه هذا الرجل الصغير القزم؟ لماذا يفترض بأن لديّ أمورا ومشاكل كثيرة لا تنتهي؟ أيّ مشاكل يفترضها؟ ها؟ ماذا يظن نفسه هذا التافه القزم الصغير؟”.
وبعد أن قدم اعتذاره يوم أمس إلى السيد القزم، وخرج إلى الباحة ووبخ نفسه وأطلق لماذاته الصعبة كلها بوجه السماء، قرر ألا يتأخر مرة أخرى مهما كان الثمن.
غيّر ملابسه سريعا، وقبل أن يخرج من الغرفة وقع نظره على صورة والده المعلقة على الحائط إلى جانب سورة آية الكرسي. لاحظ أن إطارها مكسور قليلا في الجانب السفلي. توفى والد السيد زي قبل حوالي خمس سنوات بسكتة قلبية. كان يدخن أكثر من علبتي سجائر في اليوم. يتذكر وبدقة تفاصيل موت والده وكأن الأمر حدث يوم أمس. يتذكر كيف وضع يده اليمنى على الجهة اليسرى من صدره وكأنه يريد إخراج قلبه من قفصه الصدري قبيل أن يسقط على أرضية الغرفة ميتا. حدث ذلك أثناء موجة غضب عارمة انتابته وهو يطلق وابلا من أقذر السباب والشتائم بحق جارهم الذي كان عادة ما يعود ليلا وهو مخمور، وينهال بالضرب على زوجته. أنهى قاموس الطويل من الشتائم ثم سقط ميتا.
يعرف السيد زي بأنه ورث هذه العادة السيئة من أبيه؛ عادة عدم قدرته على كبت الغضب، عادة ألا يستطيع كبت خيالاته وأفكاره وقولها في سره. كان والده كثير الكلام، لم يستطع طوال السنوات السبع والسبعين من عمره أن يكبت جملة واحدة ليقولها في داخله. كان دائما يتفوّه بصوت عال بكل ما يخطر على باله مهما كان قبيحا أو غريبا دون أن يفكر إذا ما كان يتفوه به مقبولا من محيطه أو لا. فهو لم يكن كالأسوياء من البشر العاديين الذين يشتمون ويكفرون ويلعنون في دواخلهم، ويتخيلون أقسى وأقذر الخيالات والأفكار في سرهم دون أن يفضحوا كلمة أو فكرة واحدة. ولهذا كان والد السيد زي كثيرا ما يهلوس وبصوت عال بأشياء في غاية الغرابة، بل وبأمور مرعبة في بعض الأحيان. فمثلا تحدث ذات مرة مطولا حول كيفية قلع رأس أم السيد زي بيديه العاريتين “لفُ رأسها قليلا ناحية اليسار أولا، ثم جرّه سريعا وبكل قوة حتى ينقلع من الرقبة”. ثم استمر في الكلام عن تنظيف الرأس من الدم ووضعه بعد ذلك فوق الطاولة في مكان المزهرية. كما يتذكر السيد زي حين كان صغيرا لا يتعدى عمره عشر سنوات أن والده تحدث ذات مرة بحرقة وعصبية عاليتين حول كيف يرغب أن يركب الرئيس كما يركب المطي ويدور به في السوق حتى يصل إلى الساحة العامة في المدينة، وهناك يركبه أمام تمثاله الكبير وأمام الملأ مرة تلو الأخرى “أركبه وأركبه وأركبه حتى يتمزّق الرئيس إلى قطعتين من فرط الركوب”. يتذكر السيد زي صراخ والده الهستيري وهو يصرخ “أركبه”، مما دفع بأم السيد زي إلى أن تركض سريعا إلى الغرفة وتبدأ بالصراخ والصياح حتى لا يسمع الجيران ما كان يهلوس به الأب من أمور تؤدي حتما إلى إعدامه.
الشيء الذي جعل الأمور التي كان يقولها والد السيد زي غريبة ومرعبة، بل ومقززة، هي أنه كان يقولها بصوت عال، لأنه كان غير قادر على كبتها في دواخل نفسه. لكن لو دققنا في الأمر قليلا نجد أن هذه الأشياء عادية جدا إذا ما ظلت في إطار المخيلة وطي الكتمان وقيلت في السر دون أي صوت. فالكثير من البشر يقولون أمورا أكثر غرابة وقذارة ورعبا، لكنهم يقولونها في السر. إنهم مرضى يتخيلون ويفكرون في سرهم العميق المظلم بأقذر وأبشع الأفكار، لكنهم جبناء لا يجرؤون على الإفصاح عنها. فمثلا، من منا لا يفكر في بعض الأحيان في قلع رأس زوجته؟ أو في إشعال النار في بيت الجيران أو هدمه على رؤوسهم بسبب أصواتهم وشجارهم العالي في آخر الليل؟ أو وهذا هو الأهم، من منا لم يكن يود الانتقام من الرئيس الذي كان يخافه الجميع بركوبه مرة تلو الأخرى حتى كان يتمزق إلى ألف قطعة، نعم ألف قطعة.
انتبه إلى نفسه عند تفوهه بعصبية “نعم، ألف قطعة” وهو يحرك يديه بتوتر. عاد إلى وعيه وأطلق آهة عميقة وهو يبعد نظره عن صورة أبيه. ألقى نظرة على ملابسه وهو يضغط ويمرّر بباطن يده على قميصه الأحمر الذي تحوّل إلى برتقالي باهت من كثرة اللبس، متمنيا أن تختفي تجاعيده الكثيرة. كما وبهت بنطلونه الأسود الذي يرتديه يوميا ليصبح رصاصيا أقرب إلى لون مياه عكرة وسخة من كثرة الاحتكاك بساقي السيد زي الطويلتين وشديدتي النحول.
خرج السيد زي من بيته متجهم الوجه كعادته، أغلق الباب الحديدي وراءه وهو عازم على ألا يتأخر بعد اليوم أبدا. كان ذلك في صباح خريفي غائم من الأيام الأخيرة لشهر أيلول.
سار بضعة خطوات نحو موقف الباص، فجأة توقف في وسط الشارع وانحنى على حذائه الأيسر ليشد رباطه وهو يهمهم بشيء لم يفهمه حتى نفسه. أخرج الهاتف النقال من جيبه ونظر إلى الساعة التي كانت تشير إلى السابعة والنصف. التفت يمينا ثم يسارا، كان هو الوحيد الذي يقف هناك وينتظر الباص.
بعد دقائق ظهرت امرأة وهي تخرج من إحدى الحارات الضيقة في الشارع المقابل، حاول السيد زي التركيز على وجهها وهي بعيدة، لكن سرعان ما حجبها موكب سيارات سوداء مرت سريعة. رآها من جديد بعد مرور الموكب وهي تعبر الشارع متجهة إلى حيث يقف. كانت تلبس قميصا أزرق مع تنورة سوداء طويلة وعلى رأسها غطاء يخفي شعرها. لم يعرها أيّ أهمية حين وقفت بالقرب منه، لكنه حاول أن يفكر في شعرها تحت الحجاب ويتخيل لونه. يا ترى هل هو قصير أو طويل؟ أسود أو أشقر ذهبي مثل شعر الممثلات الفاتنات اللواتي…
“هل فاتني باص رقم ٤٧؟” سألته المرأة على عجالة دون أن تلقي عليه التحية.
“ماذا؟”.
” الباص! باص رقم ٤٧، هل جاء وذهب؟”.
“لا أعرف. لم أر أي باص”. قالها بشكل بدا وكأنه منزعج من إخراجه عنوة من تخيلاته.
“أثول!” تمتمت المرأة بصوت خفيض وهي تبعد نظرها عنه. “أسود أو أشقر ذهبي مثل شعر الممثلات” أكملت جملتها بنبرة تقليد وسخرية ثم ابتعدت عنه.
وصل إلى المدرسة بعد الثامنة بدقيقتين وهو يلهث من الركض. “مدة دقيقتين لا تعتبر تأخيرا” قال لنفسه بصوت عال. كان المدير يتجول في الممر الرئيسي ويراقب سير الأمور.
“كلا، دقيقتان لا تعتبران تأخيرا أستاذ سيد زي، لكن إياك أن تكررهما” رد عليه المدير بلهجة تحذيرية صارمة.
لم يكن لديه الوقت الكافي ليهرع إلى الحديقة ويرمي بكل ما في ذهنه من سباب وشتائم وتخيلات قذرة عن المدير، ولهذا هشَّ كل أفكاره السوداء كما يهش ذبابة وسخة. أصابه الغثيان وهو يمضي إلى الصف حين عاوده الشعور بطعم الوحل في فمه. كانت ضوضاء الأطفال وصياح المدرسين وهم يدفعونهم إلى الصفوف يزيدان من شعوره بالغثيان، فهرع إلى الحمامات خشية أن يتقيأ في الممر. بدأ يحرك لسانه ويجمع اللعاب ويبصق الوحل. كرر العملية هذه عدة مرات حتى صفا بصاقه من التراب. تمعن في المرآة فاكتشف ذرات تراب على شعره وياقة قميصه، نفضه عن نفسه ومضى إلى الصف.
ناقشه أحد الطلاب في الصف حول جدوى دراسة الفن، بل وجدوى الفن في المجتمع والحياة بشكل عام. كان طفلا ضخم الجثة يحرص باستمرار على الجلوس على المقعد الأمامي. سأله بصوت مزعج أقرب إلى الصراخ “لماذا يضيعون وقتنا بدراسة الفن ويجبروننا على رسم “الشخبطات؟”.
بينما كان السيد زي يحاول أن يستوعب السؤال سمع صوتا أشبه بضربة ما، نظر إلى اليسار نحو النافذة فرأى طيرا صغيرا على حافتها وهو يضرب بجناحيه محاولا الطيران. يبدو أن الطائر كان قد ارتطم بزجاج النافذة وسقط على حافتها. هاج الطلاب دفعة واحدة، لكن وقبل أن تصل الأيادي الممدودة لعدد من الطلاب إلى النافذة، استعاد الطائر قوته على الطيران واختفى سريعا.
“ماذا كنت تسأل؟” قال السيد زي للطفل ضخم الجثة بنبرة هادئة.
“لماذا نُجبر على دراسة الفن؟” قال الطفل الذي يحرص على الجلوس باستمرار على المقعد الأمامي رغم أنه يعرف أنه يحجب السبورة على الطلاب الذي يجلسون في الخلف.
لم يكن السيد زي متهيئا لسؤال الجدوى، فمثله لا يفكر في الجدوى بقدر ما يفكر في عدمها. وقف صامتا بضع ثوان، شعر بأن رأسه خالٍ من أيّ فكرة قد تسعفه حول جدوى الفن، بل جدوى الحياة بشكل عام.

“هل تحب الهمبركر؟” سأله السيد زي.
“أموت عليه!” رد عليه الطفل، مما دفع بالجميع إلى الضحك.
“طيب. تخيل الحياة هي الهمبركر، والفن هو الصلصلة والتوابل التي نضعها عليه” قال السيد زي.
“أموت على الصلصة والكتشب والمايونيز وكل شيء على الهمبركر” صرخ الطفل وهو يضرب مقعده بكلتا يديه مثل مجنون.
“اسمع، اسمع، بالتأكيد ليس ضروريا أن تدرس الفن أو تمارسه أو تحبه بالرغم من أنه يعتبر من الضرورات القصوى لتربية الذوق البشري وإنعاش عقله. أدرس الطب أو القانون يا ابني أحسن لك”. قال السيد زي ذلك بلهجة رزينة واتجه نحو النافذة. فتحها وشعر بذرات من الغبار تتطاير من على وجهه حين لامسه الهواء.
“لكن ما جدوى العقل؟ ها؟ لا جدوى أبدا. صحيح؟ وأنت ما جدواك؟ أنت كُلك ما جدواك ونفعك؟ ها؟”.
ومع الكلمة الأخيرة “ها” التي خرجت منه كصرخة وجد السيد زي نفسه أمام الطفل السمين وسبابة يده اليمنى مرفوعة أمام وجهه. ضحك جميع الطلاب إلا هو الذي وضع رأسه بين يديه وأجهش بالبكاء.
خرج السيد زي من المدرسة ظهرا بعد الانتهاء من الدوام وسار مسرعا إلى موقف الباص القريب. وبينما كان ينظر إلى واجهة المحلات اللامعة والبراقة كاد يصطدم بكلب سائب ضخم اعترض طريقه فجأة ووقف أمامه مباشرةً. باستثناء الجزء الأعلى من رأسه الذي كان أبيض يميل إلى الصفار، كان لون الكلب أسود غامقا وكأنه كتلة من ظلام دامس. نظر الكلب إليه ثوانٍ ثم جثا على مؤخرته عند قدمي السيد زي ولسانه يتدلى من بين شدقيه الغليظين. وقف السيد زي في مكانه دون أيّ حراك ودون أن تظهر عليه أيّ علامات دهشة من الاعتراض المفاجئ لهذا الحيوان الغريب لطريقه، يراقب هو الآخر عيني الكلب الذي كان يلهث سريعا ولعابه يتساقط على إسفلت الشارع. ظل الاثنان يحدقان في عيني بعضهما وكأنهما يتسابقان حول من يستطيع الاستمرار في النظر فترةً أطول من دون أن يرف جفنه. استمرا هكذا فترةً لم يشعر السيد زي فيها بمرور الوقت. في تلك الأثناء شعر السيد زي بذرات من التراب تدخل فمه وعينيه بعد هبوب ريح ترابية، لكنه ظل واقفا وهو يركز نظره على عيني الكلب الجالس أمامه. بدأ المارة ينتبهون لوضعيتهما الغريبة. تباطأت السيارات على الشارع العام بينما أخرج السوّاقون رؤوسهم من النوافذ ينظرون إليهما. بدأ بعض الشبان بإخراج هواتفهم النقالة وتصويرهما. هز بعضهم بيده وهو يلقي نظرة الشفقة على هذا الرجل الواقف أمام كلب جاثم على مؤخرته، بينما كان الآخرون يضحكون ويصيحون ويستهزئون به ويطلقون كل أنواع الشتائم عليه.
فجأة بدأ الكلب يعوي بصوت خفيض أقرب إلى الأنين منه إلى العواء، ظل السيد زي جامدا في مكانه كتمثال من الصخر يراقب الكلب وكأنه يخشى أن يفوته شيء. لم يبدُ عليه أنه يلاحظ ما يدور حوله، كما لم يبدُ عليه أنه ينتبه إلى أن بعض أصحاب المحلات التجارية القريبة أخرجوا الكراسي ليجلسوا عليها ويتفرجوا كما يتفرجون على عرض سيرك. كان جل تركيزه منصبا على عيني الكلب الذي كان مركزا بدوره على عيني السيد زي. شعر باشتداد العاصفة، ورغم كثافة التراب في الجو، كان السيد زي لا يزال قادرا على رؤية عيني الكلب بوضوح.
فجأة هز الكلب رأسه مرتين وهو يومئ للسيد زي بأن ينحني عليه.
رغم عدم وضوح الرؤية بسبب التراب في الجو، فإن أحد أصحاب المحلات شعر بأنه يرى السيد زي قد بدا خفيفا تحركه الريح، يرتفع جسده من على الأرض قليلا ثم يهبط، لكن ما إن تطأ قدماه الأرض حتى ترتفعان من جديد. أصاب الرجل الجالس الذعر، ففرك عينيه، أغمضهما وفتحهما، وبدأ يحرك الهواء بيديه وكأنه يمسح نافذة مغطاة بالبخار، وركز عينيه على السيد زي. شعر من جديد بأن السيد زي يتمايل في الهواء بفعل الريح مثل غصن شجرة ضعيفة. نظر إلى رجليه فرآهما مرتفعتين قليلا بحوالي شبر عن الأرض. أصدر الكلب صوتا أقرب إلى النشيج وهز رأسه مرة أخرى وهو يومئ للسيد زي بأن ينحني عليه. لكن بدلا من أن ينحني على الكلب، التفت السيد زي إلى الخلف وكأن أحدهم ناداه من بعيد، لكنه لم يرَ غير أبيه جالسا نصف عارٍ على فراش من القش بدا لونه كالذهب وهو يدخن. فتحت أمه الباب ودخلت الغرفة وجلست إلى جانبه. ظلا جالسين ينظران ناحية النافذة التي كانت تطل على الحديقة من دون أن يتبادلا كلمة واحدة.
“تأخر الوقت كثيرا، لنذهب” قالت أم السيد زي أخيرا. كان المصباح المتدلي من سقف الغرفة يبعث ضوءا شاحبا كئيبا في الجو بينما الأب منشغل بتأمل خيوط الدخان الذي يخرج من فمه مع كل نفس لسيجارته.
“تأخر الوقت” كررت المرأة الجالسة التي كانت تلبس ثوبا أسود طويلا.
“أعتقد بأنني رأيت حلما ليلة أمس” قال الرجل الجالس بجانب المرأة، والذي كان يراقب خيوط دخان سيجارته، “أظن بأنني كنت أجلس بجانب كلب بدا وكأنه يحاول أن يفشي لي سرا. جَثا عند قدميَّ أمام الناس وظل يومئ لي برأسه. لكنني لم أكن أنا نفسي، كنتُ..”.
“الوقت متأخر” قالت المرأة التي كانت تجلس مثل الحجر على فراش من القش وتلبس ثوبا أسود وكأنها في حداد.
“لطالما كان الوقت متأخرا بالنسبة إلينا نحن الاثنين” قال الأب. ظلت زوجته صامتة.
أشعل سيجارة أخرى، أخذ نفسا عميقا ثم أطلق الدخان باتجاه المصباح الأصفر، وسار نحو النافذة.
“كان هناك أناس كثيرون، وكان الكل ينظر إليّ!” قال الأب، ومن رهبة الصمت الذي كان يخيم على البيت خُيّل إليه وكأنه يسمع صوت تلاطم دخان سيجارته، الذي بدأ يغطي الغرفة كلها. أزاح الستارة، ونظر في الظلام الذي كان يخيم على الحديقة.
“مزعج هذا الصمت” قالها وهو لا يزال ينظر إلى الظلام.
“ماذا قال”؟ سألت المرأة التي بدت وكأنها تهم بمغادرة الغرفة.
“مَن؟” التفتَ الرجل إليها لكنه لم يجدها.
شعر السيد زي بتشنج مفاجئ في عنقه. لم يعرف منذ متى وهو يلتفت برأسه إلى الوراء لكي يتعرف على مصدر الصوت الذي شعر وكأنه يناديه. استرخى قليلا وهو يحرك رأسه يمينا ويسارا لكي يريح عضلات عنقه. شعر بالعاصفة الترابية تشتد وتحجب رؤية الأشياء. رفع يده اليمنى ولمس وجهه فشعر بشيء لزج على خديه وتحت عينيه وكأن دموعه امتزجت بالتراب فأصبحت ما يشبه وحلاً. أدار السيد زي رأسه إلى الأمام ورأى عددا من الأطفال يلعبون كرة القدم في الحي تحت شمس الظهيرة التي كانت تلسع بشرتهم. بدا كل شيء أليفا له في تلك الظهيرة إلا ضجيج العويل والصرخات التي تأتي من البيت الذي يقع في آخر الحي. شعر السيد زي بأن قدميه تأخذانه إلى ذلك البيت القديم. يتذكر أو يرى بأن للبيت بابا حديديا أخضر مع ثلاث دوائر حمراء في منتصفه. انتبه إلى أنه يسير حافي القدمين وهو يبكي بصوت عال من دون أن يعرف لماذا. يسير وحيدا الآن تحت المطر في الظلام بعد أن ترك الأطفال وراءه يستمرون في لعبهم. كلما اقترب من البيت زادت أصوات العويل وصرخات البكاء التي تشق عنان السماء. جلس وحاول أن يحتمي بالجدران وهو يضغط بكلتا راحتي يديه على أذنيه، لكن أصوات القنابل ودوي الانفجارات كانت تزداد شراسةً. حين وصل إلى البيت ووقف أمام بابه كانت الأصوات قد اختفت، لكنه شم رائحةً غريبةً أشبه بالبصل المحروق. دفع بهدوء الباب الحديدي الأخضر الذي كان مفتوحا فرأى أباه يدخن في الحديقة وهو نصف عار.
“ماذا قال لك؟” سأل الأب.
“من؟” تفاجأ السيد زي بسؤال ابيه.
“الكلب الذي أوقفك في السوق!” أجاب الأب وهو ينفث الدخان في الهواء.
“كان هناك أناس كثيرون، وكان الكل ينظر إليّ!” قال السيد زي وهو يقف عند الباب من دون أن يدخل إلى باحة البيت. كان الأب يقف في منتصف الحديقة ينفث دخانه في الظلام، شعر السيد زي وكأنه يسبح في الهواء فنظر إلى الأرض ليكتشف بأن قدميه مرتفعتان قليلا، تمسك بالباب خشية أن يسقط.
“أليس الوقت متأخرا يا أبي؟” أضاف السيد زي وهو لم يزل ينظر إلى قدميه اللتين تعومان في الهواء.
“متأخر؟ على ماذا؟” قال الأب ساخرا، ثم تربع على أرضية الحديقة وكأنه ينتظر شخصا “اسمع، حين يأتي الوقت متأخرا، فهو عادة ما يلبس عباءة سوداء، ويخفي وجهه تحت نقاب ما حتى لا يرى أحد شعور العار الذي يحمله”. لم يفهم السيد زي شيئا مما قاله الأب. فجأة شعر بطعم غريب في فمه، حرك لسانه وجمع لعابا كثيرا وبصقه على الأرض. حاول أن ينظر إلى ما بصقه لكن لم يستطع تمييزه في الظلام.
نظر إلى أبيه وأشفق عليه. لم يره يوما سعيدا أو يضحك أو يلقي نكتةً. كان السيد زي يقول دوما إن أباه ولد غاضبا عاقد الحاجبين، غاضبا من نفسه ومن العالم كله.
“هل تنتظر أحدا؟” سأل السيد زي أباه، لكنه تفاجأ بنفسه يجلس متربعا أمام الكلب ووجهه يكاد يلتصق بوجهه. كان الكلب لا يزال يلهث، ولسانه يتدلى من فمه وهو ينظر في عيني السيد زي.
حين عاد السيد زي إلى البيت في عصر ذلك اليوم كان بالكاد قادرا على جرِّ قدميه بسبب شعوره المفرط بالإنهاك، رغم أنه لم يفعل الشيء الكثير اليوم. سعلَ عدة مرات فسقطت ذرات التراب بكثافة من رأسه. جلس مقابل صورة أبيه المعلقة على الحائط إلى جانب سورة الكرسي.
على النقيض من الأيام الصاخبة الأخرى، كان هناك هدوء غريب يخيم على الأجواء. أرخى السيد زي سمعه، لكنه لم يسمع ضجيج أبواق السيارات وأصوات الباعة المتجولين وصياح الأطفال في الخارج. شعر بطعم الوحل في فمه، لكنه أكثر كثافةً ومرارةً هذه المرة. نظر إلى صورة أبيه وحاول أن يقول شيئا، لكنه شعر وكأنه يحرك جبلا بين فكيه من ثقل الوحل والطين. ظل يقلب لسانه الثقيل يمينا ويسارا وهو يصدر صوتا مزعجاً. حاول أن ينهض ليذهب إلى الحمام، لكنه استمر في التحديق بالصورة المعلقة على الحائط وهو يفكر في الكلب الأسود الضخم الذي اعترض طريقه فجأة ثم اختفى، في السيد المدير القزم الذي حذره للمرة الألف من التأخر على دوامه في المدرسة، في الطالب السمين الذي سأله عن جدوى الفن، في الطائر الصغير الذي ارتطم بالنافذة وسقط على الحافة، في المرأة التي سألته عن الباص ثم نعتته بالأثول، وفي الطين المُرِّ الذي يجترُّه الآن ويبلعه قليلا قليلا.