‏هواء الكلمة الحرة ورئة الأدب

سبع سنوات من المغامرة المفتوحة على الحرية
الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: حسين جمعان

سبع سنوات منذ أن انطلقت “الجديد” لتكون منبراً أدبياً عربياً جامعاً يرد الاعتبار للتقاليد العريقة التي درج عليها صناع المجلات العربية، من بواكير النهضويين في نهايات القرن التاسع عشر، وحتى مغامرات الحداثيين بدءاً من مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وصولاً إلى اللحظة الحاضرة، وذلك في إطار سياق ثقافي ما فتئ يجدد توقه إلى تحديث لغة الأدب، وتحرير المخيّلة، وإطلاق حرية التفكير والتعبير، عبر نشريات ودوريات ومنابر لطالما خرجت إلى النور بفعل جهود شخصية، غالباً، لمغامرين حملوا على عاتقهم مهمة مواجهة هيمنة السياسي على الثقافي، والفكر الأبوي المتسلط على الحياة الثقافية، وتقديم الأصوات والتجارب الأدبية والنقدية الجديدة وتمكين أهل الفكر من تجديد أسئلة الثقافة.

ولدت “الجديد” وفي عزم الأقلام المبدعة والمفكرة التي التفَّت من حولها طرح الأسئلة الأصعب، وتحرير مساحات من الوعي العربي بالذات، والتوجه إلى الفئات الأوسع المتمثلة بالشباب، الذين وجدوا أنفسهم في صدام مع ثقافة الاستبداد والنكوص الحضاري المعبرة عن البنى المجتمعية القديمة المتكلسة والمتصلبة والمتشبثة بوجودها المعادي للحركة نحو المستقبل وتطلعات الأجيال الجديدة، إلى حد ارتكاب الجريمة الجماعية، وتسيير أنهار الدم في الشوارع.

ومادمنا نتحدث في أطوار المنبر الثقافي وأدواره، فقد خاضت “الجديد” على مدار سبع سنوات، غمار تجربة متجددة لتقديم ترجمة عملية لما وعد به بيانها التأسيسي المنشور في عددها الأول تحت عنوان “منبر عربي لفكر حرّ وإبداع جديد”، فما إن صدر عددها الأول، حتى وجدت المجلة نفسها في قلب معركة شرسة عنوانها الأبرز كسر الحواجز بين الأجيال، وحض الكاتبات والكتاب على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم على مغادرة خنادق العزلة والتناكر بين الأجيال الأدبية المختلفة (وهو ما حكم العلاقات بين الكتاب والمثقفين في ظل خلل اجتماعي وسياسي مزمن، وهيمنة للفكر الأبوي لم تتخلص من تبعاتها حتى التيارات التحديثية) واستبدال ذلك بخوض حوار تتشارك فيه أجيال الثقافة يقوم على احترام الاختلاف، والتفاعل بين عناصره، ولا ضير في أن يكون ذلك من خلال منظور نقدي. بل إن هذا المنظور هو أحد شروط اللقاء والحوار والتفاعل، كما أكدت التجربة.

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

ولقد تبلورت خطة المجلة وعبّرت عن نفسها من خلال ملفات فكرية وأدبية متعددة أثارت نقاشاً في طيف واسع من الموضوعات والظواهر والمشكلات والقضايا الشاغلة للثقافة وللكتاب والمثقفين العرب مشرقا ومغرباً، وفي المهاجر والمنافي والأوطان، فلم يخلُ عدد من أعداد “الجديد” على مدار الأعوام السبعة من الصدور المنتظم من ملف مبتكر يتصدى لقضية فكرية أو نقدية أو أدبية، ويفتح فيها ومن حولها باب النقاش والسجال.

ولعل نظرة على أغلفة “الجديد” وفهارسها كفيلة بالكشف عن ذلك الثراء الذي تحقق لملفات “الجديد”، وتلك القيمة الفكرية والإبداعية الرفيعة للكتابات التي نشرت على صفحاتها، والأسئلة المهمة التي أثارتها وشملت جلّ ما شغل ويشغل الثقافة العربية المعاصرة، وما أخذ يمور ويعتمل في نفوس أهلها، ناهيك عن القيمة الاعتبارية للأسماء التي تشاركت في صناعة المحتوى الفكري والجمالي للمجلة وتمثلت في أقلام راسخة وأخرى جديدة تجاورت وصنعت لحظة “الجديد” بفعل جدارة ما لديها من فكر مضيء وأدب مبتكر.

ولا يمنع ما سلف من الاعتراف بأن دعوة حملة الأقلام العرب إلى الحوار والسجال على صفحات “الجديد” لم تكن سهلة، بل كانت وما تزال شاقة إلى أبعد الحدود، كلما كانت القضية المطروحة حساسة وتستدعي ضرباً من الجرأة في التناول، ناهيك عن وجود أسباب وعوامل شتى، جعلت فئات واسعة من حملة الأقلام معرضين عن التفاعل في ما بينهم، ومؤثرين الاكتفاء بنشر نتاجاتهم، وتجنب إبداء الرأي في نتاجات أقرانهم، أو محاورتهم في أفكارهم. ولكم وجدت نفسي أطرح فكرة في ملف، وأدعو إلى الكتابة فيها، ثم أحمل بعض تلك الاستجابات وأحرّض كتابا آخرين على التشاكل النقدي معها، ثم أقوم بنشر هذا وذاك من رأي ورأي مختلف في العدد نفسه، آملاً أن يثير هذا التجاور النقدي بين الفكرة والفكرة المختلفة تفاعلاً من نوع ما يثير في عدد لاحق نقاشاً أوسع تشارك فيه مجموعة أخرى من الأقلام. وعندما لا يحدث شيء من هذا التوقع، على رغم أهمية الفكرة ووجاهة الدعوة إلى الحوار، ويبقى بريد المجلة صامتاً، أتقدم خطوة وأحمل المقالتين إلى عدد من الكتاب وأحضّهم على التشاكل مع الأفكار المطروحة، وإذ أطلب الأكثر وأفوز بالأقل، أنشر ما فزت به في عدد لاحق، لأكتشف بعد ذلك أن المسألة بقيت في هذه الحدود، فثمة عطل ما في العجلة نفسها، فهي لا تدور من تلقاء نفسها، ولا تفعل إلا بفعل فاعل وبعد جهد جهيد، ولا يعقل أن يظل محرض يدفع العجلة بمفرده حتى نهاية الشوط، من دون أن يبدو الأمر ضرباً من الفعل القسري الذي لا رجاء حقيقياً فيه، ما دام لن ينتج ما يمكن أن ينتجه تفاعل حر!

لا أخفي على قارئ هذه الكلمة ما خامرني من يأس في لحظات العسر، بينما كنت أتصرف كمحرر يطمح إلى أن يجعل من “الجديد” موئلاً لحوار ثقافي عربي غير مسبوق، ومن ثم لا أنجح في تحقيق ما هو أكثر مما يحققه اشتعال عود ثقاب، ما يلبس أن ينطفئ. ولكم بدوت لنفسي في مرات دونكيشوتاً يسعى لاستعادة ما يبدو كما لو أنه تقليد فات زمنه ولا سبيل إلى استعادته.

على أن إحجام أهل الفكر والأدب عن التفكير، مجرد التفكير في ضرورة الحوار لطالما بدا لي تعبيراً عن نوع غريب من التقوقع على الذات والاكتفاء المرضي بما لديها، وعن يأس، ربما، من الآخر، وشكّ في الذات أيضاً، محمول على خوف من أن يقحمها الحوار في امتحان يعرّي أعماقها، ويكشف عن خلل تستشعره ولا تقوى على مواجهته. ولكن هل يمكن لثقافة أن تحقق تطلعاتها وتنجح في تحقيق ما تصبو إليه من دون الخوض في مراجعة نقدية مفتوحة على كل شيء؟ واحدة من أهم النقاط التي وردت في البيان التأسيسي لـ”الجديد” تتعلق بحاجة ثقافتنا العربية إلى إعمال الفكر النقدي وإجراء مراجعات لجملة من الأفكار والموضوعات والظواهر والقضايا الشاغلة.

سبع سنوات من البحث والعراك، ومن الطواف بقنديل يضيء على الجغرافيا العربية المتأرجحة بين الظلام والحريق، سبع سنوات من طرح الأسئلة الجارحة والحارقة والمثيرة للغضب، سبع سنوات من البحث عن الأجوبة، ومن عدم الركون لإجابة قاطعة، سبع سنوات من تفكيك السؤال وتقليب الجواب، بحثا عن بصيص الضوء في نهايات النفق. سبع سنوات من محاربة اليأس بقوة الأمل، ومن الحض على كتابة تقرأ الحاضر لتفتح بقوة الكلمة طريق المستقبل. سبع سنوات من الحلم بالجمال المختلف، ومن الإيمان بحرية المخيلة، من سؤال الكاتب عن ذاته العميقة، من تحريضه على تعرية ذاته، من الدعوة المفتوحة للنزول إلى نهر الكلمات والتطهر بنضارة الكلمة. سبع سنوات من الدعوة إلى الشهادة على العصر وترك رئة الأدب تتنفس هواء الكلمة الحرة.

وما كان لهذه المغامرة أن تتواصل، ولهذه التجربة أن تواجه زمنها الصعب، وتصمد في وجه الرياح العاتية التي عصفت بجغرافياتنا العربية وبالحرائق التي اشتعلت، والزلازل التي ضربت كل أرض، ما كان لـ”الجديد” أن تتغلب على عقبات الطريق، لولا تلك الفئة الرائعة من الكتاب والمبدعين الحالمين من شعراء وروائيين ونقاد ومفكرين ورسامين رفدوا “الجديد” بثمرات عقولهم وأرواحهم، وجعلوا من مطلع كل شهر موعدا لمحبي الأدب مع الجديد، وأخص هنا بالتحية القارئات والقراء الذين انتظروها؛ “الجديد”، بشغف عبّروا عنه بطرائق شتى. وكان هذا الشغف وذلك الانتظار مع كل شهر مصدر إلهام لأهل الفكر والأدب والفن، ولكلّ من أغنى “الجديد” بفكرة جديدة وإبداع مبتكر.

وإذ أشير إلى أهل الكلمة وأرباب الفكر، فلا ينبغي أن أمر عفواً عن المبدعين بالريشة، الذين شكلت رسومهم الفضاء البصري الباذخ للمجلة، ومثّلت إبداعاتهم معرضاً دائمأ لجديد الفن التشكيلي على صفحات “الجديد”، وفي هذا السياق أخص بالإشارة الفنان التشكيلي ناصر البخيت الذي بذل جهوداً جبارة ليجعل من صفحات “الجديد” جمالا خالصاً، عبر صيغة إخراجية ذكية واءمت بين الكلمة المجردة والإبداع البصري، كفلت للمجلة تميزاً لها عن سائر المطبوعات العربية.

ما سلف ليس جردة حساب، ولكن إشارات سريعة إلى رحلة “الجديد” في سنواتها السبع المنصرمة، وتجديد للتعاقد المفتوح على المغامرة بين المجلة وكتابها والمجلة وقرائها على امتداد العالم العربي.

 

يجدر بي أن أؤكد على أن المغامرة مستمرة بالكوكبة الرائعة من الكاتبات والكتاب والفنانين المبدعين الذين جعلوا للكلمات أجنحة ملونة،  المقيمين منهم مع كل عدد والمترددين على المجلة من عدد إلى آخر،  وبمستشاري  تحرير المجلة، الأساتذة: أحمد برقاوي، أبو بكر العيادي عبد الرحمن بسيسو، خلدون الشمعة، بيرسا كوموتسي، ابراهيم الجبين، رشيد الخيون، هيثم حسين، مخلص الصغير، فرانشيسكا ماريا كوراو، مفيد نجم، محمد حقي صوتشين، وائل فاروق، عواد علي، شرف الدين ماجدولين. فالاعتزاز بهذه الأسماء التي شاركت بأفكارها واقتراحاتها وكتاباتها في ظهور واستمرار “الجديد” في الظهور، لا يكفي، وإنما التقدير الكبير لهم لكونهم يرفدون المجلة بثمرات عقولهم وأرواحهم، معتبرين “الجديد” بيتهم الأدبي والفكري، وندوتهم الشهرية.

ختاماً لابد أن أرد الفضل إلى صاحب الفضل، الصديق العزيز الدكتور هيثم الزبيدي الذي لولاه، ومن موقعه على رأس مؤسسة “العرب”،  لما كان لهذا الحلم بمنبر ثقافي عربي جامع أن يصبح حقيقة بصدور العدد الأول من المجلة صبيحة يوم الأول من فبراير2015 وقد وفر لـ”الجديد” كل أسباب الصدور المنتظم، وكتب الصفحة الأخيرة في كل عدد، حتى اليوم، ونحن في صبيحة يوم الأول من فبراير 2022.

لندن في 1 شباط/فبراير 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.